موسوعة التفسير

سورةُ يس
الآيات (68-70)

ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ

غَريبُ الكَلِماتِ:

نُعَمِّرْهُ: أي: نَمُدَّ له في عُمُرِه، وأصلُ (عمر): يدُلُّ على بقاءٍ وامتدادِ زَمانٍ [758] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/478)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/140)، ((المفردات)) للراغب (ص: 586). .
نُنَكِّسْهُ: أي: نَرُدَّه إلى مِثلِ حالِه في الصِّغَرِ، وأصلُ (نكس): يدُلُّ على قَلبِ الشَّيءِ [759] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 368)، ((تفسير ابن جرير)) (19/478)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 467)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/477)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 350). .
وَيَحِقَّ: أي: ويَجِبَ، وأصلُ (حَقق): يدُلُّ على إحكامِ الشَّيءِ وصِحَّتِه [760] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/15)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/6067). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبيِّنًا حالَ الإنسانِ عندَما يتقدَّمُ به العُمُرِ: ومَن نُطِلْ في عُمُرِه نَرُدَّه إلى مِثلِ حالِه في صِغَرِه، فنَجعَلْه ضَعيفًا بعدَ أنْ كان قَويًّا؛ أفلا يَعقِلونَ أنَّ مَن قَدَر على ذلك قادِرٌ أيضًا على بَعثِه بعدَ مَوتِه؟!
ثمَّ يَرُدُّ سبحانَه على الكافرينَ الَّذين وصَفوا النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بأنَّه شاعِرٌ، فيقولُ: وما عَلَّمْنا محمَّدًا الشِّعرَ، وما يَنبغي له أن يكونَ شاعِرًا؛ فما القُرآنُ إلَّا ذِكرٌ وقرآنٌ واضِحٌ للنَّاسِ؛ لِيُنذِرَ الرَّسولُ بالقُرآنِ مَن كان حيَّ القَلبِ، ولِيَحِقَّ العذابُ على الكافِرينَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى الطَّمْسَ والمسْخَ على تَقديرِ المُشَبَّهِ؛ ذكَرَ تعالى دليلًا على باهِرِ قُدرتهِ في تَنكيسِ المُعَمَّرِ، وأنَّ ذلك لا يَفعَلُه إلَّا هو تعالى [761] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/79). .
وأيضًا لَمَّا قَرَّر قَطْعَ الأعذارِ بسَبقِ الإنذارِ وأتَمَّه؛ شَرَع في قَطعِ عُذرٍ آخَرَ، وهو أنَّ الكافِرَ يقولُ: لم يكُنْ لُبثُنا في الدُّنيا إلَّا يَسيرًا، ولو عمَّرْتَنا لَمَا وجَدْتَ مِنَّا تقصيرًا؛ فقال اللهُ تعالى: أفلا تَعقِلونَ أنَّكم كلَّما دخَلْتُم في السِّنِّ ضَعُفتُم، وقد عَمَّرْناكم مِقدارَ ما تتمَكَّنونَ مِن البَحثِ والإدراكِ؟! كما قال تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر: 37] ، ثمَّ إنَّكم عَلِمتُم أنَّ الزَّمانَ كُلَّما يَعبُرُ عليكم يَزدادُ ضَعفُكم؛ فضَيَّعتُم زمانَ الإمكانِ، فلو عَمَّرْناكم أكثَرَ مِن ذلك لَكان بعدَه زمانُ الإزمانِ، ومَن لم يأتِ بالواجِبِ زَمانَ الإمكانِ، ما كان يأتي به زمانَ الإزمانِ [762] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/304). قال ابنُ عاشورٍ بعدَ أن استبعَد ما ذكَره المفسِّرون في وجهِ اتِّصالِ هذه الآيةِ بما قبْلَها، قال: (والوجهُ عندي أنَّ لِكَونِ جملةِ وَمَنْ نُعَمِّرْهُ عَطفًا على جُملةِ: وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ [يس: 67] ، فهي جملةٌ شَرطيَّةٌ عُطِفَت على جملةٍ شَرطيَّةٍ؛ فالمعطوفُ عليها جملةُ شَرطٍ امتناعيٍّ، والمعطوفةُ جملةُ شَرطٍ تعليقيٍّ، والجملةُ الأولى أفادت إمهالَهم والإملاءَ لهم، والجملةُ المعطوفةُ أفادت إنذارَهم بعاقبةٍ غيرِ محمودةٍ، ووعيدَهم بحُلولِها بهم، أي: إنْ كنَّا لم نمسَخْهم ولم نَطمِسْ على عُيونِهم، فقد أبقَيْناهم لِيَكونوا مَغلوبينَ أذِلَّةً؛ فمعنى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ مَن نُعَمِّرْه منهم. فالتَّعميرُ بمعنى الإبقاءِ، أي: مَن نُبقيه منهم ولا نَستأصِلُه منهم، أي: مِنَ المُشرِكينَ، فجعَلَه بينَ الأُمَمِ ذليلًا، فالتَّعميرُ المرادُ هنا كالتَّعميرِ الَّذي في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر: 37] ، بأنَّ معناها: ألم نُبقِكم مُدَّةً مِن الحياةِ تكفي المتأمِّلَ؟ وهو المقَدَّرُ بقَولِه: مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ، وليس المرادُ مِن التَّعميرِ فيها طُولَ الحياةِ وإدراكَ الهَرَمِ، كالَّذي في قَولِهم: فلانٌ مِن المعَمَّرينَ؛ فإنَّ ذلك لم يقَعْ بجميعِ أهلِ النَّارِ الَّذين خُوطِبوا بقَولِه: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ، وقد طُوِيَت في الكلامِ جملةٌ تقديرُها: ولو نَشاءُ لأهلَكْناهم، يدُلُّ عليها قَولُه: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ، أي: نُبْقِه حيًّا). ((تفسير ابن عاشور)) (23/54). !
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ.
أي: ومَن نَمُدَّ له في عُمُرهِ نَرُدَّه إلى مِثلِ حالِه في صِغَرِه؛ ضَعيفًا في جَسَدِه وعَقلِه [763] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/478)، ((تفسير ابن كثير)) (6/588)، ((تفسير السعدي)) (ص: 698)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/299). قال ابن كثير: (المرادُ مِن هذا -والله أعلَمُ- الإخبارُ عن هذه الدَّارِ بأنَّها دارُ زَوالٍ وانتقالٍ، لا دارُ دَوامٍ واستقرارٍ). ((تفسير ابن كثير)) (6/588). .
كما قال اللهُ تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا [النحل: 70] .
وقال سُبحانَه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [الحج: 5] .
وقال عزَّ وجلَّ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم: 54] .
أَفَلَا يَعْقِلُونَ.
أي: أفلا يَعقِلونَ قُدرةَ اللهِ في تَصريفِ خَلقِه كما يَشاءُ، ومِن ذلك قُدرتُه على بَعثِهم [764] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/479)، ((تفسير السمرقندي)) (3/130)، ((تفسير القرطبي)) (15/51)، ((تفسير ابن كثير)) (6/588)، ((تفسير السعدي)) (ص: 698)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/55). ؟!
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ الله تعالى الوحدانيَّةَ في قولِه: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس: 60] ، وفي قولِه: وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس: 61] ، وذكر الحشرَ في قولِه تعالى: اصْلَوْهَا الْيَوْمَ [يس: 64] ، وفي قولِه: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ [يس: 65] إلى غيرِ ذلك، فلَمَّا ذكر هذينِ الأصْلَينِ وبَيَّنَهما؛ ذكر الأصلَ الثَّالثَ، وهو الرِّسالةُ، فقال [765] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/304). :
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ.
