موسوعة التفسير

سُورة الأنفالِ
الآيات (17-19)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ

غريب الكلمات:

وَلِيُبْلِيَ أَى: وليُنْعِمَ، والبلاءُ: النِّعْمَةُ، وأيضًا: الاختبارُ، والمكروهُ والشِّدَّةُ، والبلاءُ يكونُ في الخيرِ والشَّرِّ، يُقال: أبلاه بالنِّعمةِ، وبلاه بالشِّدةِ، وقد يدخلُ أحدُهما على الآخرِ، فيقال: بلاه بالخيرِ، وأبلاه بالشَّرِّ، وأصلُ (بلي) الاختبارُ والامتحانُ [236] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/87)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 117)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/293)، ((المفردات)) للراغب (ص: 145)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 126)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 74). .
مُوهِنُ: أي: مُضعِفُ، والوَهْنُ: ضعفٌ مِن حيثُ الخَلْق، أو الخُلُق، وأصلُ (وهن): يَدلُّ على ضَعْفٍ [237] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/88)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/149)، ((المفردات)) للراغب (ص: 887)، ((تفسير ابن كثير)) (4/32). .
تَسْتَفْتِحُوا: أي: تَستَنصِروا، أو: تَسْتحكموا، أو: تسألوا الفَتحَ، وأصل (فتح): يَدلُّ على خِلافِ الإغلاقِ [238] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/89)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 178)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/469)، ((المفردات)) للراغب (ص: 621)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 127). .

المعنى الإجمالي :

يُخاطِبُ اللهُ نَبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والمؤمنينَ الذينَ شَهِدوا معه بَدرًا: أنَّه ليس بِحَولِكم وقُوَّتِكم- أيُّها المؤمنونَ- قَتَلتُم أعداءَكم المُشركينَ يومَ بَدرٍ، ولكنَّ الذي قتَلَهم على الحقيقةِ، ونَصَرَكم عليهم هو اللهُ، وما رمَيتَ- يا محمَّدُ- حينَ رَمَيتَ وجوهَ المُشركينَ بِقَبضةٍ مِن حَصباءَ أو تُرابٍ، ولكِنَّ اللهَ هو مَن رَمى، ولكي يُنعمَ على المؤمِنينَ بعَطاءٍ حَسَنٍ يَشكرونَه عليه قتَل المُشركينَ، ورماهم بما رماهم به يومَ بَدرٍ؛ إنَّ اللهَ سميعٌ عليمٌ، ذلكم وأنَّ اللهَ سيُضعِفُ كلَّ مَكرٍ وكيدٍ يكيدُ به الكفَّارُ للإسلامِ وأهلِه.
ثم يُخاطِبُ اللهُ المُشركينَ الذينَ حارَبوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابَه يومَ بَدرٍ: إنْ كُنتُم طَلَبتُم مِن اللهِ يومَ بَدرٍ أن يحكُمَ بينكم وبينَ المُؤمنينَ؛ بأن يُوقِعَ عذابَه بالمُعتَدينَ الظَّالِمين منكم ومنهم- فقد جاءَكم ما سألتُم؛ بأنْ نَصَرَ اللهُ المظلومَ على الظَّالمِ، والمُحِقَّ على المُبطِلِ، بأنْ أوقَعَ بكم يومَ بَدرٍ، وإن تنتَهُوا- يا كفَّارَ قُريشٍ- عمَّا أنتم عليه، فهو خيرٌ لكم، وإن تَعودُوا إلى حَربٍ مُحمَّدٍ وقتالِه وقِتالِ أتباعِه المؤمِنينَ؛ نَعُدْ عليكم بالهزيمةِ والقَتلِ والأسْرِ، ولن ينفَعَكم جمعُكم شيئًا ولو كثُرَ عَدَدُهم، وأنَّ اللهَ مع المؤمنينَ.

