موسوعة التفسير

سورةُ الرُّومِ
الآيات (17-23)

ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ

غَريبُ الكَلِماتِ:

وَعَشِيًّا: أي: مِن زَوالِ الشَّمسِ إلى الصَّباحِ، أو مِن الظُّهرِ إلى نِصفِ اللَّيلِ، أو صلاةَ العصرِ، وأصلُ (عشو): يدُلُّ على ظَلامٍ، وقِلَّةِ وُضوحٍ في الشَّيءِ [170] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/322)، ((المفردات)) للراغب (ص: 567)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 982)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 336). .
تُظْهِرُونَ: أي: تَدخُلونَ في وقتِ الظَّهيرةِ، وأصلُ (ظهر): يدُلُّ على قُوَّةٍ وبُروزٍ [171] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 340)، ((تفسير ابن جرير)) (18/476)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/471)، ((المفردات)) للراغب (ص: 541)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 291). .

المعنى الإجماليُّ:

يَذكُرُ الله تعالى أنواعًا متعدِّدةً مِن الأدلَّةِ والبراهينِ على وحدانيَّتِه، فيقولُ: تَنزَّهَ اللهُ تعالى عن كلِّ عَيبٍ ونَقصٍ، فنزِّهوه وسَبِّحوه -أيُّها النَّاسُ- حين تُمْسونَ وحينَ تُصبِحونَ، وله سُبحانَه الحَمدُ في السَّمَواتِ والأرضِ، فهو المحمودُ فيهما، ونَزِّهوه وسَبِّحوه أيضًا وقتَ العَشِيِّ ووقتَ الظَّهيرةِ. يُخرِجُ اللهُ بقُدرتِه الحَيَّ مِن الميِّتِ، كالإنسانِ مِن النُّطفةِ، ويُخرِجُ الميِّتَ مِن الحيِّ، كالنُّطفةِ مِن الإنسانِ، ويُحيي الأرضَ بالماءِ بعدَ جُدوبِها وقُحولِها، وكما يُحيي اللهُ الأرضَ بعدَ موتِها يُحييكم -أيُّها النَّاسُ- بعدَ مَوتِكم.
ومِنَ العلاماتِ الدَّالَّةِ على صِفاتِ اللهِ تعالى -كوحدانيَّتِه وقُدرتِه تعالى-: أنَّه ابتدَأ خَلْقَكم مِن تُرابٍ؛ فخَلَق أباكم آدَمَ منه، ثمَّ إذا أنتم بشَرٌ أحياءٌ تَنتَشِرونَ في الأرضِ وتَسعَونَ فيها.
ومِنَ العلاماتِ الدَّالَّةِ على صِفاتِ الله تعالى: أنَّه خلَقَ لكم مِن أنفُسِكم أزواجًا؛ لِيَحصُلَ بيْنَكم السَّكَنُ والأُلْفةُ، وجعَلَ بيْنَكم محبَّةً ورَحمةً، إنَّ في ذلك لَدَلالاتٍ على قُدرةِ اللهِ وحِكمتِه لِقَومٍ يتفَكَّرونَ.
ومِنَ العلاماتِ الدَّالَّةِ على وحدانيَّتِه وقُدرتِه تعالى: خَلْقُ السَّمَواتِ والأرضِ مِنَ العَدَمِ، واختِلافُ لُغاتِكم وألوانِكم مع أنَّ أصْلَكم واحدٌ؛ مِن أبيكم آدَمَ، إنَّ في ذلك لَدَلالاتٍ لأُولي العِلمِ.
ومِنَ العَلاماتِ الدَّالَّةِ على وحدانيَّتِه وقُدرتِه تعالى: نَومُكم في اللَّيلِ والنَّهارِ لِراحةِ أبدانِكم، وطَلَبُكم رِزقَ اللهِ فيهما؛ إنَّ في ذلك لَدَلالاتٍ لِقَومٍ يَسمَعونَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ تعالى عظيمَ قُدرتِه في خَلْقِ السَّمَواتِ والأرضِ بالحقِّ - وهي حالةُ ابتِداءِ العالَمِ-، وفي مَصيرِهم إلى الجنَّةِ والنَّارِ -وهي حالَةُ الانتهاءِ-؛ أمَرَ تعالى بتنزيهِه مِن كلِّ سُوءٍ [172] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/380). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (25/86). .
وأيضًا لَمَّا بيَّن اللهُ سُبحانَه المبدأَ بخَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ، والمَعادَ بالجَنَّةِ والنَّارِ، وأنَّهم كَذَّبوا به، وكان تكذيبُهم به مُستَلزِمًا لاعتقادِ نقائِصَ كثيرةٍ؛ منها العَجزُ، وإخلافُ الوَعدِ، وتَرْكُ الحِكمةِ- كان ذلك سببًا لأن يُنَزِّهَ سُبحانَه نفْسَه المُقَدَّسةَ، ويأمُرَ بتَنزيهِها [173] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/59). .
وأيضًا بعدَ ما بُيِّن حالُ فَريقَيِ المؤمنينَ العاملينَ للصَّالحاتِ، والكافرينَ المكذِّبينَ بالآياتِ، وما لَهُما مِن الثَّوابِ والعذابِ؛ أُمِرُوا بما يُنجِّي مِن الثَّاني، ويُفْضِي إلى الأوَّلِ؛ مِن تَنْزيهِ اللهِ عزَّ وجلَّ عن كلِّ ما لا يَليقُ بشَأنِه سُبحانَه، ومِن حمْدِه تعالى على نِعَمِه العِظَامِ [174] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/54). .
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17).