أي: وما عَلَّمْنا محمَّدًا -صلَّى الله عليه وسلَّم- الشِّعرَ، وما يَنبغي له أن يكونَ شاعِرًا؛ فنَظْمُ الشِّعرِ مُمتنِعٌ عليه [766] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/480)، ((تفسير الزمخشري)) (4/26)، ((تفسير ابن كثير)) (6/588، 592)، ((تفسير السعدي)) (ص: 698)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/57، 58). قال ابنُ عطية: (الضَّميرُ في عَلَّمْنَاهُ عائدٌ على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، قولًا واحِدًا). ((تفسير ابن عطية)) (4/462). وقال أيضًا: (والضميرُ في لَهُ يحتملُ أن يعودَ على محمَّدٍ، ويحتملُ أن يعودَ على القرآنِ، وإن كان لم يُذكرْ لدَلالةِ المجاوَرةِ عليه). ((تفسير ابن عطية)) (4/462). وعلى أنَّ الضَّميرَ في لَهُ عائدٌ إلى القرآنِ، فالمعنى: وما يَنبغي للقرآنِ أنْ يكونَ شِعْرًا. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/436). .
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ.
أي: ما القُرآنُ [767] ممَّن اختار أنَّ الضَّميرَ في قولِه هُوَ المرادُ به القرآنُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، ومكِّي، وابنُ الجوزي، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/584)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/6066)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/531)، ((تفسير الشوكاني)) (4/436)، ((تفسير القاسمي)) (8/193). وقيل: الضَّميرُ يعودُ على المعلَّمِ، أي: ما هذا الَّذي عَلَّمْناه، إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ. وممَّن اختاره: ابنُ كثير، والنسفي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/592)، ((تفسير النسفي)) (3/111). وقيل: الضَّميرُ يعودُ على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم. وممَّن اختاره: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/480). إلَّا ذِكرٌ للنَّاسِ [768] قيل: معنى ذِكْرٌ أي: تَذكِرةٌ. وممَّن قال بهذا المعنى: الواحديُّ، والسمعاني، والسعدي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/519)، ((تفسير السمعاني)) (4/387)، ((تفسير السعدي)) (ص: 698). وقيل: المعنى: شَرَفٌ ومَوعِظةٌ. وممَّن قال بهذا المعنى: البِقاعي، والشربيني. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/167)، ((تفسير الشربيني)) (3/363). وقيل: الذِّكرُ الَّذي وُصِفَ به القرآنُ يَتضمَّنُ عِدَّةَ مَعانٍ؛ هي: العِظةُ والتَّذكُّرُ، وأنَّه ذِكرٌ يُذكَرُ به اللهُ تعالى، وأنَّه رفعةٌ وشرَفٌ لِمَن يقومُ ويَعملُ به. قاله ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 248). ، وقرآنٌ واضِحٌ مُظهِرٌ للحَقِّ، مُوضِّحٌ للنَّاسِ كُلَّ ما يَحتاجون إلى بيانِه [769] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/519)، ((تفسير ابن كثير)) (6/592)، ((تفسير السعدي)) (ص: 698)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 247-253). .
كما قال اللهُ سُبحانَه وتعالى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 138] .
وقال سُبحانَه: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] .
وقال تبارك وتعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [ص: 87] .
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70).
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا.
أي: لِيُنذِرَ الرَّسولُ بالقُرآنِ مَن كان حيَّ القَلبِ، يَفهَمُ ويَعقِلُ آياتِ اللهِ، ويَنتفِعُ بها [770] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/481)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/294)، ((تفسير القرطبي)) (15/55)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/22)، ((تفسير ابن كثير)) (6/592)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/168، 169)، ((تفسير السعدي)) (ص: 699). قال السعدي: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا أي: حَيَّ القلبِ واعيَه، فهو الَّذي يَزْكو على هذا القُرآنِ، وهو الَّذي يَزدادُ مِن العِلمِ منه والعَمَلِ، ويكونُ القرآنُ لقَلبِه بمنزلةِ المطرِ للأرضِ الطَّيِّبةِ الزَّاكيةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 699). .
كما قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] .
وقال سُبحانَه: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 2] .
وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ.