تفسير الآيات:

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا نهى اللهُ تعالى المؤمنينَ عن التَّولِّي بالأدبارِ انهزامًا عند قتالِ الكُفَّارِ- وصل هذا النَّهيَ بما هو حُجَّةٌ على جَدارَتِهم بالانتهاءِ عنه، كأنَّه يَقولُ: يا أيُّها المؤمنونَ، لا تُوَلُّوا الكُفَّارَ ظُهورَكم في القِتالِ أبدًا؛ فأنتم أَوْلى منهم بالثَّباتِ والصَّبرِ، ثم بنَصرِ الله تعالى، فها أنتم أولاءِ قد انتصَرتُم عليهم على قِلَّةِ عَدَدِكم وعُدَدِكم، وكَثرَتِهم واستعدادِهم، وإنَّما ذلك بتأييدِ اللهِ تعالى لكم، ورَبْطِه على قُلوبِكم، وتثبيتِ أقدامِكم، وإلقائِه الرُّعبَ في قلوبِ أعدائِكم، فلم تَقتُلوهم ذلك القَتلَ الذَّريعَ بِمَحضِ قُوَّتِكم، واستعدادِكم المادِّيِّ [239] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/515-516). .
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ.
أي: ليس بحَولِكم وقُوَّتِكم- أيُّها المؤمنونَ- قتَلْتُم أعداءَكم المُشركينَ يومَ بَدرٍ، ولكِنَّ الذي قتَلَهم على الحقيقةِ وأظفَرَكم بهم، ونَصَركم عليهم، هو اللهُ تعالى وَحدَه؛ فهو من تسبَّبَ بِقَتلِهم، حيث أمرَكم بقِتالِهم، وأعانكم على ذلك، ورَبَط على قُلوبِكم [240] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/82- 83)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 434)، ((تفسير ابن كثير)) (4/30)، ((تفسير السعدي)) (ص: 317). قال ابنُ تيميَّةَ: (فإنَّ قَتْلَهم حصلَ بأمورٍ خارجةٍ عن قُدرَتِهم؛ مِثل: إنزالِ الملائكةِ، وإلقاءِ الرُّعبِ في قُلوبِهم). ((مجموع الفتاوى)) (8/18). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: 123] .
وقال عزَّ وجلَّ: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين [التوبة: 25-26] .
وقال سبحانه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249] .
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى.
سَببُ النُّزولِ:
عن حكيمِ بنِ حِزامٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَمَّا كان يومُ بدرٍ أمَرَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فأخذَ كفًّا من الحَصباءِ فاستقبَلَنا به، فرمانا بها، وقال: شاهتِ الوجوهُ، فانهزَمْنا، فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلِكَنَّ اللَّهَ رَمَى)) [241] أخرجه ابن جرير في ((تفسيره)) (15822)، وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (8906)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (3/203) (3128) واللفظ له. حسَّن إسنادَه الهيثميُّ في ((مجمع الزوائد)) (6/87 )، وقال الوادعيُّ في ((صحيح أسباب النزول)) (113 ): حسن لغيره. .
وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى.
أي: وما أوصلتَ الرمْيَ- حين رميتَ وجوهَ المُشركينَ بقبضةٍ مِن حَصباءَ، أو حفنةٍ مِن ترابٍ- فأنت حذَفْتَهم ورَمَيْتَهم بذلك فحَسْبُ، ولكن الذي تولَّى إيصالَها إليهم، هو اللهُ تعالى، بقُوَّتِه وقُدرَتِه، لا أنت [242] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/83)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 434)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/394- 395)، ((تفسير ابن كثير)) (4/30)، ((تفسير السعدي)) (ص: 317). قال ابنُ تيميَّةَ: (وكذلك الرَّميُ، لم يكُن في قُدرَتِه أنَّ التُّرابَ يُصيبُ أعينَهم كلِّهم، ويُرعِبُ قُلوبَهم؛ فالرَّميُ الذي جعَلَه اللهُ خارجًا عن قُدرةِ العَبدِ المعتادِ، هو الرَّميُ الذي نفاه اللهُ عنه). ((مجموع الفتاوى)) (8/18). وقال أيضًا: (المنفيُّ هو وُصولُ الرَّميِ إلى الكُفَّارِ وتأثيرُه فيهم، والمُثبَتُ هو الحَذفُ الذي فَعَلَه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلم). ((الرد على البكري)) (1/439). .
وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً.
أي: إنَّ اللهَ تعالى قتَلَ المُشركينَ، ورماهم بما رماهم به يومَ بَدرٍ؛ لأجْلِ هَزيمَتِهم، وأيضًا لِيُنعِمَ على المُؤمنينَ بِعَطاءٍ حَسَنٍ عظيمٍ، يَشكرونَه عليه، مِن النَّصرِ والظَّفَرِ بالغَنائِمِ في الدُّنيا، والأجرِ والثَّوابِ على جِهادِهم في الآخِرةِ [243] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/87-88)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/450)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 434)، ((تفسير ابن عطية)) (2/511)، ((تفسير القرطبي)) (7/386)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/296). قال الخازن: (أجمع المُفَسِّرونَ على أنَّ البلاءَ هنا: بمعنى النِّعمةِ). ((تفسير الخازن)) (2/301). .
إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أي: إنَّ الله سميعٌ لِدُعاءِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومُناشَدَتِه ربَّه لإهلاكِ المُشركينَ يَومَ بَدرٍ؛ سَميعٌ لأقوالِ جَميعِ خَلْقِه، عليمٌ بذلك كُلِّه، وبِنِيَّاتِهم وبما فيه صَلاحُهم، عليمٌ بمَن يستحِقُّ منهم النَّصرَ، ويعلَمُ غيرَ ذلك مِن الأشياءِ، فيُقَدِّرُ على العبادِ أقدارًا مُوافِقةً لعِلمِه وحِكمَتِه، ويَجزِيهم بحسَب نيَّاتِهم وأعمالِهم [244] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/88)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 434)، ((تفسير ابن كثير)) (4/32)، ((تفسير السعدي)) (ص: 317). .
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18).
أي: ذلك الفِعلُ؛ مِن قَتلِ المُشركينَ ورَمْيِهم حتى انهزَمُوا، والإنعامِ عليكم- أيُّها المؤمنونَ- بالظَّفَرِ بهم، والانتصارِ عليهم، ذلك هو فِعْلُنا الذي فَعَلْنا، وثَمَّ بِشارةٌ أخرى مع ما حصَلَ مِن هذا النَّصرِ لكم، وهي أنَّ اللهَ تعالى سيُضعِفُ- فيما يُستقبَلُ- كُلَّ مَكرٍ وكَيدٍ يَكيدُ به الكُفَّارُ للإسلامِ وأهلِه، وسيجعَلُ مَكرَهم مُحِيقًا بهم [245] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/88- 89)، ((تفسير ابن كثير)) (4/32)، ((تفسير السعدي)) (ص: 317). .
إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19).
إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ.
أي: إنْ تَستَحكِموا اللهَ- أيُّها المُشركونَ- ليفصِلَ بينكم وبينَ أعدائِكم المُؤمنينَ، فتَستَقضوه على أقطَعِ الحِزبَينِ للرَّحِم، وأظلَمِ الفِئَتينِ منكم، وتستنصِروه؛ لِيُوقِعَ عذابَه على المُعتَدينَ الظَّالِمينَ منكم- فقد جاءكم ما سألْتُم مِن حُكمِ اللهِ؛ بِنَصرِه المظلومَ على الظَّالمِ، والمحِقَّ على المُبطِلِ، وذلك حين أوقَعَ بكم عِقابَه يومَ بَدرٍ [246] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/89)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 434)، ((الرد على البكري)) لابن تيمية (1/147)، ((تفسير ابن كثير)) (4/32)، ((تفسير السعدي)) (ص: 317). .
وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ.
