موسوعة التفسير

سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (12 - 14)

ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ

غريب الكلمات:

نَقِيبًا: ضَمينًا وأمينًا، وشاهدًا، أو كفيلًا، وسُمِّيَ نقيبًا؛ لأنَّه يَعْلَمُ دخيلةَ أمْرِ القَوْمِ، ويَعْلَم مناقِبَهم [352] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 141)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 460)، ((المفردات)) للراغب (ص: 820)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 148)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 914). .
وَعَزَّرْتُمُوهُمْ: أي: نَصَرْتُموهم وأَعَنْتُموهم وقوَّيتُموهم، أو عَظَّمْتُموهم، والتَّعزيرُ: النُّصْرةُ معَ التَّعظيمِ [353] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 141)، ((تفسير ابن جرير)) (8/244)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 332)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/311)، ((المفردات)) للراغب (ص: 564)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 149)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 661). .
وَأَقْرَضْتُمُ: أي: أنْفَقْتُم في سبيلِ الله، والقَرْضُ: ما يُدفَعُ من المالِ بشَرْط ردِّ بَدلِه، وأَصْلُ القَرْضِ: القَطْعُ؛ ومنه سُمِّيَ القَرْض؛ فكأنَّه شيءٌ قد قَطَعْتَه مِن مالِكَ [354] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/71، 72)، ((المفردات)) للراغب (ص: 666)، ((تفسير ابن كثير)) (3/59). .
سَوَاءَ السَّبِيلِ: أي: قَصْدَ الطَّريقِ ووَسَطه، والسَّواء: الوَسَطُ، والسَّبيلُ الطَّريق [355] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 141)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 258)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 89، 149). .
نَقْضِهِمْ: أي: نَبْذِهم إيَّاه بعدَ القَبولِ به، وتَرْكِهم العَمَلَ به، وأَصْلُ النَّقْضِ ضِدُّ الإِبرامِ: وهو فكُّ تركيبِ الشَّيءِ وردُّه إلى ما كان عليه أوَّلًا؛ فنَقْضُ البِناءِ: هَدْمُه، ونَقْضُ المبرَم: حلُّه [356] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 44)، ((المفردات)) للراغب (ص: 821). .
لَعَنَّاهُمْ: طَرَدْناهم وأَبْعَدْناهم مِن رَحْمَتِنا، واللَّعْنُ: الطَّرْدُ والإبعادُ على سبيلِ السَّخَطِ [357] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 400)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/252)، ((المفردات)) للراغب (ص: 741). .
خَائِنَةٍ: خِيانةٍ، أو جماعةٍ خائنةٍ منهم، أو خائنة بمعنى خائِن، كما يقال: رَجُلٌ طاغِيَة [358] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 142)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 206)، ((المفردات)) للراغب (ص: 809، 847)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 80)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 149). .
نَصَارَى: جمْع نصرانٍ ونصرانة، قيل: هو منسوبٌ إلى قريةِ نَصرة أو نصرانة، وهي قريةٌ نَزَلها عيسى عليه السَّلامُ، وقيل: كلمة النَّصارى في الأصل مأخوذةٌ مِنْ قَوْلِه: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ، ثم صار لازِمًا لهم بعدَ نَسْخِ شَريعَتِهم، وأصل (نصر): يدلُّ على إتيانِ خَيْرٍ وإيتائِه [359] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 847)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 78، 79). .
حَظًّا: نصيبًا مقدَّرًا، وَأصل (حظظ): النَّصِيبُ وَالْجَدُّ [360] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1 /186)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2 /14)، ((المفردات)) للراغب (1 /243)، ((التبيان)) لابن الهائم (1 /136). .
فَأَغْرَيْنَا: هيَّجْنَا، أو أَلْزَمْنا، مِن غَرِيَ بكذا، أي: لَهِجَ به ولَصِقَ، وأصلُ ذلك من الغِراء، وهو ما يُلْصَقُ به [361] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 56)، ((المفردات)) للراغب (ص: 606)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 80)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 149)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 153). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِر تعالى أنَّه أخَذَ على مَن تقدَّمَ مِن أَسْلافِ اليَهودِ عهدًا مؤكَّدًا، وأقام عليهم اثْنَي عَشَرَ رئيسًا، يَتلقَّى كلُّ رئيسٍ ممَّن تحتَه المبايعةَ على السَّمْعِ والطَّاعةِ والوفاءِ بعَهْدِ الله تعالى، ويتولَّى توجيهَهم وحثَّهم على القِيامِ به، ومُطالَبَتَهم بذلك، ويُخْبِر تعالى أنَّه قال لبني إسرائيلَ: إنَّه معهم، لَئِنْ قاموا بما واثقَهم عليه، وذلك بأداءِ الصَّلاةِ كما ينبغي، ودَفْعِ الزَّكاة لمن يستحِقُّها، والإيمانِ برُسُلِ الله، ونَصْرِهم على أعدائِهم، والإنفاقِ في سبيلِ اللهِ تعالى ابتغاءَ رِضاه، فإنْ قاموا بذلك، فسيعفو اللهُ عن ذُنُوبِهم، وسيُدْخِلُهم جنَّاتٍ تَجْري الأنهارُ تحت أَشْجارِها وقُصورِها، ومَن كفَر وخالَفَ ذلك الميثاقَ، فقد ضلَّ وغَوَى عن الطَّرِيقِ القَويمِ.
ثم أَخْبَرَ تعالى أنَّه- بسببِ عَدَمِ وفائِهم بِعَهْدِهم، ونَقْضِهم الميثاَق- طَرَدَهم مِن رَحْمَتِه، وجعَلَ قُلُوبَهم قاسيةً غليظةً لا تتأثَّرُ بالمواعِظِ، ولا خيرَ فيها؛ يُبدِّلونَ كلامَ الله في التَّوراة، وتركوا قَدْرًا كبيرًا مما ذُكِّرُوا به من الوَحْيِ متعمِّدينَ، ثم خاطَبَ اللهُ نبيَّه محمدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّه لا يزالُ يَكْتَشِفُ من اليهودِ المكرَ والخديعةَ، والغَدْرَ والخيانَةَ، إلَّا قليلًا منهم؛ يُوفون بِعُهودِهم التي يُبْرِمونها، ثم أَمرَه أن يَعْفوَ عن إساءَةِ هؤلاءِ القَوْمِ، وأنْ يُعْرِضَ عنهم؛ إنَّ الله يُحِبُّ المحسنينَ.
