أين أخطأ المقاصديّون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة (1/2)
المقال الأول: الظاهرة
الشيخ الدكتور هيثم بن جواد الحداد
[email protected]
25 رجب 1431هـ
الحمد لله والصلاة على رسول الله، أمَّا بعد:
فلم يحظ موضوع أصولي في العشرين سنة الماضية ما حظيه موضوع مقاصد الشريعة، وقد ساهمت أحداث سبتمبر وما أعقبها مما يسمى بالحرب على الإرهاب في مزيد من الاهتمام بهذه الموضوع بشكل لم يسبق له مثيل.
السياسيون اهتموا به لتمرير "أجندتهم" السياسية، والإعلاميون تمسكوا بها، لتبرير مخالفت الإعلام للشريعة، وكثير من الدعاة تمسك بها من أجل المزيد من المكتسبات سواء لدى عامة الناس، أو لدى شرائح "الملء"، وتولت مقاصد الشريعة مع "ظاهرة الخروج عن مألوف الشريعة المعهود لدى المسلمين بحجة نبذ التقليد والعمل بالدليل" مهمة تمرير "لبرلة" الإسلام وعصرنته، وكان أخطر ما في الأمر تبني شرائح إسلامية عديدة لهذا الفكر الأصولي الفقهي فكانوا أخطر الجميع.
لقد اهتم الجميع بهذين الموضوعين ؛ مقاصد الشريعة، عزل النص (الإلهي) القرآن والسنة، عن العمل البشري (اجتهاد الفقهاء)، حتى لم يعودا موضوعين أصوليين ، بقدر ما أصبحا أداة خطاب، كل يستعملها كيف شاء، ولأي غرض شاء.
وقد أقبل جمع من بعض الدعاة وطلبة العلم وبدون تمحيص إلى مقاصد الشريعة من خلال منظور محدد، وتبنوها، وكتبوا فيها رسائل علمية، مما زاد الفهم الخاطئ لها تثبيتا وتقريرا، وعسر على بعض منهم الاعتراف بأن ثمة خطأ في هذه المنظومة الفكرية الأصولية التي نسجت بتوال على خطأ واحد، ووقف كثير من الدعاة وبعض طلبة العلم وأهله عاجزين عن مواجهة هذا الفكر باللغة نفسها، فعمد بعضهم إلى لغة عاطفية قد لا تكون مناسبة في مقام تأصيل وتقعيد، مما بدا لكثير أنه عجز في الحجة نفسها، لا في طريقة أدائها، الأمر الذي أكسب هذا الفهم القاصر والمغلوط زخمًا ومزيدًا من الرسوخ.
فمقاصد الشريعة بذلك الفهم ألغت المطالبة بوحدة المسلمين تحت خليفة واحد، إذ إنّ مقصود الشريعة الأعظم هو حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال والعرض وهذا يتحقق بهذه النظم الورقية المعاصرة، أما ما نعم به المسلمون في بعض أزمانهم من وحدة جعلتهم دولة مرهوبة الجانب، فتحت مشارق الأرض ومغاربها، إنما هو مجرد واقع تاريخي ومرحلة زمنية لا يجوز أن تفرض نفسها على نظرة المسلمين السياسية المعاصرة.
ومقاصد الشريعة ألغت جهاد الطلب، وقصرت الجهاد على الدفاع، فمواثيق الأمم المتحدة، وبنود التعايش السلمي تمنع الاعتداء، الذي هو قلب مقاصد الشريعة، وليت الأمر اقتصر على "وقف العمل بجهاد الطلب حتى تكتمل شروطه" بل تجاوزه إلى إلغاء جهاد الطلب وشطبه من القاموس الإسلامي بالكلية.
وقل مثل ذلك فيما أجمع عليه فقهاء المسلمين حتى قبل المائة سنة الماضية من تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب، وما تبع ذلك من جعل الولاء السياسي في الإسلامي مبنيا على الولاء العقدي لا العكس.
وتسابقت الدول الإسلامية في فتح أراضيها للقوات الأجنبية الكافرة لضرب حركات أو دول إسلامية مجاورة وتذرع هؤلاء بدون حياء بمقاصد الشريعة التي توجب عليهم المحافظة على مكتسبات الدولة (وبعضهم أسماها الأمة)، ومصالحها العليا.
وأخمد أيٌ من الأصوات المعارضة لصوت بعض الأنظمة الحاكمة، ولو كانت معارضتها هادئة وديعة، وتكفلت مقاصد الشريعة المغلوطة بهذه المهمة متذرعة بسعي الشريعة لتحقيق وحدة الأمة وتجنب الصراعات المدنية التي تضيع حفظ الأنفس والأموال والأعراض، وتكفل كبر ذلك أشياخ أو علماء، فعباءتهم أوسع العباءات، وهي الأكثر تأثيرًا في الحس الإسلامي، فلا أنسب منها رداءا وقت الحاجة!.
أما على الصعيد الإجتماعي، فقد فرضت علينا مقاصد الشريعة هذه تغيير وضع المرأة المسلمة ونظرة المجتمع لها، إذ لم تعد مهمتها الكبرى تربية الأولاد والعناية بالبيت، بل تجاوزته إلى مساهمتها في الحياة السياسية وربما العسكرية، وعليه فلا بد من تغيير المعهود من أحكام إختلاط النساء بالرجال، وصفة الحجاب وشروطه..