أي: تَنزَّهَ اللهُ تعالى عن كُلِّ عَيبٍ ونَقصٍ، فنَزِّهوه -أيُّها النَّاسُ- حينَ حُلولِ المساءِ، وحينَ حُلولِ الصَّباحِ [175] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/473)، ((جامع المسائل)) لابن تيمية (6/344)، ((تفسير ابن كثير)) (6/307)، ((تفسير السعدي)) (ص: 638)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/65-67). قيل: المرادُ بالتَّسبيحِ هنا: الصَّلاةُ، والمرادُ بقَولِه تعالى: حِينَ تُمْسُونَ: صلاةُ المغربِ. ومِمَّن قال بذلك: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/473). وممَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/474). وقيل: المراد بِقَولِه: تُمْسُونَ المغربُ والعِشاءُ. وممَّن اختاره: مقاتلُ بنُ سُليمانَ، والزجَّاجُّ، والسمرقنديُّ، ومكِّي، والسمعاني، والخازن، وابن تيميَّة، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/409)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/180)، ((تفسير السمرقندي)) (3/8)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5668)، ((تفسير السمعاني)) (4/203)، ((تفسير الخازن)) (3/388)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (5/234)، ((جامع المسائل)) لابن تيمية (6/344)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 533)، ((تفسير العليمي)) (5/276)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 88، 93). وممَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، ومجاهِدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/474). وقيل: المراد بقَولِه: تُمْسُونَ: صلاةُ العصر وصلاةُ المغربِ. وممَّن اختاره: الثعلبي، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (7/297)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/62). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بقَولِه: تُصْبِحُونَ: صلاةُ الفَجرِ: مقاتلُ بنُ سُليمانَ، وابنُ جرير، والزجاج، والسمرقندي، والثعلبي، ومكي، والسمعاني، والخازن، وابن تيمية، وجلال الدين المحلي، والبقاعي، والعليمي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/409)، ((تفسير ابن جرير)) (18/473)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/180)، ((تفسير السمرقندي)) (3/8)، ((تفسير الثعلبي)) (7/297)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5668)، ((تفسير السمعاني)) (4/203)، ((تفسير الخازن)) (3/388)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (5/234)، ((جامع المسائل)) لابن تيمية (6/344)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 533)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/62)، ((تفسير العليمي)) (5/276)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 88، 93). وممَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ، ومجاهدٌ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/474). ومِمَّن قال بأنَّ المرادَ بالتَّسبيحِ هنا: تنزيهُ اللهِ تعالى عندَ المساءِ وهو إقبالُ اللَّيلِ بظَلامِه، وعندَ الصَّباحِ وهو إسفارُ النَّهارِ عن ضيائِه: ابنُ كثير، والبِقاعي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/307)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/59، 60)، ((تفسير الشوكاني)) (4/252). واختار الرازيُّ أنَّ المعنى: نَزِّهوه عن صِفاتِ النَّقصِ، وصِفُوه بصِفاتِ الكمالِ، ثمَّ قال : (لأنَّ التَّنزيهَ المأمورَ به يَتناوَلُ التَّنزيهَ بالقلبِ وهو الاعتقادُ الجازِمِ، وباللِّسانِ مع ذلك وهو الذِّكرُ الحسَنُ، وبالأركانِ معهما جميعًا وهو العملُ الصَّالحُ، والأوَّلُ هو الأصلُ، والثَّاني ثمرةُ الأوَّلِ، والثالثُ ثمرةُ الثَّاني؛ وذلك لأنَّ الإنسانَ إذا اعتقَد شيئًا ظهَرَ مِن قلبِه على لسانِه، وإذا قال ظهَر صِدقُه في مَقالِه مِن أحوالِه وأفعالِه، واللِّسانُ تَرْجُمانُ الجَنانِ، والأركانُ بُرهانُ اللِّسانِ، لكنِ الصَّلاةُ أفضَلُ أعمالِ الأركانِ، وهي مُشتمِلةٌ على الذِّكرِ باللِّسانِ، والقصدِ بالجَنانِ، وهو تنزيهٌ في التَّحقيقِ، فإذا قال: نَزِّهوني، وهذا نوعٌ مِن أنواعِ التَّنزيهِ، والأمرُ المُطْلَقُ لا يختصُّ بنوعٍ دُونَ نوعٍ؛ فيجبُ حملُه على كلِّ ما هو تنزيهٌ؛ فيكونُ أيضًا هذا أمرًا بالصَّلاةِ). ((تفسير الرازي)) (25/86). وقال ابن جُزَي: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ هذا تعليمٌ للعِبادِ، أي: قُولوا: سُبحانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/131). وممَّن ذهب إلى العمومِ: السعديُّ، فقال: (فهذه الأوقاتُ الخمسةُ أوقاتُ الصَّلواتِ الخَمسِ، أمَرَ اللهُ عِبادَه بالتَّسبيحِ فيها والحَمدِ، ويَدخُلُ في ذلك الواجِبُ منه، كالمُشتملةِ عليه الصَّلواتُ الخَمسُ، والمُستحَبُّ، كأذكارِ الصَّباحِ والمساءِ وأدبارِ الصَّلَواتِ، وما يَقتَرِنُ بها مِن النَّوافِلِ؛ لأنَّ هذه الأوقاتَ الَّتي اختارها اللهُ لأوقاتِ المفروضاتِ هي أفضَلُ مِن غيرِها؛ فالتَّسبيحُ والتَّحميدُ فيها والعبادةُ فيها: أفضَلُ مِن غيرِها، بل العبادةُ وإن لم تَشتَمِلْ على قَولِ: «سُبحانَ الله» فإنَّ الإخلاصَ فيها تنزيهٌ لله بالفِعلِ أن يكونَ له شريكٌ في العبادةِ، أو أن يَستحِقَّ أحَدٌ مِنَ الخَلقِ ما يَستَحِقُّه مِن الإخلاصِ والإنابةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 638). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/65-67). قال الزجَّاج: (ومعنى: سُبحان اللهِ: تنزيهُ اللهِ من السُّوءِ. هذا لا اختلافَ فيه). ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/181). .
كما قال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه: 130] .