ثم بيَّن تعالى أنَّه أَخَذَ أيضًا العَهْدَ والميثاقَ مِن الذين ادَّعَوْا أنَّهم نَصَارى بأنْ يُطِيعُوا اللهَ، ويتَّبِعوا رُسلَه، فتَرَكوا قَدْرًا كبيرًا مما ذُكِّروا به مِنَ الوَحْيِ متعمِّدينَ، فعاقبَهم الله أنْ جعَل بينهم التباغُضَ والكراهيةَ والشِّقاقَ إلى يوم القيامَةِ، وسوف يُخْبِرهم سبحانه في ذلك اليَوْمِ بما كانوا يَفْعَلونه في الدُّنيا، وسيُعاقِبُهم عليه.

تفسير الآيات:

وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14).
مُناسَبَةُ الآياتِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنينَ بالوَفاءِ بعَهْدِه ومِيثاقِه، الذي أَخَذَه عليهم على لِسانِ عَبْدِه ورسولِه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وأَمَرَهم بالقيامِ بالحقِّ والشَّهادَةِ بالعَدْلِ، وذكَّرَهم نِعَمَه عليهم الظَّاهِرةَ والباطِنَةَ، فيما هداهم له من الحقِّ والهُدى؛ شرَعَ يُبَيِّنُ لهم كيف أخَذَ العُهودَ والمواثيقَ على مَن كان قَبْلَهم مِن أَهْلِ الكِتابينِ: اليهودِ والنَّصارى [362] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/64)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (6/139). ، فقال تعالى:
وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
في هذه الآيَةِ وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ناسَبَ ذِكْرُ ميثاقِ بني إسرائيلَ عَقِبَ ذِكْرِ ميثاقِ المُسلمينَ مِنْ قَوْلِه: وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ؛ تحذيرًا من أنْ يكونَ ميثاقُ المسلمينَ كمِيثاقِهم، ولكي يؤدِّيَ المسلمونَ مِن جانبِهم ما استُحْفِظُوا عليه، ويتَّقُوا أن يَنقُضُوا ميثاقَهم معه [363] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/139)، ((تفسير أبي حيان)) (4/201)، ((تفسير الرازي)) (11/322، 323). ، فقال تعالى:
وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
أي: قد أَخَذْنا على مَن تَقَدَّمَ مِن أَسْلافِ اليهودِ عَهدًا ثقيلًا مؤكَّدًا وغليظًا [364] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/234-235)، ((تفسير السعدي)) (ص: 225)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/169). .
وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا.
أي: وأقَمْنا عليهم اثْنَي عَشَرَ رئيسًا، موكولًا إليهم مُهِمَّةُ تَلقِّي مبايعَةِ مَن تَحْتَهم على السَّمْعِ والطَّاعَةِ؛ وفاءً بعهد الله تعالى، ومُهِمَّةُ تَوجيهِهم وحثِّهم على القيامِ به، ومُطالَبَتِهم به [365] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/235-236)، ((تفسير ابن كثير)) (3/64)، ((تفسير السعدي)) (ص: 225)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/139-141)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/169-170). قال ابنُ عَطيَّة: (اختَلف المفسِّرون في كيفيَّة بَعْثة هؤلاءِ النقباءَ بعدَ الإجماع على أنَّ النقيب كبيرُ القوم القائم بأُمورهم، الذي يُنقِّب عنها وعن مصالِحهم فيها) ((تفسير ابن عطية)) (2/167). .
وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ.
أي: وقال اللهُ تعالى لبني إسرائيلَ: إنِّي مَعَكم بالحِفْظِ والعَوْنِ، والنَّصْرِ والتَّأييدِ [366] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/242)، ((تفسير ابن كثير)) (3/66)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/170، 177). قال ابن عاشور: (والظاهرُ أنَّ هذا القولَ وقَعَ وعدًا بالجزاء على الوفاء بالميثاق) ((تفسير ابن عاشور)) (6/141). .
ثم ذَكَر اللهُ عزَّ وجلَّ ما وَاثَقَهم عليه [367] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/649)، ((تفسير السعدي)) (ص: 225). ، فقال:
لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ.
أي: واللهِ إنْ أدَّيتُم- يا مَعْشَرَ بني إسرائيلَ- الصَّلاةَ على نحوٍ مُستقيمٍ ظاهرًا وباطنًا، ودَفَعْتُم الزكاةَ إلى مُستحِقِّيها كما أَمرْتُكم [368] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/242)، ((تفسير السعدي)) (ص: 225)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/170-171). قال ابنُ عاشور: (وجملة لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ... الآية، استئنافٌ محض ليس منها شيءٌ يتعلَّق ببعض ألفاظ الجملة التي قَبلها، وإنَّما جمعهما العامل، وهو فِعل القول، فكِلتاهما مقول؛ ولذلك يَحسُنُ الوقفُ على قوله: إِنِّي مَعَكُمْ، ثم يستأنف قوله: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ إلى آخِره) ((تفسير ابن عاشور)) (6/141). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) 6/113). .
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي.
أي: وإنْ صَدَّقْتُم رُسُلي فيما جَاؤُوكُمْ به مِنَ الوَحْيِ، وأَقرَرْتُم وأَذْعَنْتُم وانْقَدْتُم لهم، دونَ تفريقٍ بينهم، ومنهم محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ [369] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/242)، ((تفسير ابن كثير)) (3/66)، ((تفسير السعدي)) (ص: 225)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/171). .
وَعَزَّرْتُمُوهُمْ.