أي: ولِيَحِقَّ العَذابُ على الكافِرينَ باللهِ، المُعرِضينَ عن القُرآنِ بعدَ أن قامت به حُجَّةُ اللهِ عليهم [771] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/481)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/169)، ((تفسير السعدي)) (ص: 699). قال الشنقيطي: (المرادُ بالقولِ... هو قولُه تعالَى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، كما دَلَّتْ على ذلك آياتٌ مِنْ كتابِ اللَّهِ تعالَى؛ كقولِه تعالَى في آخرِ سورةِ «هُودٍ»: وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 118 - 119] ، وقولِه تعالَى في «السَّجدةِ»: وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] . وقولِه تعالَى في أُخرياتِ «ص»: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84، 85]). ((أضواء البيان)) (6/287). .
كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119].
وقال سُبحانَه: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13] .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أنَّه يَنبغي للإنسانِ أنْ يَغتنِمَ فُرَصَ العُمُرِ، وقُوَّتَه وشبابَه قبْلَ أنْ يُنَكَّسَ في الخَلقِ [772] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 242). .
2- في قَولِه تعالى: أَفَلَا يَعْقِلُونَ الحَثُّ على التَّعقُّلِ والتَّفكُّرِ وحُسنِ التصَرُّفِ؛ حتَّى يكونَ الإنسانُ مِن العُقَلاءِ [773] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 242). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ سُؤالٌ: أنَّه سُبحانَه خَصَّ الشِّعرَ بنَفيِ التَّعليمِ مع أنَّ الكُفَّارَ كانوا يَنسُبونَ إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم أشياءَ مِن جُملتِها السِّحرُ، ولم يَقُلْ: «وما عَلَّمْناه السِّحرَ»، وكذلك كانوا يَنسُبونَه إلى الكِهانةِ، ولم يَقُلْ: «وما علَّمْناه الكِهانةَ»؟
الجواب: أمَّا الكِهانةُ فكانوا يَنسُبونَ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم إليها عندَما كان يُخبِرُ عن الغُيوبِ، ويكونُ كما يقولُ. وأمَّا السِّحرُ فكانوا يَنسُبونَه إليه عندَما كان يَفعَلُ ما لا يَقدِرُ عليه الغَيرُ؛ كشَقِّ القَمَرِ، وتكَلُّمِ الحَصى، وحنينِ الجِذْعِ وغيرِ ذلك. وأمَّا الشِّعرُ فكانوا يَنسُبونَه إليه عندَما كان يَتلو القُرآنَ عليهم، لكِنَّه صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم ما كان يَتحدَّى إلَّا بالقُرآنِ، كما قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] إلى غيرِ ذلك، ولم يَقُلْ: «إنْ كُنتُم في شَكٍّ مِن رِسالتي، فأنطِقوا الجُذوعَ، أو أشبِعوا الخَلْقَ العَظيمَ، أو أخبِروا بالغُيوبِ»، فلمَّا كان تحدِّيه صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم بالكَلامِ، وكانوا يَنسُبونَه إلى الشِّعرِ عندَ الكلامِ؛ خَصَّ الشِّعرَ بنَفيِ التَّعليمِ [774] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/304). .
2- في قَولِه تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ سُؤالٌ عمَّا ورد عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن الرَّجَزِ، نحوُ قَولِه:
((أنا النَّبيُّ لا كَذِبْ              أنا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ)) [775] أخرجه البخاري (2864)، ومسلم (1776) من حديثِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رضي الله عنهما.
وقولِه:
((هل أنتِ إلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ              وفي سَبيلِ اللهِ ما لَقِيتِ)) [776] أخرجه البخاري (2802)، ومسلم (1796) من حديثِ جُندَبِ بنِ عبدِ الله بنِ سُفْيانَ رضي الله عنه.
الجوابُ: أنَّ هذا ليس بشِعرٍ عندَ الخليلِ، أو أنَّ الموزونَ بوزنِ الشِّعرِ وإن لم يكُنْ رَجَزًا: ليس بشِعرٍ عند أحدٍ؛ إذ الشِّعرُ قَولٌ مَوزونٌ مُقفًّى مقصودٌ به الشِّعرُ، والقَصدُ مُنتَفٍ فيما رُوِيَ مِن ذلك [777] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 475). ، فذلك ليس بشِعرٍ؛ لعدَمِ قَصدِه إلى الوزنِ والقافيةِ، وعلى هذا لو صدرَ مِن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم كلامٌ كثيرٌ موزونٌ مُقفًّى، لا يكونُ شِعرًا؛ لعدَمِ قَصدِه اللَّفظَ قَصدًا أوَّليًّا، ويؤيِّدُ ما ذكَرْنا أنَّك إذا تتبَّعتَ كلامَ النَّاسِ في الأسواقِ تجِدُ فيه ما يكونُ موزونًا واقِعًا في بحرٍ مِن بحورِ الشِّعرِ، ولا يُسمَّى المتكَلِّمُ به شاعِرًا، ولا الكلامُ شِعرًا؛ لِفَقدِ القَصدِ إلى اللَّفظِ أوَّلًا. ثمَّ قَولُه تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ يحقِّقُ ذلك المعنى، أي: هو ذِكرٌ ومَوعِظةٌ؛ للقَصدِ إلى المعنى، والشِّعرُ لَفظٌ مُزَخرَفٌ بالقافيةِ والوزنِ [778] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/305). ويُنظر أيضًا: ((البيان والتبين)) للجاحظ (1/240). .
3- في قَولِه تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أنَّه كُلَّما تَمَسَّكَ المسلمون بهذا الكتابِ العزيزِ فإنَّهم يَزدادون عِزَّةً وشَرَفًا؛ لأنَّ المُعَلَّقَ على وصْفٍ يَقْوَى بقوةِ ذلك الوصفِ، ويَضْعُفُ بضَعْفِ ذلك الوصفِ [779] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 253). ، وذلك على قولٍ في معنى الذِّكرِ.
4- في قَولِه تعالى: لِيُنْذِرَ إثباتُ العِلَّةِ والحِكمةِ؛ تُؤخَذُ مِن لامِ التَّعليلِ [780] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 256). .
5- إنَّ النَّاسَ انقَسَموا في هذه الدَّعوةِ إلى قِسمَينِ: قِسمٌ قَبِلَها واطمأَنَّ إليها؛ فهو حَيٌّ؛ وقسمٌ على العكسِ مِن ذلك، ولهذا قال اللهُ تعالى: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ؛ لِيَتبيَّنَ أنَّ المرادَ بالحياةِ هنا حياةُ القَلبِ، وحياةُ الإيمانِ، لا الحياةُ الجَسَديَّةُ؛ لأنَّ مُقابَلةَ الشَّيءِ بالشَّيءِ تُفيدُ مَعناه. لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ليس حياةَ جِسمٍ، لو كانت حياةَ جِسمٍ لَقال: ويَحِقَّ القَولُ على الموتى، ولكِنْ قال: عَلَى الْكَافِرِينَ؛ وبهذا عرَفْنا أنَّ كُلَّ حياةٍ في مِثلِ هذا السِّياقِ فالمرادُ بها حياةُ القَلبِ، لا حياةُ الجِسمِ [781] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 444). .
6- في قَولِه تعالى: وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ أنَّ القُرآنَ الكريمَ حُجَّةٌ على الكافِرينَ؛ لأنَّه لن يَحِقَّ عليهم القَولُ إلَّا بعدَ أنْ تَقومَ عليهم الحُجَّةُ، ويكونَ كُفرُهم عن عِنادٍ [782] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 256). .

 بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لاستِعراضِ حالِ الإنسانِ؛ كيف يَستحيلُ إلى ضَعفٍ بعدَ قُوَّةٍ، وإلى نَقصٍ بعدَ تَمامٍ [783] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/227). !