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ ما يدُلُّ على خُصوصِ التَّنزيهِ؛ أتْبَعَه ما يُعَرِّفُ بعُمومِ الكمالِ [176] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/60). :
وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: وهو وَحْدَه المُستَحِقُّ وَصْفَه بصِفاتِ الكَمالِ مع محبَّتِه وتَعظيمِه، في السَّمواتِ والأرضِ [177] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/476)، ((تفسير السمرقندي)) (3/8)، ((تفسير ابن عطية)) (4/332)، ((تفسير ابن كثير)) (6/307)، ((تفسير أبي السعود)) (7/54)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/66)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 90). قيل: المرادُ: أنَّه المحمودُ مِن أهلِ السَّمَواتِ ومِن أهلِ الأرضِ. ومِمَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والسمرقندي، ومكِّي، وجلال الدين المحلي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/476)، ((تفسير السمرقندي)) (3/8)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5669)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 533)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/66). وممَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/573). وقال ابنُ كثير: (أي: هو المحمودُ على ما خلَقَ في السَّمَواتِ والأرضِ). ((تفسير ابن كثير)) (6/307). واختار ابنُ عثيمين أنَّ الآيةَ أعَمُّ مِن قولِ مَن قال: يَحمَدُه أهلُ السَّمواتِ والأرضِ، مع تقريرِه أنَّ هذا المعنى داخلٌ في الآيةِ، وأنَّ المعنى: أنَّ الله تعالى مُستحِقٌّ للحمدِ على ما خلَقَه في السَّمواتِ والأرضِ، سواءٌ حُمِد أو لم يُحمَدْ، فكلُّ ما في السَّمواتِ والأرضِ فإنَّ الله تعالى يُحمَدُ عليه، سواءٌ أمورُ الخَيرِ أو الشَّرِّ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 90). وقيل: الآيةُ إرشادٌ إلى الحمدِ، وأنَّ على المُمَيِّزينَ كلِّهم مِن أهلِ السَّمواتِ والأرضِ أن يَحمَدوه. وممَّن قال بذلك في الجملةِ: النسفي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (2/694)، ((تفسير الشوكاني)) (4/252). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (8/381). .
وَعَشِيًّا.
أي: ونزِّهوا اللهَ -أيُّها النَّاسُ- وَقْتَ العَشِيِّ [178] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/476)، ((تفسير الماوردي)) (4/304)، ((جامع المسائل)) لابن تيمية (6/344)، ((تفسير السعدي)) (ص: 638)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/67). قيل: المرادُ بالعَشيِّ هنا: صلاةُ العصرِ. ومِمَّن قال بهذا: ابنُ جرير، وابن تيميَّةَ، وهو ظاهرُ اختيارِ ابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/476)، ((جامع المسائل)) لابن تيمية (6/344)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 92). وممَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ، ومجاهدٌ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/474). وقيل: العَشِيُّ هنا إشارةٌ إلى صلاةِ العِشاءِ. ومِمَّن قال بذلك: الثعلبي، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (7/297)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/62). وقيل: العَشِيُّ: شِدَّةُ الظَّلامِ. وممَّن قال بذلك: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/307). .
كما قال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [غافر: 55] .
وَحِينَ تُظْهِرُونَ.
أي: ونزِّهوا اللهَ وَقْتَ الإظهارِ [179] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/476)، ((البسيط)) للواحدي (18/30)، ((تفسير السعدي)) (ص: 638)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/67). قيل: المرادُ بالإظهارِ هنا: صلاةُ الظُّهرِ. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، وابنُ تيميَّةَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/476)، ((جامع المسائل)) لابن تيميَّةَ (6/344). ومِمَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ، ومجاهدٌ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/474). وقيل: هو قوَّةُ الضِّياءِ. وممَّن قال بذلك: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/307). .
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
وَجهُ تَعلُّقِ إخراجِ الحَيِّ مِنَ الميِّتِ والميِّتِ مِنَ الحَيِّ بما تقَدَّمَ عليه: أنَّه عندَ الإصباحِ يَخرُجُ الإنسانُ مِن شِبهِ الموتِ -وهو النَّومُ- إلى شِبهِ الوجودِ -وهو اليَقَظةُ-، وعندَ العِشاءِ يَخرُجُ الإنسانُ مِن اليَقَظةِ إلى النَّومِ [180] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/89). .
وأيضًا أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الإبداءَ والإعادةَ؛ ناسَبَ ذِكرَه: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [181] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/381). .
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ.
أي: يُخرِجُ اللهُ بقُدرتِه الحَيَّ مِن الميِّتِ؛ كالإنسانِ مِن النُّطفةِ، والنَّباتِ مِن الحَبِّ، والدَّجاجِ مِن البَيضِ، والمؤمِنِ مِن الكافِرِ [182] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/308)، ((تفسير السعدي)) (ص: 639)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/68)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 95). قال ابن عثيمين في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ آلِ عِمرانَ، الآية (27): (والمرادُ بالحيِّ: الحيُّ حياةً حِسِّيَّةً ومَعنويَّةً؛ وذلك لأنَّ اللَّفظَ صالحٌ لِلمَعنَيَينِ، وإذا صلَح اللَّفظُ للمَعنيَينِ بدُونِ تَنافٍ بيْنَهما، فالواجبُ حمْلُه عليهما. الحيُّ حياةً حِسِّيَّةً أمثلتُه كثيرةٌ، فالإنسانُ مخلوقٌ مِن نُطفةٍ، وهي ميتةٌ بالمعنى اللُّغَويِّ، فصار حيًّا مِن مَيتٍ... أو يُخرِجُ حيًّا ناميًا مُتحَرِّكًا مِن شَيءٍ لا ينمو، فهو ميتٌ؛ كإخراجِ الفَرخِ مِنَ البَيضةِ؛ فإنَّ البيضةَ مَيتةٌ يخرُجُ منها فرخٌ حيٌّ. هذا الموتُ الحِسِّيُّ. أمَّا المعنويُّ: فيُخرِجُ الحيَّ مِنَ المَيتِ أي: المؤمنَ مِنَ الكافرِ؛ لأنَّ المؤمنَ حيٌّ حياةً قلبيَّةً، والكافرَ ميتٌ؛ يُخرِجُ الحيَّ العالِمَ مِنَ الميتِ الجاهلِ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة آل عمران)) (1/164). وقال ابنُ كثيرٍ في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ الأنعام، الآية (95): (وقد عبَّروا عن هذا وهذا بعباراتٍ كلُّها مُتقارِبةٌ مؤَدِّيةٌ للمعنى؛ فمِن قائلٍ: يُخرِجُ الدَّجاجةَ مِنَ البَيضةِ، والبيضةِ مِنَ الدَّجاجةِ، ومِن قائلٍ: يُخرِجُ الولدَ الصَّالحَ مِنَ الكافرِ، والكافرِ مِنَ الصَّالحِ، وغير ذلك مِنَ العِباراتِ الَّتي تَنتظِمُها الآيةُ وتَشملُها). ((تفسير ابن كثير)) (3/304). .
وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ.
أي: ويُخرِجُ اللهُ بقُدرتِه الميِّتَ مِن الحَيِّ؛ كالنُّطفةِ مِن الرَّجُلِ، والحَبِّ مِن النَّباتِ، والبَيضِ مِن الدَّجاجِ، والكافِرِ مِن المؤمِنِ [183] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/308)، ((تفسير السعدي)) (ص: 639)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/68)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 95، 96). .
وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا.
أي: ويُنزِلُ اللهُ الماءَ على الأرضِ اليابِسةِ القاحِلةِ، فتَنبُتُ بعدَ جُدوبِها [184] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 639)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 96). .
كما قال تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ [يس: 33، 34].
وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ.
أي: وكما يُحيي اللهُ الأرضَ بعدَ مَوتِها، فيُخرِجُ نباتَها وزَرْعَها بقُدرتِه، يُحييكم -أيُّها النَّاسُ- بعدَ مَوتِكم، ويُخرِجُكم أحياءً مِن قُبورِكم يومَ القيامةِ [185] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/476)، ((تفسير القرطبي)) (14/16)، ((تفسير السعدي)) (ص: 639). قال ابنُ عثيمين: (ظاهِرُ الآياتِ الكريماتِ أنَّ خُروجَ النَّاسِ مِن القبورِ يُشبِهُ خُروجَ النَّباتِ مِن الأرضِ، وخُروجُ النَّباتِ من الأرضِ يكونُ بنزولِ المطرِ عليها، فيكونُ في هذه الآيةِ إشارةٌ إلى ما ورد في الحديثِ مِن أنَّ الله تعالى يُمطِرُ على القُبورِ مطَرًا... تَنبُتُ منه الأجسادُ في القبورِ، ثمَّ بعدَ ذلك تخرُجُ إذا نُفِخَ في الصُّورِ،... وظاهِرُ القرآنِ أيضًا يشيرُ إليه). ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 97). عن عبدِ الله بنِ عمرٍو، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ... ثمَّ يرسلُ الله -أو قال: ينزلُ الله- مطرًا كأنَّه الطَّلُّ أو الظِّلُّ فتنبتُ منه أجسادُ الناسِ، ثمَّ يُنفخُ فيه أخرَى، فإذا هم قيامٌ ينظرونَ)). أخرجه مسلم في ((صحيحه)) (2940). وعن أبي هريرةَ مرفوعًا: ((ثم ينزلُ الله مِن السماءِ ماءً، فينبتونَ كما ينبتُ البقلُ)). أخرجه البخاري (4935)، ومسلم (2955). .
كما قال تعالى: وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [الزخرف: 11].
وقال سُبحانَه: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا [نوح: 17، 18].
وقال تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ [فاطر: 9]
وقال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف: 57] .
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ الله تعالى بالتَّسبيحِ عن النَّقائِصِ والعيوبِ، وذكَرَ أنَّ الحَمدَ له على خَلقِ جَميعِ الأشياءِ، وبيَّنَ قُدرتَه على الإماتةِ والإحياءِ بقَولِه: فَسُبْحَانَ اللَّهِ إلى قَولِه: وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ- ذكَرَ ما هو حُجَّةٌ ظاهِرةٌ وآيةٌ باهِرةٌ على ذلك، ومِن جُملتِها خَلْقُ الإنسانِ مِن تُرابٍ [186] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/89). ، فقال:
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ.
أي: ومِن العَلاماتِ الدَّالَّةِ على صِفاتِ اللهِ تعالى، كوحدانيَّتِه وكَمالِ قُدرتِه: أنَّه ابتدَأ خَلْقَكم مِن تُرابٍ، فخَلَق أباكم آدَمَ منه [187] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/477)، ((البسيط)) للواحدي (18/33)، ((تفسير القرطبي)) (14/17)، ((تفسير ابن كثير)) (6/308)، ((تفسير السعدي)) (ص: 639)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 101-102، 104). وقال ابن عثيمين: (يجوزُ أنَّ نَفْسَ الإنسانِ فيه مادَّةٌ تُرابيَّةٌ، والآنَ هم يقولونَ: إنَّ الإنسانَ فيه مِن جميعِ معادِنِ الأرضِ؛ فيه رَصاصٌ، ونُحاسٌ، وجيرٌ، وحديدٌ، وترابٌ، وكُلُّ شَيءٍ؛ فنَفْسُ الجسمِ مُكَوَّنٌ مِن هذه الأشياءِ، فلا يَبعُدُ أن تكونَ هذه السُّلالةُ الَّتي تَخرجُ منه فيها هذه الموادُّ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 103، 104). .
كما قال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ... الآيةَ [الحج: 5] .
ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ.
أي: ثمَّ [188] قال ابنُ عثيمين: («ثمَّ» دالَّةٌ على المهلةِ؛ لأنَّه بعدَ خَلقِ آدَمَ لم يأتِ الأولادُ مُباشرةً). ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 102). تَصيرونَ مِن هذا التُّرابِ الجامِدِ بَشَرًا أحياءً تَنتَشِرونَ في الأرضِ، وتَسعَونَ فيها [189] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/478)، ((البسيط)) للواحدي (18/33)، ((تفسير القرطبي)) (14/17)، ((تفسير ابن كثير)) (6/308). .
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّنَ اللهُ خَلْقَ الإنسانِ؛ بَيَّن أنَّه لَمَّا خَلَق الإنسانَ ولم يكُنْ مِن الأشياءِ الَّتي تَبقى وتَدومُ سِنينَ مُتطاوِلةً، أبقى نوعَه بالأشخاصِ، وجعَلَه بحيثُ يَتوالَدُ، فإذا مات الأبُ يقومُ الابنُ مَقامَه؛ لِئَلَّا يُوجِبَ فَقْدُ الواحِدِ ثُلْمةً في العِمارةِ لا تَنسَدُّ [190] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/91). .
وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا.
أي: ومِن العَلاماتِ الدَّالَّةِ على صِفاتِ الله تعالى: أنَّه خَلَق لكم مِن أنفُسِكم [191] قيل: المرادُ بـ أَنْفُسِكُمْ: جِنسُكم، أي: خلَقَ لكم مِن جِنسِكم أزواجًا، فجعَل النَّاسَ يَتزاوَجونَ مِن جِنسِهم البَشَريِّ. ومِمَّن قال بهذا المعنى: القرطبيُّ، وابن كثير، وابن عاشور، ومال إليه ابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/17)، ((تفسير ابن كثير)) (6/309)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/72)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 108). ومِمَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: الكلبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/420). وقيل: معنى أَنْفُسِكُمْ: ذواتِكم، أي: إنَّ اللهَ خلَقَ حوَّاءَ مِن ضِلَعٍ مِن أضلاعِ آدَمَ، فهي بعضٌ منه. ومِمَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/478)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5677). ومِمَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلَفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/478). وظاهِرُ عبارةِ البِقاعيِّ الجَمعُ بينَ المعنيَينِ؛ حيث قال: (ولَمَّا كان إيجادُ الأنثى مِن الذَّكَرِ خاصًّا لم يكُنْ إلَّا مرَّةً واحدةً كالخَلقِ مِن التُّرابِ؛ عَبَّرَ بالماضي، فقال: أَنْ خَلَقَ لَكُمْ أي: لأجْلِكم؛ لِيَبقى نوعُكم بالتَّوالُدِ. وفي تقديمِ الجارِّ دَلالةٌ على حُرمةِ التَّزَوُّجِ مِن غيرِ النَّوعِ. والتَّعبيرُ بالنَّفسِ أظهَرُ في كَونِها مِن بَدَنِ الرَّجُلِ، في قَولِه: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي: جِنسِكم، بعدَ إيجادِها مِن ذاتِ أبيكم آدَمَ عليه السَّلامُ). ((نظم الدرر)) (15/66، 67). أزواجًا؛ لِتَحصُلَ المناسَبةُ والأُلْفةُ والاطمِئنانُ بيْنَكم [192] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/17)، ((تفسير البيضاوي)) (4/204)، ((تفسير ابن كثير)) (6/309)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/66، 67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 639)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/71)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 108، 109). قال ابن تيميَّةَ: (فيَسكُنُ الرَّجُلُ إلى المرأةِ بقَلبِه وبَدَنِه جميعًا). ((مجموع الفتاوى)) (5/571). .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف: 189] .
وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً.
أي: وجعَلَ اللهُ بيْنَكم -أيُّها الأزواجُ- مَحبَّةً عَظيمةً، ورَحمةً يَعطِفُ بها بَعضُكم على بعضٍ [193] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/478)، ((البسيط)) للواحدي (18/34)، ((تفسير ابن كثير)) (6/309)، ((تفسير السعدي)) (ص: 639)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 109، 110). .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
أي: إنَّ في خَلْقِ اللهِ لكم أزواجًا مِن أنفُسِكم لِتَسكُنوا إليها، وما جعَل بيْنَكم مِن المَودَّةِ والرَّحمةِ- لَعَلاماتٍ ودَلالاتٍ على قُدرةِ اللهِ، وحِكمتِه ورَحمتِه، وغيرِها، لِقَومٍ يُعمِلونَ فِكرَهم في ذلك [194] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/478)، ((البسيط)) للواحدي (18/35)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/186)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/68، 69)، ((تفسير السعدي)) (ص: 639)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 111). .
وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى دَلائِلَ الأنفُسِ؛ ذكَرَ دَلائلَ الآفاقِ، وأظهَرُها خَلْقُ السَّمَواتِ والأرضِ [195] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/92). .
وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: ومِنَ العَلاماتِ الدَّالَّةِ على توحيدِ اللهِ، وكَمالِ قُدرتِه العظيمةِ، وغيرِ ذلك: إيجادُه السَّمَواتِ والأرضَ مِنَ العَدَمِ، وعلى تَقديرٍ ونظامٍ بديعٍ، مع ما فيهما مِن المخلوقاتِ العَظيمةِ المُتنَوِّعةِ [196] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/479)، ((البسيط)) للواحدي (18/35)، ((تفسير ابن كثير)) (6/309)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/69)، ((تفسير السعدي)) (ص: 639)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 117، 118). .
وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ.
أي: ومِن العَلاماتِ أيضًا: اختِلافُ لُغاتِكم وألوانِ أجسادِكم، مع أنَّ أصلَكم واحدٌ؛ مِن أبيكم آدَمَ [197] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/479)، ((تفسير القرطبي)) (14/18)، ((تفسير ابن كثير)) (6/309، 310)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/73، 74)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/173)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 118-121). .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ  ... [فاطر: 27، 28].
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ لِلْعَالِمِينَ بكَسرِ اللَّامِ الثَّانيةِ: جمعُ عالِمٍ، أي: هذه الآياتُ للعُلَماءِ؛ لأنَّ العالِمَ أقرَبُ إلى الاعتبارِ مِن الجاهِلِ [198] قرأ بها حَفصٌ عن عاصمٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/344). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/264)، ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 282)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 557، 558). .
2- قراءة لِلْعَالَمِينَ بفَتحِ اللَّامِ الثَّانيةِ: جَمعُ عالَمٍ [199] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/344). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/264)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 558). .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ.
أي: إنَّ في خَلْقِ اللهِ السَّمَواتِ والأرضَ، واختلافِ ألسُنِ البشَرِ وألوانِهم: لَعَلاماتٍ وأدِلَّةً لأُولي العِلمِ، ومِن ذلك الاستِدلالُ بها على وحدانيَّةِ الله تعالى وقُدرتِه على إعادةِ الخَلقِ بعدَ مَوتِهم [200] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/479)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/70)، ((تفسير القاسمي)) (8/9)، ((تفسير السعدي)) (ص: 639). .
وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى بَعضَ الأعراضِ اللَّازمةِ، وهو الاختِلافُ؛ ذكَرَ الأعراضَ المُفارِقةَ، ومِن جُملتِها النَّومُ باللَّيلِ، والحَركةُ في النَّهارِ؛ طَلَبًا للرِّزقِ [201] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/93)، ((تفسير ابن عادل)) (15/397). .
وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
أي: ومِنَ العلاماتِ أيضًا مَنامُكم في اللَّيلِ والنَّهارِ؛ لِراحةِ أبدانِكم، وطَلَبُكم رِزقَ اللهِ فيهما [202] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/333)، ((تفسير البيضاوي)) (4/205)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/71)، ((تفسير أبي السعود)) (7/57)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/76)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 124، 125). وممَّن قال بأنَّ الآيةَ تعني أنَّ النَّومَ وطَلَبَ الرِّزقِ كليهما يَكونانِ في اللَّيلِ وفي النَّهارِ: ابنُ عطية، والبيضاوي، والبِقاعي، وأبو السعود، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: المصادر السابقة. ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (6/310). وقيل المرادُ في الآية: أنَّ النَّومَ في اللَّيلِ، والابتغاءَ مِن فَضلِه: في النَّهارِ. ومِمَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والواحدي، وابن القيم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/479)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (3/431)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/186). قال ابنُ عطية: (ذكَرَ تعالى النَّومَ باللَّيلِ والنَّهارِ، وعُرْفُ النَّومِ إنَّما هو باللَّيلِ وحْدَه، ثمَّ ذَكَر الابتغاءَ مِن فَضلِه كأنَّه فيهما، وإنَّما معنى ذلك: أنَّه عَمَّ باللَّيلِ والنَّهارِ، فسَمَّى الزَّمانَ، وقَصَد مِن ذلك تعديدَ آيةِ النَّومِ وتعديدَ آيةِ ابتغاءِ الفَضلِ؛ فإنَّهما آيتانِ تَكونانِ في لَيلٍ ونهارٍ، والعُرفُ يجيزُ كُلَّ واحدةٍ مِن النِّعمَتينِ، أي محلَّها مِن الأغلَبِ. وقال بعضُ المفَسِّرينَ: في الكلامِ تَقديمٌ وتأخيرٌ. وهذا ضعيفٌ، وإنَّما أراد أن يرتِّبَ النَّومَ لِلَّيلِ، والابتِغاءَ للنَّهارِ، ولَفظُ الآيةِ لا يُعطي ما أراد). ((تفسير ابن عطية)) (4/333). وقال الشوكاني: (قيل: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، والتَّقديرُ: ومِن آياتِه مَنامُكم باللَّيلِ، وابتغاؤُكم مِن فَضلِه بالنَّهارِ. وقيل: المعنى صحيحٌ مِن دونِ تقديمٍ وتأخيرٍ، أي: ومِن آياتِه العظيمةِ أنَّكم تنامون باللَّيلِ، وتنامون [بالنَّهارِ] في بَعضِ الأحوالِ للاستِراحةِ، كوقتِ القَيلولةِ؛ وابتغاؤكم مِن فَضلِه فيهما؛ فإنَّ كُلَّ واحدٍ منهما يقَعُ فيه ذلك، وإن كان ابتغاءُ الفَضلِ في النَّهارِ أكثَرَ. والأوَّلُ: هو المناسِبُ لسائرِ الآياتِ الواردةِ في هذا المعنى، والآخِرُ: هو المناسِبُ للنَّظمِ القرآنيِّ هاهنا). ((تفسير الشوكاني)) (4/253، 254). .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ.
أي: إنَّ في مَنامِكم باللَّيلِ والنَّهارِ، وابتغائِكم مِن فَضلِ اللهِ فيهما: لَعَلاماتٍ ودَلالاتٍ لِقَومٍ يَسمَعونَ سَماعَ تدَبُّرٍ وتفَهُّمٍ، ومِن ذلك الاستِدلالُ بهما على رحمةِ اللهِ، وتَوحيدِه، وقُدرتِه على بَعثِ الخَلقِ بعدَ مَوتِهم [203] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/479)، ((تفسير القرطبي)) (14/18)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/186)، ((تفسير السعدي)) (ص: 639). قال القُرطبي: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ يريدُ: سَماعَ تفَهُّمٍ وتدَبُّرٍ. وقيل: يَسمَعونَ الحَقَّ فيتَّبِعونَه. وقيل: يَسمَعونَ الوَعظَ فيَخافونَه. وقيل: يَسمَعونَ القُرآنَ فيُصَدِّقونَه، والمعنى متقارِبٌ. وقيل: كان منهم مَن إذا تُليَ القرآنُ وهو حاضِرٌ سَدَّ أذُنَيه؛ حتَّى لا يَسمَعَ، فبَيَّن اللهُ عزَّ وجَلَّ هذه الدَّلائِلَ عليه). ((تفسير القرطبي)) (14/18). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ فيه الحثُّ على النَّظرِ في البعثِ، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ [الحج: 5] . والنَّظرُ في البعثِ وسيلةٌ إلى الاستِعدادِ له، والتَّزيُّنِ لِلِقاءِ الله تعالى [204] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 46، 47). .
