موسوعة الأديان

المبحث الرابع: بشرية عيسى- عليه السلام- وعبوديته من خلال القرآن والأناجيل:


ينقسم هذا الموضوع إلى الفقرتين التاليتين:
أ- بشرية عيسى عليه السلام وعبوديته من خلال القرآن:
أخبر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم أن عيسى عليه السلام عبد من عبيد الله، كما قال تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ [النساء: 172] وكما قال تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً [مريم: 30] يقول ابن كثير: (أول شيء تكلَّم به أن نزَّه جناب ربه تعالى وبرَّأه عن الولد، وأثبت لنفسه العبودية لربه). وقد جاء في آيات أخرى قوله: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة: 117] وقوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [مريم: 36] فهو إنسان مخلوق خلقه الله سبحانه وتعالى كما خلق آدم من تراب، قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] وكما قال تعالى على لسان مريم: قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 47] فعيسى - عليه السلام - ولد لمريم، خلقه الله ووهبه لها، كما قال تعالى: لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً [مريم:19] فهو ولد لمريم مخلوق، وليس بإله ولا ابن إله، فنسبه بشري عائد إلى أمه، فهو في القرآن الكريم: المسيح عيسى ابن مريم بنت عمران من بني إسرائيل، ومن ذرية إبراهيم، ومن ذرية نوح، وقد حملت به والدته كما أراد الرحمن - سبحانه وتعالى - من أم بلا أب، ووضعته بعد مخاض، وجاءت به قومها تحمله فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً [مريم: 29] ، وكان يأكل الطعام هو وأمه كما قال تعالى: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة: 75] بكل ما يعنيه ذلك من حاجة للطعام ولإخراجه والنمو والتحول من حال إلى حال، وهو كما خلق من تراب بعد أن لم يكن شيئاً، وولد بعد أن كان جنيناً، واكتهل بعد أن كان صبيًّا، فسوف يموت بعد نزوله في آخر الزمان، ثم يبعث حيًّا، كما قال تعالى على لسان عيسى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً [مريم:33] فهو إنسان يطرأ عليه ما يطرأ على أمثاله من البشر من عوارض. وهو عبد من عباد الله. خلقه الله سبحانه وتعالى من أم بلا أب آية للعالمين، ومثلاً لبني إسرائيل. كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون:50] وكما قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ [الزخرف:59] كما أوصاه الله سبحانه بعبادته مادام حيًّا، كما قال تعالى على لسان عيسى: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً [مريم:31]
فمحكم القرآن يدل على أن عيسى عليه الصلاة والسلام إنسان مخلوق، خلقه الله سبحانه وتعالى كما شاء واقتضته حكمته، وهو عبد من عباد الله الذين أنعم الله عليهم، ولن يستنكفوا عن عبادته سبحانه وتعالى.
ب- بشرية عيسى- عليه السلام- وعبوديته من خلال الأناجيل:
تدلُّ الأناجيل الحالية على بشرية عيسى- عليه السلام - وعبوديته دلالة بينة حيث جاء في بعضها فيما ينسب إلى عيسى عليه السلام قوله: (ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني، وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله). فعيسى - عليه السلام - وضع نفسه في الموضع اللائق به، وهو أنه إنسان رسول يدعوهم، ويبلغهم بما أوحاه الله إليه، وكفى بذلك دليلاً على بشريته وعبوديته، وأنه ليس بإله حيث أثبت بشريته، وأثبت لنفسه العبودية والخضوع لمن أرسله وهو الله - سبحانه وتعالى - إلهه وإله بني إسرائيل والخلق أجمعين، كما جاء فيما نسب إليه قوله: (إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم). وقوله: (إذهب يا شيطان؛ لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد). وفي الأناجيل ما يدل على عبادة عيسى- عليه السلام- وطاعته لله سبحانه وتعالى حيث صام و(خرَّ على وجهه، وكان يصلي قائلاً: يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت). كما أنه (خرج إلى الجبل ليصلي، وقضى الليل كله في الصلاة لله). وسبحان الله قضى الليل كله يصلي لخالقه، وإلهه، وربه، فأنَّى يكون إلها، أو يكون هو الله  ؟ تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. أنَّى يكون العابد هو عين المعبود  ؟ ولاسيما أنه كان (يصلي بأشد لجاجة) لله سبحانه وتعالى. بل جاء - فيما نسب إليه- في الأناجيل أنه قال: (لم يتركني الآب وحدي؛ لأني في كل حين أفعل ما يرضيه). فهو مجتهد في عبادة ربه سبحانه وتعالى، خاضع له ومطيع له في كل وقت وحين. ثم إن نظرة معاصري عيسى- عليه السلام- له لم تكن إلا على أنه إنسان، وليس بإله. من ذلك قوله (أجاب الخدام: لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان. فأجابهم الفريسيون: ألعلكم أنتم أيضاً قد ضللتم  ؟. ألعل ناموسنا يدين إنساناً لم يسمع منه أولاً  ؟). وفي نص آخر: (فقالوا له: كيف انفتحت عيناك (لرجل أعمى أبصر بإذن الله على يد عيسى) ؟ أجاب ذاك وقال: إنسان يقال له: يسوع). كما أن نسب عيسى عليه السلام وفق الأناجيل أنه: المسيح عيسى ابن مريم، من نسل داود ومن ذرية إبراهيم - عليهم الصلاة والسلام - خلقه الله من أم بلا أب بقدرته، كما خاطب جبريل مريم - عليهما السلام - حيث قال لها: (لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله). حينما تعجبت واستفهمت من جبريل (. كيف يكون هذا (أي: الحمل بعيسى وولادته) وأنا لست أعرف رجلاً). فأمه مريم، وتزعم الأناجيل أن له إخوة وأخوات ممن ادعت أنه زوج أمه، وهو يوسف النجار، ونسيبة أمه - كما جاء في الأناجيل- هي أليصابات أم يحيى عليه السلام، وهي من بنات هارون، وبذلك يحيى وزكريا من قرابة عيسى.
كذلك من أدلة بشرية - عيسى عليه السلام - كما جاء في الأناجيل: أن أمه حملت به عدة الحمل كاملة، ثم ولدته بعد أن لم يكن شيئاً، وختن بعد أن كان أغلف، واكتهل بعد أن كان صبيًّا، وتعلم القراءة والكتابة. وكتب بإصبعه على الأرض، وجاع، وطعم، بل أكل الفصح مع حواريه، كما شرب الماء، ومشى فتعب وتصبب عرقاً حتى بلغ عرقه الأرض، ثم جلس من التعب، وامتطى الجحش، وتفل على الأرض، وصنع من التفل طيناً، وطلى بالطين عيني الأعمى، وحزن واكتأب ثم بكى، وكان يجثو على ركبتيه، ويخرُّ على وجهه إلى الأرض ساجداً لله سبحانه وتعالى، إلى غير ذلك مما جاء في الأناجيل.
كما أن من الأمور التي تجلي عبودية عيسى- عليه السلام- وبشريته سوى ما ذكر هنا ما أثبته عيسى- عليه السلام- من أسماء وصفات لله وحده، نافياً إياها عن نفسه عليه السلام، مثل: أن الله هو القادر وحده، وأنه هو الهادي وحده، وأنه هو علام الغيوب، وأنه العظيم ومالك يوم الدين، وأنه لا يُرى في الدنيا إلى آخر ما مرَّ.
لذا ولغيره ذكر أبو الوليد الباجي - ردًّا على راهب من فرنسا- أن عيسى عليه السلام (بشر مخلوق وعبد مربوب لا يعدو عن دلائل الحدوث والتغير من حال إلى حال، وأكل الطعام والموت الذي كتب على جميع الأنام. ولو جوزنا كونه - صلى الله عليه وسلم - مع هذه الصفات والأحوال المحدثات إلهاً قديماً لنفينا أن يكون العالم أو شيء مما فيه محدثاً مخلوقاً؛ لأنه ليس في شيء مما ذكرنا من البشر والعالم وما فيه من الحيوان والجماد من دلائل الحدوث غير ما في عيسى عليه السلام ). إن ما سبق مثبت لبشرية عيسى عليه السلام وعبوديته فماذا عن نبوة عيسى عليه السلام ورسالته ؟
افتراءات المنصرين على القرآن الكريم أنه يؤيد زعم ألوهية المسيح عليه السلام لعلي الحربي ص 23


انظر أيضا: