موسوعة التفسير

سُورةُ يُوسُفَ
الآيات (1-3)

ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ

غريب الكلمات:

نَقُصُّ: أي: نُخبِرُ ونبيِّنُ، والقصصُ: الأثرُ والأخبارُ المتُتبَّعةُ، وأصلُ (القصِّ): تتبُّعُ الأثرِ أو الشيءِ [11] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/7)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/11)، ((المفردات)) للراغب (ص: 671)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (4/271). .

المعنى الإجمالي:

افتَتحَ الله سبحانه هذه السُّورةَ الكريمةَ بالحُروفِ المُقطَّعةِ، ثم أخبَرَ تعالى أنَّ هذه آياتُ القُرآنِ الواضِحِ من جهةِ أحكامِه، وألفاظِه، وسائِرِ ما حَواهُ مِنْ صُنوفِ مَعانيه، البَيِّنِ صِدْقُه، الذي يُفْصِحُ عمَّا أُبْهِم ويُبَيِّنُه، وأنَّه سُبحانَه أنزلَ هذا القُرآنَ بلُغةِ العَرَبِ؛ لعلَّهم يَعقِلونَ معانيَه ويفهَمونَها، ويَعمَلونَ بهَديِه، ثمَّ توجَّه بالخِطابِ لِنَبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: نحن نقصُّ عليك أحسَنَ القَصَصِ بوَحيِنا إليك هذا القُرآنَ، وإن كُنتَ قبل إنزالِه عليك لَمِنَ الغافلينَ عن هذه الأخبارِ، لا تدري عنها شيئًا.

تفسير الآيات:

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1).
سبَبُ النُّزولِ:
عن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((أُنزِلَ القرآنُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتلا عليهم زمانًا، فقالوا: يا رسولَ الله، لو قَصَصتَ علينا، فأنزل الله: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ يوسُف: 1 إلى قولِه تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ يوسُف: 3 فتلاها عليهم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زمانًا، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، لو حَدَّثتَنا، فأنزل الله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا الزمر: 23 الآية، كلُّ ذلك يُؤمَرونَ بالقُرآنِ)) [12] أخرجه ابن أبي عاصم في ((المذكر والتذكير)) (ص103)، والبزار (1153)، وأبو يعلى (740) واللفظ له. حسَّن إسنادَه ابنُ تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (17/40)، وحسَّنه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (6/222)، وابن حجر في ((المطالب العالية)) (4/126)، وصححه الألباني في ((صحيح الموارد)) (1462). .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1).
الر.
تقدَّم الكلامُ عن هذه الحروفِ المُقطَّعةِ في تفسيرِ أوَّلِ سُورةِ البَقَرةِ [13] يُنظر ما تقدَّم في تفسيرِ سورةِ البقرةِ (1/64) من هذا ((التفسير المحرَّر)).
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ.
أي: هذه آياتُ القُرآنِ الواضِحِ مِن جهةِ أحكامِه، وألفاظِه، وسائِرِ ما حَواهُ مِنْ صُنوفِ مَعانيه، البَيِّنِ صِدْقُه، الذي يُفْصِحُ عمَّا أُبْهِم ويُبَيِّنُه [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/6)، ((تفسير ابن عطية)) (3/218)، ((تفسير ابن كثير)) (4/365)، ((تفسير السعدي)) (ص: 393)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/201). .
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2).
أي: إنَّا أنزَلْناه كِتابًا يُقرَأُ بلُغَتِكم- أيُّها العربُ- كي تعلَموا وتفهَموا مَعانيَه [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/6)، ((تفسير القرطبي)) (9/119)، ((تفسير السعدي)) (ص: 393)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/201). .
كما قال تعالى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الزخرف: 1 - 3.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3).
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ.
أي: نحن نقُصُّ عليك- يا محمَّدُ- أحسَنَ أخبارِ الأُمَم الماضيةِ [16] قال القُرطبي: (الحُسْنُ يَعودُ إلى القَصَصِ لا إلى القِصَّةِ. يُقال: فُلانٌ حَسَنُ الاقْتِصاصِ للحَدِيثِ؛ أي جَيِّدُ السِّياقَةِ له. وقِيلَ: القَصَصُ ليس مصدرًا؛ بل هو في معنَى الاسْمِ، كما يُقالُ: الله رَجاؤُنا، أي مَرْجُوُّنا، فالمعنى على هذا: نحن نُخبِرُك بِأَحسَنِ الأَخبارِ). ((تفسير القرطبي)) (9/119). وقال ابنُ تَيمية: (المَقصودُ هنا أنَّ قولَه: أَحْسَنَ القَصَصِ قد قِيلَ: إنَّه مَصدَرٌ. وقيلَ: إنَّه مَفعولٌ به. والقَولان مُتَلازِمان؛ لكنَّ الصَّحيحَ أنَّ القَصَصَ مَفعولٌ به، وإن كان أَصلُه مَصدرًا فقد غَلَبَ اسْتِعمالُه في المَقْصُوصِ،كما في لَفْظِ الخَبَر والنَّبَأ ،والاسْتِعمالُ يَدُلُّ على ذلك ... وقد اعْتَرَف بذلك أهلُ اللُّغةِ، قال الجَوهري: وقد قَصَّ عليه الخَبَرَ قَصَصًا، والاسْمُ أيضًا القَصَصُ بالفَتحِ، وُضِعَ مَوضِع المَصدَرِ حَتَّى صار أَغْلَب عليه، فقولُه: أَحسَن القَصَصِ كقَولِه: نُخبِرُك أَحسَنَ الخَبَرِ، ونُنْبِئُك أَحسَنَ النَّبَأِ). ((مجموع الفتاوى)) (17/32). وقال أيضًا: (المُرادُ الكلامُ الذي هو أَحسَن القَصَص، وهو عامٌّ في كُلِّ ما قَصَّهُ الله، لم يَخُصَّ به سُورةَ يُوسُف؛ ولهذا قال: بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ولم يَقُل: بما أَوحَينا إليك هذه السُّورَة... فسواء كان أَحْسَنَ الْقَصَصِ مَصدَرًا أو مَفعولًا أو جامِعًا للأَمرَينِ، فهو يَدُلُّ على أنَّ القُرآنَ وما في القُرآنِ مِن القَصَص أَحسَنُ مِن غَيرِه، فإنَّا قد ذَكَرنا أنَّهما مُتَلازِمان، فأَيُّهما كان أَحسَن كان الآخَر أَحسَن، فتَبَيَّنَ أنَّ قولَه تعالى: أَحْسَنَ الْقَصَصِ كقولِه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: 23] ). ((مجموع الفتاوى)) (17/39). وقال أيضًا: (رَوَى ابنُ أبي حاتِم، عن قَتادَة: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القَصَصِ قال: مِن الكُتُبِ الماضِيَةِ وأُمورِ الله السَّالِفَة في الأُمم بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ. وهذا يدُلُّ على أنَّ أحسَنَ القَصَصِ يَعُمُّ هذا كلَّه؛ بل لفظُ «القَصَص» يَتناوَل ما قَصَّهُ الأنبياءُ مِن آياتِ الله غيرَ أخبارِ الأممِِ، كقولِه تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا). ((مجموع الفتاوى)) (17/42). وقال أيضًا: (ليس المُراد بقَولِه: أَحْسَنَ القَصَصِ قِصَّةَ يُوسُف وَحْدَها؛ بل هي ممَّا قَصَّهُ الله وممَّا يَدخُل في أَحسَن القَصَص... مِن المَعلُوم أنَّ قِصَّةَ موسى وما جَرَى له مع فِرعَون وغَيرِه أَعظَم وأَشرَف مِن قِصَّة يُوسُف بِكَثيرٍ كَثير؛ ولهذا هي أَعظَم قَصَص الأَنبِياء التي تُذكَر في القُرآن ثَنَّاها اللهُ أَكثرَ مِن غَيرِها، وبَسَطَها وطَوَّلَها أَكثرَ مِن غَيرِها؛ بل قَصَص سائِر الأَنبِياء-كنُوح وهُود وصالِح وشُعَيب وغَيرِهم مِن المُرسَلين- أَعظَم مِن قِصَّة يُوسُف؛ ولهذا ثَنَّى اللهُ تلك القَصَص في القُرآن ولم يُثَنِّ قِصَّة يُوسُف، وذلك لأنَّ الذين عادوا يُوسًف لم يُعادُوه على الدِّين بل عادُوه عَداوَةً دُنْيَوِيَّة، وحَسَدوه على مَحَبِّةِ أَبيهِ له، وظَلَموه فصَبَرَ واتَّقَى الله، وابْتُلِيَ صَلوات الله عليه بِمَن ظَلَمَه وبِمَن دَعاهُ إلى الفاحِشَة فصَبَرَ واتَّقَى الله في هذا وفي هذا، وابْتُلِيَ أيضًا بالمُلْكِ، فابْتُلِيَ بالسَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ فصَبَرَ واتَّقَى الله في هذا وهذا، فكانت قِصَّتُه مِن أَحسَن القَصَص وهي أَحسَن مِن القَصَص التي لم تُقَصَّ في القُرآن، فإنَّ النَّاس قد يُظلَمونَ ويُحسَدونَ ويُدْعَونَ إلى الفاحِشَة ويُبْتَلَوْنَ بالمُلْكِ؛ لكن ليس مَن لم يُذكَر في القُرآن ممَّن اتَّقَى الله وصَبَرَ مِثلَ يُوسُف، ولا فيهم مَن كانت عاقِبَتُه أَحسَنَ العَواقِب في الدُّنيا والآخِرَة مِثلَ يُوسُف). ((مجموع الفتاوى)) (17/20-22). ؛ بإيحائِنا إليك هذا القرآنَ [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/7)، ((تفسير البغوي)) (2/474)، ((تفسير الشوكاني)) (3/6). .
وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ.
أي: والشَّأنُ أنَّك كنتَ- يا محمَّدُ- من قبلِ أن نوحيَ إليك هذا القُرآنَ، مِن جملةِ قَومِك الذين لا عِلْمَ لهم بما في القُرآنِ؛ من الإيمانِ والهُدَى، وأخبارِ الأنبياءِ والأُمَمِ الماضيةِ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/7)، ((تفسير القرطبي)) (9/120)، ((تفسير ابن كثير)) (4/365)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/208)، ((تفسير السعدي)) (ص: 393)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/204). .
كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ الشورى: 52.
وقال سُبحانه: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى الضحى: 7.