أي: وإن تَنْتَهوا- يا كفَّارَ قُريشٍ- عن الشِّركِ والكُفرِ باللهِ، والتَّكذيبِ لِرَسولِه، وقتالِ نَبِيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنينَ به؛ فهو خيرٌ لكم في الدُّنيا والآخرةِ [247] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/95)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/451)، ((تفسير ابن كثير)) (4/33). .
وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ.
أي: وإن تَعودُوا إلى ما كُنتُم فيه مِن الكُفرِ والضَّلالِ، وإلى حَربٍ مُحمَّدٍ وقتالِه، وقِتالِ أتباعِه المؤمِنينَ؛ نَعُدْ عليكم بمِثلِ الواقعةِ التي أُوقِعَتْ بكم يومَ بَدرٍ، بالهزيمةِ والقَتلِ والأسْرِ [248] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/95-96)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/451)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 434)، ((تفسير ابن كثير)) (4/33). .
وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ.
أي: وإنْ عُدتُم- أيُّها المُشركونَ- فحينَها لن يُغنيَ عنكم جَمعُكم مِن جُنودِكم وأعوانِكم أيَّ شيءٍ، ولن يَدفَعوا عنكم شيئًا البتَّةَ، ولو كَثُر عددُهم [249] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/95)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 434)، ((تفسير ابن كثير)) (4/33)، ((تفسير السعدي)) (ص: 317). .
وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.
القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التفسيرِ:
في قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ قراءتان:
1- قراءة وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ على أنَّها تعليلٌ للجملةِ قبلَها [250] قرأ بها المدنيانِ (نافعٌ وأبو جعفرٍ)، وابنُ عامرٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/276). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/438)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 310). .
2- قراءة وَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ على أنَّها جملةٌ استئنافيةٌ، منقطعةٌ عمَّا قبلَها [251] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/276). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/438)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 310). .
وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ.
أي: ولأنَّ اللهَ تعالى مع مَن آمَنَ به على مَن كَفَر به وأشرَكَ، فلن تُغنِيَ عنكم فِئَتُكم شيئًا ولو كَثُرت؛ فهو سبحانَه معهم بالعونِ، والنصرِ على أعدائِهم، كما أظْهَرهم يومَ بدرٍ على المشركينَ، ومَن كان اللهُ عزَّ وجلَّ معه فلا غالِبَ له، وإن كان ضعيفًا، قليلَ العَدَد والعُدَّةِ [252] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/95- 96)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/451)، ((تفسير ابن كثير)) (4/33)، ((تفسير السعدي)) (ص: 317). قال السَّعدي: (وهذه المعيَّةُ التي أخبَرَ اللهُ أنَّه يُؤَيِّدُ بها المؤمنين، تكونُ بحَسَبِ ما قاموا به من أعمالِ الإيمانِ، فإذا أُدِيلَ العَدُوُّ على المؤمنين في بعضِ الأوقاتِ، فليس ذلك إلَّا تفريطًا مِن المؤمنينَ، وعدَمَ قيامٍ بواجِبِ الإيمانِ ومُقتضاه، وإلَّا فلو قاموا بما أمَرَ الله به مِن كُلِّ وَجهٍ، لَمَا انهزَمَ لهم رايةٌ انهزامًا مُستقِرًّا، ولا أُدِيلَ عليهم عَدُوُّهم أبدًا). ((تفسير السعدي)) (ص: 317-318). .