- وفُرِّعَ على الجُمَلِ الشَّرطيَّةِ الثَّلاثِ -وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ ووَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ ووَمَنْ نُعَمِّرْهُ- وما تَفرَّعَ عليها: قولُه: أَفَلَا يَعْقِلُونَ، استِئنافًا إنكاريًّا لِعَدمِ تأَمُّلِهم في عَظيمِ قُدرةِ اللهِ تعالى الدَّالَّةِ على أنَّه لو شاء لَطَمَسَ على أعيُنِهم، ولو شاء لَمَسَخَهم على مَكانتِهم، وأنَّه إنْ لم يَفعَلْ ذلك فإنَّهم لا يَسْلَمون مِن نَصْرِه المُسلمينَ عليهم؛ لأنَّهم لو قاسوا مَقدوراتِ اللهِ تعالى المُشاهَدةَ لهم، لَعَلِموا أنَّ قُدرتَه على مَسْخِهم فما دونَه مِن إنزالِ مَكروهٍ بهم أيسَرُ مِن قُدْرتِه على إيجادِ المخلوقاتِ العَظيمةِ المُتْقَنةِ، وأنَّه لا حائلَ بيْن تَعلُّقِ قُدرتِه بمَسخِهم إلَّا عدَمُ إرادتِه ذلك لحِكمةٍ عَلِمَها؛ فإنَّ القُدرةَ إنَّما تَتعلَّقُ بالمقدوراتِ على وَفْقِ الإرادةِ [784] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/55). .
- قولُه: أَفَلَا يَعْقِلُونَ تَنبيهٌ على التَّفكيرِ، وتَوبيخٌ لِمَا لو عَسى أنْ يُنكِرَ مُنكِرٌ أنَّه تعالى كيف يَختِمُ على الأفواهِ يومَ القيامةِ لِتَتكلَّمَ الأيدي، وتَشهَدَ الأرجُلُ [785] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/82). .
- وقرَأَ نافعٌ، وابنُ ذَكْوانَ عن ابنِ عامرٍ، وأبو جعفرٍ: أَفَلَا تَعْقِلُونَ بتاءِ الخِطابِ، وهو خِطابٌ للَّذين وُجِّهَ إليهم قولُه: وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ [يس: 66] الآيةَ، وقرَأَ الباقونَ بِياءِ الغَيبةِ [786] يُنظر: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 603)، ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/257). ؛ لأنَّ تلك الجُمَلَ الشَّرطيَّةَ لا تَخْلو مِن مُواجَهةٍ بالتَّعريضِ للمُتحدَّثِ عنهم، فكانوا أحرياءَ أنْ يَعقِلوا مَغْزاها، ويَتفهَّموا مَعناها [787] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/55). .
2- قولُه تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ
- هذه الآيةُ تَرجِعُ إلى ما تَضمَّنَه قولُه تعالى: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [يس: 46] ؛ فالمرادُ بالآياتِ آياتُ القرآنِ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، فإعراضُهم عن القُرآنِ له أحوالٌ شَتَّى: بعضُها بعَدمِ الامتثالِ لِمَا يأْمُرُهم به مِن الخَيرِ مع الاستهزاءِ بالمسلمينَ، وبعضُها بالتَّكذيبِ لِمَا يُنذِرُهم به مِن الجزاءِ، ومِن إعراضِهم عنه: طَعْنُهم في آياتِ القرآنِ بأقوالٍ شتَّى؛ منها قولُهم: (هو قولُ شاعرٍ)، فلمَّا تَصدَّى القرآنُ لإبطالِ تَكذيبِهم بوَعيدٍ بالجزاءِ يومَ الحشرِ بما تَعاقَبَ مِن الكلامِ على ذلك، عاد هنا إلى طَعنِهم في ألْفاظِ القرآنِ مِن قَولِهم: بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ [الأنبياء: 5] ؛ فقَولُهم: بَلْ هُوَ شَاعِرٌ يَقْتضي لا مَحالةَ أنَّهم يقولونَ: القرآنُ شِعرٌ. فالجُملةُ مَعطوفةٌ على جُملةِ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يس: 48] ، عَطْفَ القِصَّةِ على القِصَّةِ، والغرَضِ على الغرَضِ. ويجوزُ أنْ تكونَ مُستأْنَفةً استِئنافًا ابتدائيًّا، ويكونَ الواوُ للاستئنافِ؛ ولذلك اقتُصِرَ على تَنزيهِ القرآنِ عن أنْ يَكونَ شِعرًا، والنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أنْ يكونَ شاعرًا دونَ التَّعرُّضِ لِتَنزيهِه عن أنْ يكونَ ساحرًا، أو أنْ يكونَ مَجنونًا؛ لأنَّ الغرَضَ الرَّدُّ على إعراضِهم عن القُرآنِ؛ فإنَّه لَمَّا قصَدَ إبطالَ مَقالاتٍ لهم في القرآنِ قال في الآيةِ الأُخرى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [788] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/55، 56). [الحاقة: 41، 42].