الفوائد التربوية:

في قَولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إشارةٌ إلى ضرورةِ العِلمِ بمعاني الكتابِ العزيزِ، ووجهُ ذلك: أنَّه سُبحانه بَيَّنَ أنَّه أنزَلَه عربيًّا كي نعقِلَه، والعقلُ لا يكونُ إلَّا مع العِلمِ بمعانيه [19] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/158). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إنَّما وُصِفَ القرآنُ بكونِه مُبِينًا؛ لوجوهٍ:
الأوَّل: أنَّ القرآنَ مُعجِزةٌ قاهرةٌ، وآيةٌ بيِّنةٌ لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم.
الثاني: أنَّه بيَّنَ فيه الهدى والرُّشد، والحلالَ والحرامَ، ولَمَّا بُيِّنَت هذه الأشياءُ فيه، كان الكتابُ مُبِينًا لهذه الأشياءِ.
الثَّالث: أنَّه بُيِّنَت فيه قَصصُ الأوَّلينَ، وشُرِحَت فيه أحوالُ المتقَدِّمينَ [20] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/416). .
2- قولُ الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ اللِّسانَ العربيَّ أفصَحُ الألسنةِ وأوسَعُها وأقوَمُها وأعدَلُها؛ لأنَّ مِن المقَرَّرِ أنَّ القولَ- وإن خُصَّ بخِطابِه قومٌ- يكونُ عامًّا لِمَن سِواهم [21] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/6). .
3- قوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ هذه الجُملةُ تتنزَّلُ مِن جُملةِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا مَنزلةَ بدَلِ الاشتمالِ؛ لأنَّ أحسَنَ القصَصِ ممَّا يشتَمِلُ عليه إنزالُ القُرآنِ، وكونُ القَصَصِ مِن عند الله يتنزَّلُ منزلةَ الاشتمالِ مِن جملةِ تأكيدِ إنزالِه مِن عندِ الله، وقولُه: بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ يتضَمَّنُ رابطًا بين جملةِ البدَلِ والجُملةِ المُبدَلِ منها [22] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/202). .
4- قال الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وذلك لأنَّ لُغةَ العَربِ أفصَحُ اللُّغاتِ وأبيَنُها وأوسَعُها، وأكثَرُها تأديةً للمعاني التي تقومُ بالنُّفوسِ؛ فلهذا أُنزِلَ أشرفُ الكُتُبِ بأشرَفِ اللُّغاتِ، على أشرفِ الرُّسُلِ، بسِفارةِ أشرَفِ الملائكةِ، وكان ذلك في أشرَفِ بِقاعِ الأرضِ، وابتُدئَ إنزالُه في أشرفِ شُهورِ السَّنةِ، وهو رمضانُ، فكمُلَ مِن كُلِّ الوجوهِ [23] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/365-366). .
5- في قَولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ردٌّ على مَن زَعمَ أنَّ في القُرآنِ ما لا يَفْقَهُ ولا يَفْهَمُ معناه لا الرَّسولُ ولا المُؤمِنونَ؛ فإنَّ هذا مِن المنَكرِ الذي أنكَرَه العُلَماءُ [24] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/411). .
6- ذكَرَ اللهُ سُبحانَه وتعالى أنَّه يقُصُّ على رَسولِه أحسَنَ القَصَصِ في هذا الكتابِ؛ حيث قال جلَّ وعلا: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ثمَّ ذكَرَ هذه القِصَّةَ وبَسَطَها، وذكَرَ ما جرى فيها، فعُلِمَ بذلك أنَّها قِصَّةٌ تامَّةٌ كامِلةٌ حَسَنةٌ، فمن أراد أن يُكمِلَها أو يحَسِّنَها بما يُذكَرُ في الإسرائيليَّاتِ التي لا يُعرَفُ لها سنَدٌ ولا ناقِلٌ، وأغلَبُها كذِبٌ؛ فهو مُستدرِكٌ على اللهِ، ومُكمِلٌ لشيءٍ يزعُمُ أنَّه ناقِصٌ، وحَسبُك بأمرٍ ينتهي إلى هذا الحَدِّ قُبحًا! فإنَّ تضاعيفَ هذه السُّورةِ قد مُلِئَت في كثيرٍ مِن التَّفاسيرِ من الأكاذيبِ والأمورِ الشَّنيعةِ المُناقِضةِ لِما قَصَّه الله تعالى بشيءٍ كثيرٍ، فعلى العبدِ أن يفهمَ عن الله ما قَصَّه، ويدَعَ ما سِوى ذلك، ممَّا ليس عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُنقَلُ [25] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 393). .
7- ذكَرَ اللهُ أقاصيصَ الأنبياءِ في القُرآنِ، وكرَّرَها بمعنًى واحدٍ في وجوهٍ مُختَلفةٍ، بألفاظٍ مُتباينةٍ على درجاتِ البلاغةِ، وقد ذكرَ قِصَّةَ يُوسُفَ ولم يكَرِّرْها، فلم يَقدِرْ مُخالِفٌ على مُعارضةِ ما تكرَّر، ولا على مُعارضةِ غيرِ المُتكَرِّر، والإعجازُ لِمن تأمَّل [26] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/118). .