2- قَولُ الله تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ هذه آيةٌ فيها عِظةٌ وتذكيرٌ بنِظامِ النَّاسِ العامِّ، وهو نِظامُ الازدِواجِ، وكينونةِ العائلةِ، وأساسِ التَّناسُلِ، وهو نظامٌ عَجيبٌ جَعَله الله مُرتَكِزًا في الجِبِلَّةِ لا يَشِذُّ عنه إلَّا الشُّذَّاذُ، وهي آيةٌ تَنطوي على عِدَّةِ آياتٍ؛ منها: أنْ جَعَل للإنسانِ ناموسَ التَّناسُلِ، وأنْ جَعَل تَناسُلَه بالتَّزاوُجِ، ولم يجعَلْه كتَناسُلِ النَّباتِ مِن نَفسِه، وأنْ جَعَل أزواجَ الإنسانِ مِن صِنفِه، ولم يجعَلْها مِن صِنفٍ آخَرَ؛ لأنَّ التَّآنُسَ لا يَحصُلُ بصِنفٍ مُخالِفٍ، وأنْ جَعَل في ذلك التَّزاوُجِ أُنْسًا بيْنَ الزَّوجَينِ، ولم يجعَلْه تزاوجًا عنيفًا أو مُهلِكًا كتزاوُجِ الضَّفادِعِ، وأنْ جَعَل بيْنَ كلِّ زَوجينِ مَودَّةً ومحبَّةً؛ فالزَّوجانِ يَكونانِ مِن قَبلِ التَّزاوُجِ مُتجاهِلَينِ، فيُصبِحانِ بعدَ التَّزاوُجِ مُتحابَّينِ، وأنْ جَعَل بيْنَهما رحمةً؛ فهما قبْلَ التَّزاوُجِ لا عاطِفةَ بيْنَهما، فيُصبِحانِ بعدَه مُتَراحِمَينِ، كرَحمةِ الأبُوَّةِ والأمومةِ. ولأجْلِ ما يَنطوي عليه هذا الدَّليلُ، ويَتبَعُه مِنَ النِّعَمِ والدَّلائلِ؛ جُعِلَت هذه الآيةُ آياتٍ عِدَّةً في قَولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وهذه الآيةُ كائِنةٌ في خَلقِ جَوهرِ الصِّنفَينِ مِن الإنسانِ: صِنفِ الذَّكَرِ، وصِنفِ الأُنثى، وإبداعِ نِظامِ الإقبالِ بيْنَهما في جبِلَّتِهما، وذلك مِنَ الذَّاتيَّاتِ النِّسبيَّةِ بيْنَ الصِّنفَينِ [205] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/70، 71). .
3- في قَولِه تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً دَلالةٌ على أنَّ المَودَّةَ لا تُنالُ بالكَسبِ، يعني: أنَّ اللهَ قد يجعَلُها في قَلبِ الإنسانِ، فأنت لو أرَدْتَ أنْ تُجْبِرَ نفْسَك على محبَّةِ شَيءٍ، والله عزَّ وجلَّ لم يجعَلْ في قَلبِك مَودَّتَه، فلن تُحِبَّه؛ ولهذا مَنَّ اللهُ على المؤمِنينَ بقَولِه: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ [الحجرات: 7] ، وأنت تقولُ في الدُّعاءِ: ((أسألُك حُبَّك، وحُبَّ مَن يُحِبُّك، وحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُ إلى حُبِّك )) [206] أخرجه الترمذي (3235)، وأحمد (22109) من حديث مُعاذِ بنِ جبلٍ رضي الله عنه. قال البخاري كما في ((سنن الترمذي)) (3235): حسن صحيح. وكذا قال الترمذي، وصححه ابن العربي في ((أحكام القرآن)) (4/73)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3235). ، إذنْ فالمَودَّةُ يُلقيها اللهُ عزَّ وجَلَّ في القَلبِ؛ فأنت ينبغي لك أنْ تسألَ اللهَ دائمًا أنْ تكونَ محبَّتُك لله وفي الله؛ لِتَكونَ المحبَّةُ باللهِ [207] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 114). .
4- قَولُ الله تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أخَّرَ الابتِغاءَ، وقَرَنَه في اللَّفظِ بالفَضلِ؛ إشارةً إلى أنَّ العَبدَ ينبغي ألَّا يَرى الرِّزقَ مِن كَسْبِه وبحِذْقِه، بل يَرى كُلَّ ذلك مِن فَضلِ رَبِّه [208] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/93). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ دَلالةٌ على وُجوبِ التَّسبيحِ في الصَّلاةِ؛ لأنَّ القاعدةَ: «أنَّه إذا أُطلِقَ على العبادةِ جزءٌ منها؛ دلَّ ذلك على أنَّ هذا الجزءَ مِن واجباتِها، وأنَّه لا بُدَّ منه» [209] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 93). . هذا على القولِ بأنَّ المرادَ بالتَّسبيحِ الصَّلاةُ.
2- في قَولِه تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ دَلالةٌ على أنَّه وَحْدَه المُستَحِقُّ لأنْ يُحمَدَ على وَجهِ الإطلاقِ، ووجهُ ذلك تقديمُ الخبَرِ في قَولِه: وَلَهُ الْحَمْدُ [210] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 94). .
3- في قَولِه تعالى: وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ قياسُ الغائبِ على الشَّاهِدِ؛ فإنَّ قياسَ الغائبِ على الشَّاهِدِ لِيُحْمَلَ على الإقرارِ به: طريقةٌ متَّبَعةٌ [211] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 98). .
4- قَولُ الله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ فيه إيماءٌ إلى أنَّ اللهَ تعالى يُخرِجُ مِن غُلاةِ المُشرِكينَ أفاضِلَ مِن المؤمِنينَ [212] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/68). .
5- في قَولِه تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وقَولِه سُبحانَه: وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إثباتُ قيامِ الأفعالِ الاختياريَّةِ باللهِ عزَّ وجَلَّ، والأفعالُ الاختياريَّةُ: هي الَّتي يفعَلُها بمَشيئتِه؛ إنْ شاءَ فَعَلَ، وإنْ شاء لم يَفعَلْ؛ فإنَّ البَعْديَّةَ في قَولِه تعالى: وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا تقتَضي حُدوثَ هذا الشَّيءِ [213] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 97). .
6- قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ في هذا دَليلٌ على صِحَّةِ القياسِ [214] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/16). .
7- قَولُ الله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ هذا دليلٌ قاطِعٌ وبُرهانٌ ساطِعٌ على أنَّ الَّذي أحيا الأرضَ بعدَ مَوتِها، فإنَّه يُحيي الأمواتَ؛ فلا فَرْقَ في نظَرِ العَقلِ بينَ الأمرَينِ، ولا مُوجِبَ لاستبعادِ أحَدِهما مع مُشاهَدةِ الآخَرِ [215] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 638). .