وعند الأقليات، أباحت مقاصد الشريعة للزوجة التي أسلمت تحت زوج كافر، أن تبقى معه على كفره، مناقضة بذلك ما أجمع عليه العلماء أو اتفقت كلمة جلهم على انتهاء عقد الزوجية بدخولها في الإسلام.
ولن يتخيل بعض القراء بعض الأمثلة التي سأوردها، فكثير منها يتداول في الغرب، لكن الأخطر من ذلك أننا أصبحنا نرى ونسمع عن تداول الأمثلة نفسها في بلاد المسلمين، فمثلاً يكثر بعض الدعاة في الغرب الحديث عن ضرورة إعادة قراءة بعض أحكام الإسلام، وضرورة القيام بحركة تصحيحية تجاه نظرة الإسلام للملل الأخرى وأهلها، أو أحكام الأقليات في الإسلام، و الحدود الشرعية، وقوامة الرجل على المرأة، وميراثها، ونظرة الإسلام لما يسمى بالمثلية الجنسية (الشذوذ الجنسي)،إذ أن هذه الأحكام بحسب زعمهم جاءت منسجمة مع واقع معين، فإذا ما تغير هذا الواقع واضطرب هذا الانسجام، وجب تغيير الأحكام محافظة على هذا الإنسجام الذي هو أحد مقاصد الشريعة! .
وفي الغرب كذلك يكثر الحديث بين الأوساط الإسلامية عن العلمانية، وأنها أصلح الأنظمة لحكم المجتمعات متعددة الثقافات، بل لحكم مجتمع ذي ثقافة واحدة لكنه مرتبط بمجتمعات متعددة الثقافات من خلال أدوات العولمة، ونرى الآن كثيرًا من بعض الإسلاميين في بلاد الإسلام يؤمنون بهذه الأفكار وربما روجوا لها بحماس يثير الدهشة.
البداية:
تكاد كلمة الباحثين تتفق على أن أول من أفرد مقاصد الشريعة بالذكر هو الغزالي (505هـ)، فقد ذكر أن الشريعة جاءت لرعاية خمس مقاصد؛ حفظ الدين، والنفس، والمال، والعرض، والعقل، وتابعه على هذه الطريقة جل من تحدث عنها خلا شيخ الإسلام ابن تيمية (708هـ)، وكما تقدم ذكره، فلم يأخذ هذا الموضوع حيزا من الاهتمام إلا في العقد السابقين، لكن أكبر خلل وقع فيه من تحدث عن مقاصد الشريعة هو قصرها على المصالح الدنيوية، ولا أظن أنه دار بخلد الغزالي ولا غيره من السابقين أن مقاصد الشريعة ستصبح دنيوية محضة، تغيب فيها المقاصد الأصلية الكبرى، إلى أن ينتهى الحال بمقارنة الشريعة بالنظم الوضعية، ونسي الجميع بما فيهم عدد من الأفاضل، أن أهم وأعلى مقاصد الشريعة التي جاءت من أجلها إنقاذ الناس من عذاب النار، وإدخالهم جنات عدن، من خلال التعبد للرب وحده لا شريك له، ذلك المقصد الذي تذوب فيه كل المقاصد الأخرى، ومن ثم فإنه يؤثر في رؤى الناس للكون والحياة؛ للسياسة، والاقتصاد، والعلاقات الدولية، لتنفيذ الحدود وتطبيقها، للعلاقة بين الدنيوي والأخروي، لهيمنة الشريعة وثباتها، للمقصود من الحضارات، لربط الفرد بعلاقة متزنة مع جميع من حوله بما فيهم الجماد.
إنّ المتتبع للقرآن الكريم والسنة المطهرة، يرى أن النصوص تحدثت عن "إرادة إلهية"، ولا شك أن هذه الإرادة هي العليا، وعليه فلا يمكن أن تكون مقاصد الشريعة، إلا تبعا لهذه الإرادة، ومن خلال التتبع لهذه النصوص لا يصعب علينا أن نميز بين إرادات (مقاصد) أربع، يدل عليها كذلك الاستقراء العقلي:
ما أراده الله لنفسه من خلقه الخلق، وهو ما يُعبر عنه أحيانا بالإرادة الكونية.
ما أراده الله لعباده من خلقه لهم.
ما أراده الله لنفسه من شرعه الشرائع، وهو ما يعبر عنه أحيانا بالإرادة الشرعية.
وما أراد الله لعباده من شرعه الشرائع.
وهذه الأنواع كما ترون يمكن أن تدمج لتصبح اثنين:
ما أراد الله لعباده.
ما أراد الله لنفسه.
وإن أكبر خطأ وقع فيه المقاصديون الجدد هو إهمالهم لما أراد الرب لنفسه، ولما أراده لخلقه بعد مماتهم، مع أنهما الأهم في ما رمت إليه الشريعة.
أما ما قصدته الشريعة من حفظ الضروريات الخمس المذكورة، فإنه ثانوي ومكمل لهذين المقصدين، ومن أهم ما يترتب على ذلك ترتيب أولويات الشريعة، وأهلها، لا سيما عند التعارض بين الأدلة، أو الأحكام، أو عند محاولة تنزيل بعض الأدلة على بعض الوقائع المعاصرة، وما يعرف بالسياسة الشرعية.