أي: وإنْ نَصَرْتُموهم على أَعْدائِهم [370] اختار هذا القَوْلَ: ابنُ جرير في ((تفسيره)) (8/244-245)، وابن كثير في ((تفسيره)) (3/66)، وابن عاشور في ((تفسيره)) (6/142). وممَّن قال بهذا القول من السَّلف: مجاهدٌ، والسُّدِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/243). قال ابنُ جرير: (وأَوْلى هذه الأقوال- عندي في ذلك- بالصَّواب قولُ مَن قال: معنى ذلك: نصرتموهم، وذلك أنَّ الله جلَّ ثناؤه قال في سورة الفتح: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 8-9] فالتوقيرُ: هو التعظيمُ، وإذا كان ذلك كذلك، كان القولُ في ذلك إنَّما هو بعضُ ما ذكَرْنا من الأقوال التي حَكيناها عمَّن حَكَيْنا عنه، وإذا فسَد أن يكونَ معناه التعظيمَ، وكان النصرُ قد يكون باليدِ واللِّسان؛ فأمَّا باليد فالذبُّ بها عنه بالسيف وغيرِه، وأمَّا باللِّسان فحُسن الثَّناء، والذَّبُّ عن العِرض- صحَّ أنَّه النصرُ؛ إذ كان النصرُ يحوي معنَى كلِّ قائلٍ قال فيه قولًا ممَّا حكينا عنه) ((تفسير ابن جرير)) (8/244-245). وقال ابنُ عاشور: (والتعزير: النَّصر؛ يُقال: عزَره مُخفَّفًا، وعزَّره مشدَّدًا، وهو مبالغةٌ في عزَره عزرًا إذا نَصَره، وأصلُه المنع؛ لأنَّ الناصرَ يمنع المعتدي على منصور) ((تفسير ابن عاشور)) (6/142). قال الأزهري: (وقال أبو عبيدةَ في قولِه: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ قال: عظَّمتُموهم. وقال غيرُه : وَعَزَّرْتُمُوهُمْ: نَصرتُموهم. وقال إبراهيمُ بن السَّريِّ: وهذا هو الحقُّ، والله أعلم؛ وذلك أنَّ العزْر في اللُّغة: الردُّ، وتأويل عزرت فلانًا، أي: أدَّبته، إنما تأويله: فعلتُ به ما يَرْدَعه عن القبيح؛ كما أنَّ نكَّلت به تأويله: فعلتُ به ما يجب أن يَنكُل معه عن المعاودة؛ فتأويل عَزَّرْتُمُوهُمْ نَصرتموهم، بأنْ تردُّوا عنهم أعداءَهم، ولو كان التعزيرُ هو التوقيرَ لكان الأجودُ في اللُّغة الاستغناءَ به، والنصرة إذا وجبتْ، فالتعظيم داخلٌ فيها؛ لأنَّ نُصرةَ الأنبياء هي المدافعةُ عنهم، والذبُّ عن دِينهم وتعظيمهم وتوقيرهم) ((تهذيب اللغة)) (2/78). واختار أنَّ التَّعزير هنا بمعنى: التَّعظيم والتوقير. الواحدي في ((الوجيز)) (ص: 311)، والسعدي في ((تفسيره)) (ص: 225). واختار كِلَا المعنيَيْن: الواحديُّ في ((التفسير الوسيط)) (2/166)، وابن عَطيَّة في ((تفسيره)) (2/168)، وابنُ تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (1/67). .
كما قال اللهُ تعالى لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 8-9].
وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا.
أي: وإنْ أَنْفَقْتُم في سبيلِ الله تعالى عن إخلاصٍ وصِدْقٍ؛ ابتغاءَ مَرْضاةِ الكريمِ الوهَّابِ، واحتسابًا لجزيلِ الأَجْرِ والثَّوابِ [371] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/66)، ((تفسير السعدي)) (ص: 225)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/171-172). .
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ.
أي: لَئِنْ قُمْتُم بهذه الأُمُورِ التي افتَرَضْتُها عليكم، لأُغَطِّيَنَّ بعَفْوِي عنكم على ذُنوبَكم التي سَلَفَتْ منكم، ولا أُؤَاخِذُكم بها [372] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/246)، ((تفسير ابن كثير)) (3/66). قال ابنُ عُثيمين: (قوله: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ أَجعلُها مُكَفَّرةً بالحسنات التي فُعِلَت، من إقامة الصَّلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بالرُّسل وتعزيرهم، وإقراض الله قرضًا حسنًا؛ فالسيِّئات تُكَفَّر بهذه الحسنات) ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/173). .
وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
أي: وسأُدخِلُكم يومَ القيامَةِ جنَّاتٍ تَجري فيها الأنهارُ مِن تحت أَشْجارِها وقُصُورها [373] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/246)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/174-175). .
فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ.
أي: فمَن خالَف هذا الميثاقَ المؤكَّدَ وجَحَدَه، فقد عَدَلَ عن طَريقِ الحقِّ الواضِحِ، وتاهَ عن الصِّراطِ المُستقيمِ [374] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/247-248)، ((تفسير ابن كثير)) (3/66)، ((تفسير السعدي)) (ص: 225)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/176). .
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13).
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ.
أي: فبِسَبَبِ عَدَمِ وفاءِ اليَهودِ بالعَهْدِ المؤكَّدِ الذي أُخِذَ عليهم؛ طَرَدْناهم مِنْ رَحْمَتِنا، وأَبْعَدْناهم عن الحقِّ والهُدى [375] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/248)، ((تفسير ابن كثير)) (3/66)، ((تفسير السعدي)) (ص: 225)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/188-189). .
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً.