الفوائد التربوية:

1- قولُ اللهِ تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى فيه أثبتَ اللهُ سُبحانه لنَبيِّه الرَّميَ، مع نَفيِ تأثيرِه عنه، وإثباتِه لِمَن إليه تُرجَعُ الأمورُ؛ تأديبًا منه سُبحانه لهذه الأمَّةِ، أي: لا ينظُرْ أحدٌ إلى شيءٍ مِن طاعَتِه؛ فإنَّا قد نَفَينا هذا الفِعلَ العَظيمَ عن أكمَلِ الخَلقِ، مع أنَّه عالمٌ مُقِرٌّ بأنَّه مِنَّا، فلْيَحذرِ الذي يرى له فِعلًا، مِن عظيمِ سَطواتِنا، ولكِن لِينسُبْ جَميعَ أفعالِه الحَسَنةِ إلى اللهِ تعالى، كما نُسِبَ الرَّميُ إليه بِقَولِه: وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [253] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/292). .
2- قال اللهُ تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ جرى هذا مَجرى التَّحذيرِ والتَّرهيبِ؛ لئلَّا يغترَّ العبدُ بظواهِرِ الأمورِ، ولِيَعلمَ أنَّ الخالِقَ تعالى يطَّلِعُ على ما في الضَّمائِرِ والقُلوبِ [254] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/563). .
3- الكَثرةُ لا تكونُ سَببًا للنَّصرِ، إلَّا إذا تساوَتْ مع القِلَّةِ في الثَّباتِ والصَّبرِ، والثِّقةِ باللهِ عَزَّ وجلَّ، قال تعالى: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [255] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/519). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُ اللهِ تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ فيه ردٌّ على القَدَريَّةِ [256] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 134). ؛ لأنَّه جَلَّ ثناؤُه أضافَ قَتلَهم إلى نَفسِه، ونفاه عن المُؤمنين به، الذين قاتَلُوا المُشركين؛ إذ كان جلَّ ثَناؤُه هو مُسَبِّبَ قَتلِهم، وعَن أمْرِه كان قتالُ المُؤمنينَ إيَّاهم، وكذلك سائِرُ أفعالِ الخَلقِ المُكتَسَبةِ: مِن اللهِ الإنشاءُ والإنجازُ بالتَّسبيبِ، ومن الخَلقِ الاكتسابُ بالقُوى [257] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/83). .
2- نفَى الله تعالى ما صرَّح بإثباتِه في قولِه: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ- ولم يُصرِّحْ في قولِه: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ بِقَولِه: (إِذْ قَتلتُموهم)؛ لأنَّ الرميَ كان أمرًا خارقًا للعادةِ، مُعجزًا، وآيةً مِن آياتِ اللهِ [258] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/29). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى قدَّمَ المُسنَدَ إليه على المُسنَدِ الفِعليِّ في قَولِه: وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ دون أن يُقالَ: (ولكنْ قتَلَهم اللهُ)؛ لمجَرَّدِ الاهتمامِ لا الاختصاصِ؛ لأنَّ نَفيَ اعتقادِ المُخاطَبينَ أنَّهم القاتِلونَ قد حصل مِن جُملةِ النَّفيِفَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ، فصار المُخاطَبونَ مُتطلِّبينَ لِمَعرفةِ فاعِلِ قَتلِ المُشركينَ، فكان مُهِمًّا عندهم تعجيلُ العِلمِ به [259] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/294). .
- وتجريدُ الفعلِ (رمى) عن المفعولِ به في قَولِه: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ؛ لأنَّ المقصودَ الأصليَّ بيانُ حالِ الرَّميِ نفيًا وإثباتًا؛ إذ هو الذي ظهَرَ منه ما ظهَرَ، وأيضًا للدَّلالةِ على عُمومِه [260] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/13)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/516). .
2- قوله تعالى: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ
- الإشارةُ بـ ذَلِكُمْ إلى البلاءِ الحَسَنِ، وهذه الإشارةُ لِمُجرَّدِ تأكيدِ المَقصودِ مِن البَلاءِ الحَسَنِ، وأن ذلك البلاءَ عِلَّةٌ للتَّوهينِ [261] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/297). .
3- قوله تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ
- قوله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ خطابٌ لأهلِ مكَّةَ على سبيلِ التَّهَكُّمِ بهم، وفيه الْتِفاتٌ مِن الغَيبةِ الذي اقتضاه قَولُه: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ [262] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/208)، ((تفسير أبي السعود)) (4/14)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/298). .
- وصِيغَ تَسْتَفْتِحُوا بصيغةِ المُضارِعِ، مع أنَّ الفِعلَ مضى؛ لِقَصدِ استحضارِ الحالةِ مِن تكريرِهم الدُّعاءَ بالنَّصرِ على المُسلِمينَ [263] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/299). .
- قوله: وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وعيدٌ فيه بِشارةٌ أنَّ النَّصرَ الحاسِمَ سيكونُ للمُسلمينَ، وهو نصرُ يومِ فَتحِ مَكَّةَ [264] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/300). .
- وجملةُ: وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ زيادةٌ في تأييسِ المُشركينَ مِن النَّصرِ، وتنويهٌ بِفَضلِ المؤمنينَ، بأنَّ النَّصرَ الذي انتَصَروه هو مِن الله لا بأسبابِهم؛ فإنَّهم دون المشركينَ عَددًا وعُدَّةً [265] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/300). .