- وأيضًا في قولِه: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ... بُنِيَ الرَّدُّ عليهم على طَريقةِ الكِنايةِ بنَفْيِ تَعليمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الشِّعرَ؛ لِمَا في ذلك مِن إفادةِ أنَّ القرآنَ مُعلَّمٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن قِبَلِ اللهِ تعالى، وأنَّه ليس بشِعرٍ، وأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليس بشاعرٍ، وانتصَبَ الشِّعرُ على أنَّه مفعولٌ ثانٍ لفِعلِ عَلَّمْنَاهُ؛ فتَقديرُ المعنى: نحن علَّمْناهُ القرآنَ وما علَّمناهُ الشِّعرَ؛ فالقرآنُ مُوحًى إليه بتَعليمٍ مِن اللهِ، والَّذي أَوحَى به إليه ليس بشِعرٍ، وإذَنْ فالمعنى: أنَّ القرآنَ ليس مِن الشِّعرِ في شَيءٍ؛ فكانتْ هاتِه الجُملةُ ردًّا على قولِهم: هو شاعرٌ، على طَريقةِ الكِنايةِ؛ لأنَّها انتِقالٌ مِن اللَّازمِ إلى الملزومِ، ودلَّ على أنَّ هذا هو المقصودُ مِن قولِه: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ قولُه عَقِبَه: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ، أي: ليس الَّذي علَّمناهُ إيَّاه إلَّا ذِكرًا وقُرآنًا، وما هو بشِعرٍ [789] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/83)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/56، 57). .
- وجُملةُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ مُعترِضةٌ بيْنَ الجُملتَينِ المتعاطفتَينِ، قُصِدَ منها إتْباعُ نفْيِ أنْ يكونَ القرآنُ المُوحَى به للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شِعرًا بنَفْيِ أنْ يكونَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شاعرًا فيما يَقولُه مِن غيرِ ما أُوحِيَ به إليه [790] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/84)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/62). .
- وجُملةُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ نَفْيَ الشِّعرِ عن القُرآنِ يُثيرُ سُؤالَ مُتطلِّبٍ يقولُ: فما هو هذا الَّذي أُوحِيَ به إلى محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ فكان قولُه: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ جَوابًا لِطِلْبَتِه [791] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/65). .
- وجِيءَ بصِيغةِ القَصرِ (إنْ ... إلَّا) المُفيدةِ قصْرَ الوحيِ على الاتِّصافِ بالكَونِ ذِكرًا وقُرآنًا قَصْرَ قلْبٍ [792] القَصرُ أو الحَصرُ في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ: هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبْتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على الموصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وتردُّدِه إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثَرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ، مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مَبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ، بتنزيلِ غيرِ المذكورِ مَنزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ، كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ مُعَيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زَيْدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرة؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، أي: ليس شِعرًا كما زعَمْتُم؛ فحصَلَ بذلك استِقصاءُ الرَّدِّ عليهم، وتَأكيدُ قولِه: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ [793] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/65). .
- والذِّكرُ: مَصدرٌ وُصِفَ به الكتابُ المنزَّلُ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وَصفًا للمُبالَغةِ، أي: إنْ هو إلَّا مُذكِّرٌ للنَّاسِ بما نَسُوه أو جَهِلوه [794] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/65). ، على قولٍ في التَّفسيرِ.