بلاغة الآيات   :

1- قوله تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ
- قولُه: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وفي سُورةِ (يُونُسَ) وسُورة (لُقمانَ) قال: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ؛  فوَصَفَ الكِتابَ في سُورةِ (يُوسُف) بالمُبين، وفي السُّورتَينِ بالحَكيم؛ ووجهُ ذلك: أنَّ ذِكْرَ وَصْفِ إبانتِه هنا أنسَبُ؛ إذ كانت القِصَّةُ التي تَضَمَّنَتها هذه السُّورةُ مُفصِّلةً مُبيِّنةً لأهمِّ ما جَرَى في مدَّةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ بمِصْرَ [27] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/200). ؛ فسورةُ (يُوسُفَ) عليه السَّلامُ لم تَنطوِ على غيرِ قِصَّتِه وبسْطِ التعريفِ بقَضيَّتِه، وبيانِ ما جرَى له مع أبيه وإخوتِه، وامتحانِه وتخلُّصِه بسابقِ اصطفائِه ممَّا كِيدَ به، وجَمْعِه بأخيه، ثُمَّ بأبيه وإخوتِه؛ فلهذا أُتْبِع الكتابُ بالوصفِ بـ الْمُبِينِ، وأمَّا سُورتَا (يُونُسَ) و(لُقمانَ) فقدْ تَردَّد فيهما من الآياتِ المُعتبَرِ بها، المطْلِعةِ على عَظيمِ حِكمتِه تعالى وإتْقانِه للأشياءِ ما لم يَرِدْ في سُورةِ (يُوسُفَ)، كخَلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، وجَعْل الشَّمسِ ضِياءً والقَمرِ نُورًا، واختلافِ اللَّيلِ والنَّهارِ وما خَلَق اللهُ في السَّمواتِ والأرضِ، وما في ذلك مِن عِبَرٍ وآياتٍ، وكذلك ما في سُورة (لُقمان) في قوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ لقمان: 10- 11، وما ذَكَره فيها أيضًا عن لُقمانَ وما آتاهُ من الحِكمةِ، وما انطوتْ عليه قِصَّتُه مِن حِكمةٍ، وما صُدِّرَ عنه في وصيَّتِه؛ فهذا وجهُ وصْفِ الكِتابِ في هاتَينِ السُّورتَينِ بالحَكيمِ [28] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/237- 238)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/207). .
- قولُه: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ استِئنافٌ يُفيدُ تَعليلَ الإبانةِ مِن جِهَتَيْ لَفظِه ومَعناه؛ فإنَّ كونَه قُرآنًا يَدُلُّ على إبانةِ المعاني؛ لأنَّه ما جُعِل مَقروءًا إلَّا لِما في تَراكيبِه مِن المعاني المفيدةِ للقارئِ، وكونُه عَربيًّا يُفيدُ إبانةَ ألفاظِه المعانِيَ المقصودةَ للَّذين خُوطِبوا به ابتِداءً، وهم العرَبُ [29] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/201). .
- والتَّأكيدُ بـ (إنَّ) مُتوجِّهٌ إلى خبَرِها، وهو فِعْلُ أَنْزَلْنَاهُ؛ ردًّا على الَّذين أنكَروا أن يَكونَ مُنزَّلًا مِن عندِ اللهِ [30] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/201). .
- وقولُه: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ فيه التَّعبيرُ عن العلمِ بالعقلِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ دَلالةَ القرآنِ على هذا العِلمِ قد بلَغَت في الوُضوحِ حَدَّ أن يُنزَّلَ مَن لم يَحصُلْ له العِلمُ منها مَنزِلةَ مَن لا عَقْلَ له، وأنَّهم ما داموا مُعْرِضين عنه فهُم في عِدادِ غيرِ العُقَلاءِ [31] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/202). .