القراءاتُ ذاتُ الأَثَرِ في التَّفْسيرِ:
في قَوْلِه تعالى: قَاسِيَةً قِراءتانِ [376] قال ابن عثيمين: (قَاسِيَةً اسم فاعل، و(قَسيَّة) صفة مُشبَّهة، والصفة المشبَّهة أغلظُ من اسْمِ الفاعِلِ؛ لأنَّها وصفٌ ملازِمٌ... فالصِّفَةُ المشبَّهة ملازِمَةٌ، إذَنْ [في] قَاسِيَةً ... قِراءتان، وإذا كان في الآية قِراءتان، فالمعنى أنَّ الأمرينِ كِلاهما حاصلٌ؛ فهي قسيَّةٌ وهذا وصفُها الملازِمُ، وقاسية عند وجودِ ما يُوجِبُ لينَ القَلْبِ تقسو، والعياذ بالله؛ فهي قسيَّة وَصْفًا، قاسيةٌ فعلًا) ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/189). :
1- قَسِيَّةً بتَشْديدِ الياءِ من غير ألِفٍ، على وَزْنِ (فعيل)؛ للمبالغَةِ، وقيل: لإفادَةِ معنى التَّكريرِ، وهذا أبلغُ في الذَّمِّ والمَدْح من (فاعل)، وقيل: (قَسِيَّة)، أي: رَدِيئة، فتكون القُلُوبُ القَسِيَّةُ هي التي لَيْسَتْ بخالصةِ الإيمانِ، أي قد خالَطَها كُفْرٌ، فهي فاسِدَةٌ [377] قرأ بها حمزةُ، والكسائيُّ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (ص: 223). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 129)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 224)، ((الكشف عن وجوه القراءات السبع)) لمكي (1/408). ((تفسير أبي حيان)) (4/204). .
2- قَاسِيَةً بالأَلِف وتخفيفِ الياءِ، اسمُ فاعِلٍ مِن قَسَا يَقْسُو، والقلوبُ القاسِيَةُ هي الغَلِيظةُ البائِنَةُ عن الإيمانِ، والتي نُزِعَت منها الرَّحمةُ والرَّأفة [378] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (ص: 223). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الكشف عن وجوه القراءات السبع)) لمكي (1/408)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/222). .
وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً.
أي: وبِسَبَب عَدَمِ وفائِهم بالعَهْدِ المؤكَّدِ الذي أُخِذَ عليهم، عاقَبْناهم أيضًا بأنْ جَعَلْنا قُلُوبَهم ملازِمةً لصِفَةِ القَسْوَةِ والغِلْظَةِ، مَنزوعًا منها الخَيْرُ، وإذا ما اتَّعَظوا؛ فإنَّه لا تُجْدِي فيهم المواعِظُ، وإذا تُلِيَتْ عليهم الآياتُ؛ فإنَّهم لا يَنْتَفِعونَ بها، فلا يُرغِّبُهم تشويقٌ، ولا يُرَهِّبُهم تخويفٌ [379] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/251)، ((تفسير ابن كثير)) (3/66)، ((تفسير السعدي)) (ص: 225)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/189). .
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ.
أي: إنَّ قَسْوَةَ قُلوبِهم جَعَلَتْهم يُحرِّفونَ كلامَ ربِّهم في التَّوراةِ التي أَنْزَلَها على نبيِّهم مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فتأوَّلوا كلامَه على غَيْرِ ما أَنْزَلَه، وحَمَلُوه على غيرِ مُرادِه، وقالوا عليه ما لم يَقُلْه تعالى وتَقدَّسَ [380] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/251)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/110)، ((تفسير ابن كثير)) (3/66)، ((تفسير السعدي)) (ص: 225)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/189-190). .
وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.
أي: ونَسُوا نصيبًا مِن وَحْيِ الله تعالى، فضاعَ منهم، كما أنَّهم أَهْمَلوا- وتَركوا عن عَمْدٍ- نصيبًا منه، فلم يَعْمَلوا به؛ رَغبةً عنه، فضيَّعوا أمْرَ اللهِ عزَّ وجلَّ [381] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/252)، ((تفسير ابن كثير)) (3/66)، ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/37)، ((تفسير السعدي)) (ص: 225)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/190-191). .
وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ.
أي: ولا تزالُ- يا محمَّدُ- تكتَشِفُ وتشاهِدُ مِنَ اليَهودِ شيئًا ممَّا هم مُسْتَمِرُّونَ عليه مِنَ المَكْرِ والغَدْرِ، والخيانَةِ والخَديعةِ لك ولأصحابِك، إلَّا قليلًا من اليَهودِ قد سَلِموا من ذلك؛ فهم يُوفُونَ بِمَا عُوهِدُوا عليه [382] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/252-254)، ((تفسير ابن كثير)) (3/66)، ((تفسير السعدي)) (ص: 225-226). .
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ.
أي: فتَجَاوَزْ- يا محمَّدُ- عن أولئك القَوْمِ، ولا تُؤاخِذْهم على ذلِك، وأَعْرِضْ عنهم [383] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/255)، ((تفسير ابن كثير)) (3/66-67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 226). .
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
أي: إنَّما أَمَرْناك بالعَفْوِ والصَّفْحِ عن أولئك القَوْمِ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُحِبُّ عبادَه المُحسنينَ، الذين مِن إِحْسَانِهم العفوُ والصَّفحُ عمَّن أَسَاءَ إليهم [384] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/255)، ((تفسير ابن كثير)) (3/67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 226)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/195). .
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) .
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ.
أي: وأَخَذْنا مِنَ الَّذينَ ادَّعَوْا أنَّهم نَصَارى يَنصرُون الحقَّ، ويتَّبِعُونَ المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ عليه السلام؛ أخَذْنا عليهم العُهُودَ والمواثيقَ على طاعَتِي واتِّباعِ رُسُلِي [385] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/256)، ((تفسير ابن كثير)) (3/67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 226)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/201). .
فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.
أي: فنَسُوا نَصيبًا مِن وَحْيِ اللهِ تعالى، فضاع منهم، كما أنَّهم أَهْمَلوا- وتَرَكوا عن عمدٍ- نصيبًا منه، فلمْ يعملوا به؛ رغبةً عنه، فضيَّعوا أَمْرَ اللهِ سبحانه [386] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/256)، ((تفسير ابن كثير)) (3/67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 226)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/202). .
فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
أي: لَمَّا ترَكَ هؤلاء النَّصارى الوَفَاءَ بعهْدِي، عاقَبْناهم بأنْ جَعَلْنا بينهم الشِّقاقَ والعَدَاءَ والتباغُضَ؛ بالأَهواءِ التي حدَثتْ بينهم، واختلافِهم في قَوْلِهم في المسيحِ، فتَسَلَّط بعضُهم على بعضٍ، فكَفَّرَ بَعْضُهم بعضًا، ولعَن بَعْضُهم بعضًا، ولا يزالونَ كذلك إلى قِيامِ السَّاعَةِ [387] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/257-261)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/124)، ((تفسير ابن كثير)) (3/67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 226)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/202-203). .
وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ.
أي: وسوف يُخْبِرُهم اللهُ عزَّ وجلَّ- عند وُرودِهم عليه في مَعادِهم- بما كانوا يَعْمَلونه في الدُّنيا مِنْ نَقْضِهم ميثاقَه، ونَكْثِهم عَهْدَه، فيُعاقِبُهم على ذلك بحَسَبِ استحقاقِهم [388] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/261)، ((تفسير ابن كثير)) (3/67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 226)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/203-204). .

الفوائد التربوية:

1- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا أنَّه ينبغي للنَّاسِ أن يتَّخِذوا نُقَبَاءَ يرجعونَ إليهم في أُمُورِهم؛ عند النِّزاع يكونونَ مُصلِحين، وعند الإِشكالِ يكونون مُوَضِّحينَ، وما أشبهَ ذلك [389] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/177). .
2- في قَوْلِه تعالى: إِنِّي مَعَكُمْ هذه المعيَّةُ دَلالةٌ على عِظَمِ الاعتناءِ والنُّصْرةِ، فمَن كان اللهُ معه، فلا شَيءَ إذنْ ضِدُّه، ومهما يكُنْ ضِدَّه من شيءٍ، فهو هباءٌ لا وُجودَ في الحقيقةِ له ولا أَثَرَ، ومَن كان اللهُ معه فلن يَضِلَّ طريقَه، ومَن كان اللهُ معه فلنْ يَقْلقَ ولن يَشقَى؛ فإنَّ قُرْبَه من الله يُطَمْئِنُه ويُسْعِدُه، وعلى الجملةِ فمَن كانَ الله معه فقد ضَمِن، وقد وصَلَ، وما له زِيادةٌ يَستزيدُها على هذا المقامِ الكريمِ [390] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/203).
3- وُجوبُ نُصْرَةِ الرُّسُلِ؛ لقوله: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ، فنُصْرَتُهم في حياتهم أن يكونَوا معهم في الجهادِ والدِّفاعِ، وغير ذلك، ونُصْرَتُهم بعد وَفاتِهم أن يَنصُروا شَرَائِعَهم ويُقِيمُوها بين النَّاسِ، فواجِبٌ علينا نحن الآن أن نَنْصُرَ شريعةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّمَ [392] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/184). .
4- أنَّه يُبْدَأُ بالنَّجاةِ مِنَ المرْهوبِ قبل بيانِ حُصُولِ المَطْلوبِ؛ لِقَوْلِه: لأَكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأَدْخِلَنَّكُمْ، وهو شاهدٌ لِمَا اشْتَهَرَ عند العُلماءِ أنَّ التَّخْلِيَةَ قَبل التَّحْلِيَة، أي: إزالةُ الشَّوائِبِ والعوائِقِ قبل أن يَحصُلَ المَطْلوبُ [393] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/185). .
5- قَوْله: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ فيه أنَّ المؤمِنَ اهتدى إلى سواءِ السَّبيلِ؛ أي: وَسَطَها دُونَ حافَتَيْها، وجهُ ذلك: أنَّه إذا ثَبَتَ في حُكم الكافِرِ ضلالُ سواءِ السَّبيلِ، فَيَثْبُتُ ضدُّ حُكْمِه للمُؤْمِنِ؛ وذلك لأنَّه إذا تضادَّتِ الأَعْمالُ تضادَّتِ الجزاءاتُ [394] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/186). .
6- يُستَفادُ من قوله تعالى: وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً أنَّ للقُلوبِ أحوالًا: قسوةً ولينًا، وأنَّه كلَّما عصى الإنسانُ ربَّه قَسَا قلبُه، وعلى العكس: كلَّما أطاعَ الإنسانُ ربَّه لانَ قلبُه، وما أكثرَ الذين يَطلُبون أن تلينَ قلوبُهم، ويسألونَ ما هو الدواءُ لقَسْوَةِ القَلْبِ؟ فالجوابُ أنَّ الدَّواءَ لقَسْوَةِ القلب: كثرةُ طاعَةِ الله عزَّ وجلَّ [395] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/197). ، والإكثارُ مِن الذِّكْرِ، وقراءةُ القرآنِ بتدبُّر.
7- أنَّ المعاصِيَ سببٌ لقلَّة فَهْم كلام الله عزَّ وجلَّ، أو للعُدْوانِ في فَهمِه؛ لقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ، وتحريف الكَلِم عن مواضعه: إمَّا أن يكون سببُه الجهلَ وفَقْدَ العِلم، وإمَّا أن يكون سببُه الاستكبارَ والعدوان، فالمعاصِي سببٌ لعَدَمِ الأخْذِ بالنُّصوصِ، وسببٌ لتَحْريفِها [396] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/198). .
8- يُستفادُ مِنْ قَوْلِه تعالى: وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أنَّ قسوةَ القلبِ، وتحريفَ الكَلِمِ عن مواضعه، ونِسيانَ ما ذُكِّرَ به الإنسانُ؛ مِن خصالِ اليهودِ، وإذا كانتْ من خِصالِهم، فالواجبُ على الإنسانِ أن يبتَعِدَ عنها، وأن يَفِرَّ منها فِرارَه مِنَ الأَسَدِ [397] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/198). .
9- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ حُسْنُ معامَلَةِ الإسلام لعدوِّه، وذلك حين أَمَرَ اللهُ بالعفو عنهم والصَّفْحِ، ولا سيَّما إذا ظَهَرَ النَّصْرُ لنا، فحينئذٍ يأتي دورُ العَفْوِ؛ لأنَّ العَفْوَ الحقيقيَّ الذي يُمدَحُ عليه صاحِبُه، هو: العَفْوُ مع القُدْرَةِ، أمَّا العَفْوُ مع العَجْزِ، فهذا ليس بِعَفْوٍ، ولا يُحمَدُ عليه الإنسانُ [398] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/199). .