- قولُه: وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ حُذِفَ المعمولُ؛ لِيَدُلَّ على أنَّه مُبِينٌ لجَميعِ الحَقِّ بأدِلَّتِه التَّفصيليَّةِ والإجماليَّةِ، والباطِلِ وأدِلَّةِ بُطلانِه؛ أنزله اللهُ كذلك على رَسولِه [795] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 699). .
3- قولُه تعالى: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ
- قولُه: لِيُنْذِرَ يَتعلَّقُ بقولِه: عَلَّمْنَاهُ باعتبارِ ما اتَّصَلَ به مِن نَفْيِ كَونِه شِعرًا، ثمَّ إثباتِ كَونِه ذِكرًا وقُرآنًا، أي: لأنَّ جُملةَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ بَيانٌ لِمَا قبْلَها في قُوَّةِ أنْ لو قِيلَ: (وما علَّمناهُ إلَّا ذِكرًا وقُرآنًا مُبِينًا؛ لِيُنذِرَ ...) [796] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/66). .
- وعلى قراءةِ نافعٍ، وابنِ عامرٍ، وأبي جعفرٍ، ويَعقوبَ: لِتُنْذِرَ بتاءِ الخِطابِ [797] يُنظر: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 603)، ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/355). ؛ فيَكونُ فيه التِفاتٌ مِن ضَميرِ الغَيبةِ في قولِه: عَلَّمْنَاهُ إلى ضَميرِ الخِطابِ [798] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/66). .
- قولُه: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا هذا تَشبيهٌ بَليغٌ، أي: مَن كان مِثلَ الحيِّ في الفَهمِ، والمقصودُ منه التَّعريضُ بالمعرِضينَ عن دَلائلِ القرآنِ بأنَّهم كالأمواتِ لا انتفاعَ لهم بعُقولِهم [799] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/66). ؛ فقولُه: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا أي: عاقِلًا مُتأمِّلًا؛ فإنَّ الغافلَ بمَنزلةِ المَيتِ، أو مُؤمنًا في عِلمِ اللهِ تعالى؛ فإنَّ الحياةَ الأبديَّةَ بالإيمانِ. وتَخصيصُ الإنذارِ به؛ لأنَّه المنتفِعُ به [800] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/273)، ((تفسير أبي السعود)) (7/178). .
- وفي قَولِه: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ احتِباكٌ؛ حيثُ حُذِفَ الإيمانُ أوَّلًا؛ لِمَا دَلَّ عليه مِن ضِدِّه ثانيًا، وحُذِفَ الموتُ ثانيًا؛ لِما دَلَّ عليه مِن ضِدِّه أوَّلًا [801] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/169). .
- وفي ذِكْرِ الإنذارِ عَودٌ إلى ما ابتُدِئَتْ به السُّورةُ مِن قولِه: لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [يس: 6] -فهو كرَدِّ العَجُزِ على الصَّدرِ، وبذلك تمَّ مَجالُ الاستِدلالِ عليهم وإبطالِ شُبَهِهم- وتخلُّصٌ إلى الامتنانِ الآتي في قولِه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس: 71] إلى قولِه: أَفَلَا يَشْكُرُونَ [802] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/67). [يس: 73] .
- قَولُه: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا أفردَ الضَّميرَ هنا على اللَّفظِ؛ إشارةً إلى قِلَّةِ السُّعَداءِ، وجَمَع في الثَّاني وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ على المعنى؛ إعلامًا بكَثرةِ الأشقياءِ [803] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/169). .
- وقولُه: وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ أي: المُصِرِّينَ على الكُفرِ، وجعَلَ الكافرينَ في مُقابَلةِ مَن كان حيًّا؛ إشعارًا بأنَّهم لِكُفْرِهم وسُقوطِ حُجَّتِهم وعَدمِ تأمُّلِهم أمواتٌ في الحقيقةِ؛ لأنَّ الغافلَ كالمَيتِ [804] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/273)، ((تفسير أبي حيان)) (9/82)، ((تفسير أبي السعود)) (7/178). .