- وحَذَف مفعولَ تَعْقِلُونَ؛ للإشارةِ إلى أنَّ إنزالَه كذلك هو سبَبٌ لحُصولِ تَعقُّلٍ لأشياءَ كثيرةٍ مِن العلومِ مِن إعجازٍ وغيرِه [32] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/202). .
- وفيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال تعالى هنا في سورةِ (يوسفَ): إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يوسف: 2، وفي سورةِ (الزُّخرُفِ) قال: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الزخرف: 3؛ فقال هنا أَنْزَلْنَاهُ، وقال في (الزخرف): جَعَلْنَاهُ، ووجهُ ذلك: أنَّ آيةَ سورةِ (يوسُفَ) لَمَّا كانت توطِئةً لذِكْرِ قَصصِه عليه السَّلامُ، ولم تتَضمَّنِ السُّورةُ غيرَ ذلك إلَّا ما أُعقِبَ به في آخِرِها، ممَّا يُعرَفُ بعجيبِ ما تَضمَّنَتْه ما كان غَيبًا عندَ قُريشٍ والعرَبِ، مُستوفِيًا ما كان أهلُ الكتابِ يَظُنُّون أنَّهم انفَرَدوا بعِلمِه، فأنزَل اللهُ هذه السُّورةَ موفِيَةً مِن ذلك أتَمَّه، ومُعرِّفةً مِن قَصصِه العجيبَ، ومؤدِّيةً أكمَلَه وأعَمَّه، ولا أنسَبَ عِبارةً هنا مِن قولِه تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا؛ لِيَعلَمَ العربُ والجميعُ أنَّ نبيَّنا محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يتَلقَّ ذلك القَصصَ مِن أحَدٍ مِن العرَبِ؛ إذ لم يَكُنْ عِندَهم مِنه نبَأٌ، ولا رحَل في تَعرُّفِه إلى أحَدٍ؛ فالتَّعبيرُ بالإنزالِ هنا بيِّنٌ، وأمَّا آيةُ الزُّخرُفِ فلم تُبْنَ على أخبارٍ [33] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/266، 267). .
2- قولُه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ
- قولُه: نَحْنُ نَقُصُّ: فيه افتِتاحُ الجُملَةِ بضَميرِ العظَمةِ نَحْنُ؛ للتَّنويهِ بالخبَرِ، وتقديمُ نَحْنُ على الخبَرِ الفعليِّ نَقُصُّ يفيدُ الاختصاصَ، أي: نَحن نقُصُّ لا غيرُنا؛ ردًّا على مَن يَطعُنُ مِن المشرِكين في القرآنِ بقولِهم: إِنَّما يُعَلِّمُه بَشَرٌ [34] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/203). النحل: 103.
- قولُه: وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ فعُبِّر بـ الْغَافِلِينَ دونَ أن يُوصَفَ وحْدَه بالغَفلةِ؛ ونُكتةُ ذلك الإشارةُ إلى تَفضيلِه بالقرآنِ على كلِّ مَن لم يَنتَفِعْ بالقرآنِ؛ فدخَل في هذا الفَضلِ أصحابُه والمسلِمون على تَفاوُتِ مَراتبِهم في العلمِ، ومَفهومُ قولِه: مِنْ قَبْلِهِ مقصودٌ منه التَّعريضُ بالمشرِكين المعْرِضين عن هَدْيِ القرآنِ [35] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/204). .
- وأيضًا في قولِه: لَمِنَ الْغَافِلِينَ التَّعبيرُ عن عدَمِ العلمِ بالغفلةِ؛ لإجلالِ شأنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وإنْ غفَل عنه بعضُ الغافِلين [36] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/251). .