10- قوله: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ هذا كالتَّعليلِ لِمَا سبَق مِنْ قَوْلِه: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ، أي: إنَّما أَمَرْناك بالعَفْوِ والصَّفْحِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يحبُّ المحسنينَ، وفيه أيضًا أنَّه إذا كان اللهُ يُحِبُّ ذلك فلا ينبغي التأخُّرُ في العَمَلِ به، وفيه الحثُّ على الإِحْسانِ ومَكارِمِ الأخلاقِ الجالِبةِ لحبِّ الله تعالى [399] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/195، 200). .
11- أنَّ عدَمَ المؤاخَذةِ على الذَّنبِ من الإحسانِ؛ لقوله: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [400] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/199). .
12- أنَّ إضاعةَ حقِّ اللهِ مِن أسبابِ إلْقاءِ العَداوةِ والبَغْضِاءِ بين الناس، بمعنى أنَّك متى وجدْتَ عداوةً وبَغْضاءَ بين النَّاس، فهذا بسببِ إعراضِهم عن دِين اللهِ؛ لقوله: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا، فالفاءُ في فَأَغْرَيْنَا للسَّبَبيَّةِ، والعكْسُ يكون بالعَكْسِ، بمعنى أنَّ النَّاسَ إذا قاموا بِطاعَةِ اللهِ واتَّفَقوا عليها، فإنَّ اللهَ يُلقي بينهم المودَّةَ والمحبَّةَ والولايةَ [401] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/205). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- أنَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ مفروضةٌ على الأُمَمِ السَّابقة؛ لِقَوْلِه: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، فالصَّلواتُ والزَّكوات مفروضةٌ، لكن لا يَلْزَمُ مِن كَوْنِها مفروضةً أن تكونَ مماثِلَةً لِمَا وجَبَ علينا في الكيفيَّةِ والوَقْتِ والمقدار [402] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/183). .
2- بيانُ فَضْلِ اللهِ عزَّ وجلَّ على العِبادِ؛ حيث إنَّه يُعْطِيهم الرِّزْقَ، ثمَّ يقولُ تعالى: وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا، وهو المُعطي أولًا، والمثيبُ ثانيًا؛ لقوله: وَأَقْرَضْتُمُ، والحكمةُ في التَّعبيرِ عن الإِنْفاقِ في سبيلِ الله بالقَرْضِ، أنَّ اللهَ جعَلَ الإنفاقَ في سبيلِه بمنزلَةِ القَرْضِ الذي يَلْزَم المُستَقْرِضَ أنْ يُوَفِّيَه [404] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/184). .
3- قوْلُه تعالى: لَأُكَفِّرَنَّ إشارةٌ إلى إزالةِ العِقابِ، وقولُه: وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ إشارةٌ إلى إيصالِ الثَّوابِ؛ فجَمَعَ لهم بين حصولِ المحبوبِ بالجَنَّةِ وما فيها من النَّعيمِ، واندفاعِ المكروهِ بتكفيرِ السيِّئاتِ، ودفْعِ ما يترتَّبُ عليها من العُقوباتِ [405] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/204)، ((تفسير السعدي)) (ص: 225). .
4- أنَّ نعيمَ الجنَّة نعيمٌ للنَّفْسِ والقَلْب، والسَّمْعِ والبصر، وكلِّ شيءٍ، وذلك حينما ذكَر أنَّ هذه الجَنَّاتِ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وهذا لا شَكَّ أنه يُطْرِبُ السَّمْعَ، فحفيفُ جَريانِ النَّهْرِ يُطْرِبُ السَّمع؛ ولهذا تَجِدُ الإنسانَ يقِفُ عند الشلَّالاتِ متمتِّعًا بالاستماعِ إليها، وكذلك النَّظَر أيضًا، وكذلك القَلْبُ، والنَّفْسُ تستريحُ [406] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/185). .
5- في هذه الآيَةِ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ لطيفةٌ جليلةٌ، وهي أنَّ الضلالَ بعدَ الإيمانِ أظهَرُ وأعظَمُ؛ لأنَّ الكُفْرَ إنَّما عَظُم قُبْحُه لِعِظم النِّعْمَةِ المكفورةِ، فإذا زادتِ النعمةُ زاد قُبحُ الكُفرِ، وبَلَغ النِّهايةَ القُصْوى [407] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/324). .
6- يُستَفادُ مِنْ قَوْلِه: فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ التَّنبيهُ على أنَّ الغالِبَ أنَّ وَسَطَ السَّبيلِ والطَّريقِ هو الحقُّ؛ لأنَّ سَوَاءَ بمعنى وَسَط؛ كَقَوْله تعالى: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات: 55] ، أي: في وسَطِها ومستَقَرِّها، وهذا هو الغالِبُ؛ أنَّ ما تَطرَّفَ عن الوَسَطِ، فهو ضلالٌ [408] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/187). .
7- قوْلُه تعالى: ونَسُوا حَظًّا: عبَّر بالماضي نَسُوا؛ لأنَّ النِّسيانَ لا يتجَدَّدُ، فإذا حَصَلَ مضى، حتى يذكِّرَه مذكِّرٌ [409] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/144). .
8- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا أنَّ النِّسيانَ يأتي لمعنيينِ: الأوَّل: النِّسيان العَمليُّ، ومعناه التَّرْك، والثَّاني: النسيانُ العِلميُّ، وهو النسيان بعدَ الذِّكْر، والمرادُ مِنَ الآيَةِ كِلاهما [410] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/191). .
9- أنَّ هؤلاء قد أُقيمَتْ عليهم الحُجَّة، ولكنَّهم ترَكوا العَمَلَ بعد إقامَةِ الحُجَّةُ؛ لقوله: مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [411] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/57)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/198). .
10- أنَّ خِيانةَ اليَهودِ لا تزالُ باقيةً؛ لِقَوْلِه: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ، وفي ذلك تسليةٌ له صلَّى الله عليه وسلَّمَ [412] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/58) ، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/199). ، وإرشادٌ للمُسلمين في كلِّ زمانٍ ومكانٍ ألَّا يَنخْدِعوا بهم.
11- إثباتُ المحبَّةِ لله تعالى؛ لقوله: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، ومحبَّةُ الله عزَّ وجلَّ ثابتةٌ بالكِتابِ والسُّنة وإجماعِ السَّلَفِ [413] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/199). .
12- إقامةُ الحُجَّة على الخَصمِ بما يَدَّعيه؛ لقوله: قَالُوا إِنَّا نَصَارَى؛ لأنَّه تقدَّم أنَّ الحِكمةَ مِنْ قَوْلِه: قَالُوا إِنَّا نَصَارَى دون قَوْلِه: (ومِن النَّصارى)؛ لإقامَةِ الحُجَّة عليهم بما ادَّعوه، فهم يَدَّعون أنَّهم نصارى، ومع ذلك نَسُوا حظًّا ممَّا ذُكِّروا به؛ فقد سَمَّوا أنفُسَهم بهذا الاسْمِ؛ ادِّعاءً لنُصرةِ الله تعالى، فبيَّن اللهُ تعالى أنَّهم يَدَّعونَ هذه الصِّفَةَ، ولكنَّهم ليسوا موصوفينَ بها عند الله تعالى، ولم يُحقِّقُوها في حياتهم واقعًا [414] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/326)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/60)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/146)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/204). .
13- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ وكذلك من قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وقَوْلِه: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ، أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى لم يُغْفِل أُمَّةً من الميثاقِ الذي أخَذَه عليهم؛ فأخَذَ الميثاقَ على اليهودِ، وأخَذَه على النَّصارى، وأخَذَه على هذه الأُمَّة؛ بل أخَذَه على جميعِ بني آدمَ [415] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/204). .
14- يُستَفاد مِنْ قَوْلِه: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ التفريقُ بين العَداوَةِ والبَغضاءِ، العداوة: ضِدُّها الوَلاية، والبَغضاء: ضدُّها المحبَّةُ، وهناك فرقٌ بين حبيبٍ ليس وليًّا وبين حبيبٍ هو وَلِيٌّ، وبين بغيضٍ ليس عدوًّا، وبغيضٍ هو عدوٌّ؛ لأنَّ البَغيضَ قد يَعتدي عليك فيكون بذلك بَغيضًا عدوًّا، وقد لا يَعتدي عليك، ولكن يَكْرَهُك فقط، فلا يكون عدوًّا [416] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/205). .
15- الردُّ على الجبريَّة؛ لقوله: يَصْنَعُونَ، فأضافَ الفعلَ إليهم، والأَصْلُ أنَّ الفِعْلَ إذا أُضيف إلى أحدٍ، فإنَّه قائمٌ به، مختار له، والجَبْرية يقولون: إنَّ الإنسانَ مجبَرٌ على عَمَلِه، حتى في الحرَكاتِ الإراديَّةِ، يقولون: هو مُجبَر، حتى لو أراد الإنسانُ أن يأكلَ أو يشربَ، يقولون: هو مُجبَرٌ على ذلك، ولا شكَّ أنَّ قَوْلَهم هذا يُخالِفُ المحسوسَ والمعقولَ والمنقولَ [417] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/205). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ...
- قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فيه تأكيدُ الخَبَرِ الفِعلي والاهتمامُ به؛ فـ(قَدْ)؛ للاهتمام به، والقَسَمُ الذي دلَّت عليه هذه اللَّامُ الموطِّئة يُفيدُ أنَّ اللهَ تعالى قد أخَذ العهد الموثَّقَ على بني إسرائيلَ لَيَعْمَلُنَّ بالتَّوراةِ التي شرَعها لهم؛ لإفادَةِ تأكيدِ هذا الأَمْرِ وتحقيقِه، والاهتمامِ بما رُتِّب عليه؛ لأنَّ الرَّسولَ قد عُلِّمَه بالوَحْيِ الإلهيِّ، وإنْ لم يَطَّلِعْ على تَوْراتهِم، ولا على شَيءٍ من تاريخِهم [418] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/232)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/139). .
- وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ: ذكَر الله سبحانه نَفْسَه بالغَيبة؛ تعظيمًا وتكبيرًا له جلَّ وعلا، وَجْهُه أنَّه لم يقُل: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا)، وهذا كما يقول الملكُ لجنوده: إنَّ المَلِك يأمرُكم أن تَفْعلوا كذا، لا يقول: إنِّي آمُرُكم، فإظهارُ الاسْمِ الجليل (اللهُ)؛ لتربيةِ المهابة، وتفخيمِ الميثاقِ، وتهويلِ الخَطْبِ في نَقْضِه، مع ما فيه من رِعاية حقِّ الاستئنافِ المُستدعِي للانقطاعِ عمَّا قَبْلَه [419] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/14)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/176). .
2- وقوله: وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا: فيه التفاتٌ، حيث عبَّر بقوله: بَعَثْنَا بعد وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ، ولم يقل: (وأَخَذْتُ)؛ للجَريِ على سَنَنِ الكِبْرياءِ، وقيل: لأنَّ البَعْثَ كان بواسِطَة موسى عليه السَّلام [420] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/14). ، فمِن أساليبِ البلاغة الانتقالُ من أسلوبٍ إلى آخَرَ؛ لتنبيهِ المخاطَب، ولا شكَّ أنَّ تغيُّر الأسلوبِ يُوجِبُ الانتباهَ [421] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/176). .
- وفيه: تقديمُ الجارِّ والمجرورِ مِنْهُمُ على المفعولِ الصَّريحِ اثْنَي عَشَرَ؛ للاهتمامِ بالمقدَّم، والتَّشويقِ إلى المُؤَخَّر [422] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/14). .
3- وقوله: وَقَالَ اللهُ فيه: التفاتٌ أيضًا؛ حيث لم يقُل: (وقُلْنَا) كما قال وَبَعَثْنَا، وفائدتُه: تربيةُ المهابةِ، وتأكيدُ ما يتضمَّنُه الكلامُ مِنَ الوَعْدِ [423] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/15). .
4- قوله: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي فيه: تقديمُ الصَّلاةِ والزَّكاةِ على الإيمانِ؛ تشريفًا لهما، وقد عُلِمَ وتَقرَّر أنَّه لا ينفعُ عَمَلٌ إلَّا بالإيمانِ [424] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/203). ، وأخَّرَ الإيمانَ بالرُّسُلِ عن إقامِ الصَّلاة وإيتاءِ الزكاة، مع أنَّه مقدَّمٌ عليهما؛ لأنَّ اليهودَ كانوا مُقرِّينَ بأنَّه لا بدَّ في حُصولِ النَّجاة من إقامِ الصَّلاةِ وإيتاء الزكاة، إلَّا أنَّهم كانوا مُصِرِّين على تكذيبِ بعضِ الرُّسُل، فذَكَر أنَّ بعدَ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة لا بدَّ من الإيمانِ بجميعِ الرُّسُل؛ حتى يحصُلَ المقصودُ، وإلَّا لم يكُن لإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزكاة تأثيرٌ في حُصولِ النَّجاة بدونِ الإيمانِ بجميع الرُّسُل [425] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (7/250)، ((تفسير الشربيني)) (1/361)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/184). .
5- قوله: وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فيه: تخصيصُ الإنفاقِ (الإقراض) بالذِّكْرِ؛ تنبيهًا على شَرفِه وعُلُوِّ مَرتَبَتِه [426] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/324). .
- وفائدةُ إعادَةِ قَوْلِه: وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا بالرَّغمِ من أنَّه داخلٌ تحتَ إيتاءِ الزَّكاة؛ لأنَّ المرادَ بالزكاةِ الواجبةُ وبالقرضِ الصَّدقةُ المندوبةُ، وخصَّها تنبيهًا على شَرفِها، وقد نبَّه على الصَّدقاتِ المَندوبَةِ بذِكْرها فيما يترتَّبُ على المجموعِ تشريفًا وتعظيمًا لمَوْقِعِها من النَّفْعِ المتعدِّي [427] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/203)، ((تفسير ابن عادل)) (7/250)، ((تفسير الشربيني)) (1/361). .
6- قوله: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ: فيه إيجازٌ بديعٌ، وبيانُ ذلِك: أنَّ العَداوةَ والبغضاءَ اسمانِ لمعنَيينِ مِن جِنسِ الكَراهيةِ الشَّديدةِ؛ فهُمَا ضِدَّانِ للمحبَّةِ، وظاهِرُ عطفِ أَحدِ الاسمينِ على الآخَرِ في القُرآنِ أنَّهما ليسَا من الأسماءِ المترادِفةِ؛ لأنَّ التزامَ العَطفِ بهذا الترتيبِ يَبعُد أنْ يكونَ لمجرَّدِ التأكيد؛ فإذا كان كذلك لم يَصِحَّ اجتماعُ مَعنيي العَداوةِ والبغضاءِ في موصوفٍ واحدٍ في وقتٍ واحدٍ؛ فيتعيَّن أنَ يكونَ إلقاؤُهما بينهما على معنى التَّوزيعِ، أي: أغَرْينا العداوةَ بين بعضٍ منهم والبغضاءَ بين بعضٍ آخَرَ؛ فوقَع في هذا النظم إيجازٌ بديعٌ؛ لأنَّه يرجِع إلى الاعتمادِ على عِلْمِ المخاطَبين بعدَم استقامةِ اجتماعِ المعْنَيَيْنِ في موصوفٍ واحدٍ؛ إذ إنَّ بين مَعْنَيَيِ العداوة والبغضاءِ التضادَّ والتبايُنَ؛ فالعداوةُ كراهيةٌ تَصدُر عن صاحِبِها: معاملةٌ بجَفاء، أو قطيعةٌ، أو إضرارٌ؛ لأنَّ العداوةَ مشتقَّةٌ من العَدْوِ، وهو التجاوُز والتباعُدُ. وأمَّا البغضاءُ فهي شدَّةُ البُغْضِ والكراهية، غيرَ مصحوبةٍ بعَدْوٍ، فهي مُضْمَرَةٌ في النَّفْسِ [428] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/147، 148). .
7- قوله: وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى: خبرٌ فيه توبيخٌ لهم وزجرٌ عمَّا ادَّعَوْه مِن أنَّهم ناصِرو دِينِ الله وأنبيائِه؛ إذ جَعَل ذلك منهم مُجرَّدَ دَعوى لا حقيقة [429] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/207). .
- وفيه تعريضٌ؛ حيث يُفيدُ لفظُ قَالُوا بطريقِ التَّعريضِ الكِنائيِّ أنَّ هذا القولَ غيرُ مُوَفًّى به، وأنَّه يَجِبُ أن يُوفَّى به [430] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/207)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/146). .
8- قوله: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ: فيه تأكيدُ الكلامِ وتمكينُه في النَّفْسِ بذِكر (مَا) [431] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/16). .
9- قوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ التعبيرُ بصِيغة المضارِعِ في قوله: يُحَرِّفُونَ؛ للدَّلالة على التجدُّدِ والاستِمْرارِ [432] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/16). .
- والجملةُ استئنافٌ لِبَيانِ قَسْوةِ قلوبِهم؛ فإنَّه لا قسوةَ أشدُّ من تغييرِ كلامِ الله سبحانه وتعالى والافتراءِ عليه [433] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/118)، ((تفسير أبي السعود)) (3/16). ، وقيل: حالٌ من مفعول لَعَنَّاهُمْ، أي: لعنَّاهم حالَ كونِهم محرِّفين الكَلِم [434] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/16). .
10- قوله: وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ: فيه تأكيدُ الوعيدِ بذِكْرِ كلمةِ (سَوْفَ). والالتفاتُ إلى ذِكر الاسمِ الجليلِ (الله)؛ لتربيةِ المهابَةِ، وإدخالِ الرَّوعةِ؛ لتشديدِ الوعيدِ بعذابِ الآخِرَةِ [435] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/208)، ((تفسير أبي السعود)) (3/17)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/150). .