8- قَولُه تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ * وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا خارِجٌ على سَعَةِ لِسانِ العرَبِ؛ لأنَّ المخلوقَ مِن تُرابٍ آدمُ وَحْدَه، والمخلوقَ له مِن نفْسِه زوجتُه؛ فلمَّا كان البَشَرُ جميعًا مِن نَسْلِه سمَّاهم بذلك؛ بِناءً على سَعةِ اللِّسانِ [216] يُنظر: ((النُّكَت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/608). .
9- في قَولِه تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ دَلالةٌ على إبطالِ النَّظريةِ الخاطِئةِ «نظريةِ النُّشوءِ والتطُّورِ» الَّتي كان قائدُها «دارون»؛ فهي نظريةٌ خاطِئةٌ وباطِلةٌ بلا شَكٍّ؛ ووجهُ ذلك: أنَّ اللهَ يقولُ: أَنْ خَلَقَكُمْ، فيُخاطِبُ البشَرَ باعتبارِه بَشَرًا، إذَن فهو بشرٌ منذُ أُنشِئَ مِن التُّرابِ إلى اليَومِ [217] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 104). !
10- قَولُه تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ فيه تنبيهٌ على عَظيمِ قُدرتِه سبحانه بخلْقِ الإنسانِ مِن تُرابٍ، وهو أبعدُ الأشياءِ عن دَرجةِ الإحياءِ؛ لأنَّه باردٌ يابسٌ، والحياةُ بالحرارةِ والرُّطوبةِ [218] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/381). .
11- قَولُ الله تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا فيه دَلالةٌ ظاهرةٌ على حرمةِ التزوُّجِ مِن غيرِ الجنسِ، كالجنِّ [219] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/162). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/66). .
12- في قَولِه تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا دَلالةٌ على أنَّ مِن أهَمِّ أغراضِ النِّكاحِ ومَقاصِدِه السُّكونَ إلى الزَّوجةِ، والاطمِئنانَ إليها، والحياةَ معها حياةً سَعيدةً؛ فالحِكمةُ مِن الزَّوجيَّةِ هي السُّكونُ، أي: سُكونُ أحدِ الزَّوجَينِ إلى الآخَرِ، ويتفرَّعُ على ذلك أنَّه إذا حَصَل التَّنافُرُ واستمرَّ، فإنَّ مِن الحِكمةِ التَّفريقَ بيْنَهما؛ لِقَولِه تعالى: لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا، فإذا فاتتْ هذه الحِكمةُ فإنَّه لا زَواجَ [220] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 112). !
13- في قَولِه تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا دَلالةٌ على أنَّ محبَّةَ الزَّوجاتِ لا لَومَ على المُحِبِّ فيها، بل هي مِن كَمالِه؛ فقد امتَنَّ اللهُ سُبحانَه بها على عِبادِه [221] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 236). ، إلَّا إذا شغَلَه ذلك عن محبَّةِ ما هو أنفَعُ له؛ مِن محبَّةِ اللهِ ورَسولِه، وزاحَمَ حُبَّ الله وحُبَّ رَسولِه؛ فإنَّ كُلَّ مَحبَّةٍ زاحَمَت محبَّةَ اللهِ ورَسولِه بحيثُ تُضعِفُها وتَنقُصُها فهي مَذمومةٌ، وإن أعانت على محبَّةِ اللهِ ورَسولِه وكانت مِن أسبابِ قُوَّتِها فهي محمودةٌ [222] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/140). .
14- قولُه تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، قال: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ؛ لأنَّ ذلك لا يُدرَكُ إلَّا بالفِكرِ في تأليفٍ بينَ شَيئينِ لم يكُنْ بيْنَهما تَعارُفٌ [223] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/384). .
15- قَولُ الله تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ، استُدِلَّ به على أنَّ اللُّغاتِ تَوقيفيَّةٌ، على أنَّ المعنى: ومِن آياتِه خَلْقُ اللُّغاتِ المُختَلِفةِ الَّتي تَجري على الألسِنةِ [224] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 207). ومعنى كَونِها توقيفيَّةً: أنَّ الله تعالى هو الَّذي وضَعها، ووقَفَ خَلْقَه عليها. يُنظر الخلافُ في المسألةِ في: ((نفائس الأصول في شرح المحصول)) للقرافي (1/449)، ((تشنيف المسامع بجمع الجوامع)) للزركشي (1/393)، ((الغيث الهامع شرح جمع الجوامع)) لأبي زرعة (ص: 145). .
16- قال الله تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وجْهُ ذِكرِ النَّومِ والابتغاءِ هاهنا وجَعْلِهما مِن جملةِ الأدِلَّةِ على البَعثِ: أنَّ النَّومَ شَبيهٌ بالموتِ، والتَّصَرُّفَ في الحاجاتِ والسَّعيَ في المكاسِبِ شَبيهٌ بالحياةِ بعدَ الموتِ [225] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/254). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قَولُه تعالى: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ
- الفاءُ في فَسُبْحَانَ تَقْتضي اتِّصالَ ما بعْدَها بما قبْلَها، وهي فاءٌ فصيحةٌ، أو عطْفُ تَفريعٍ على ما قبْلَها، وقد كان أوَّلُ الكلامِ قولَه: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الروم: 8] ، والضَّميرُ عائدٌ إلى أَكْثَرَ النَّاسِ في قولِه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الروم: 6] ، والمُرادُ بهم الكُفَّارُ؛ فالتَّفريعُ أو الإفصاحُ ناشِئٌ عن ذلك، فيكونُ المَقصودُ مِن فَسُبْحَانَ اللَّهِ إنشاءَ تَنْزيهِ اللهِ تعالى عمَّا نَسَبوه إليه مِن العجْزِ عن إحياءِ النَّاسِ بعْدَ مَوتِهم، وإنشاءَ ثَناءٍ عليه. والخِطابُ في تُمْسُونَ وتُصْبِحُونَ تابعٌ للخِطابِ الَّذي قبْلَه في قولِه: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم: 11] ، وهو مُوجَّهٌ إلى المشركينَ على طَريقةِ الالْتِفاتِ مِن ضَمائرِ الغَيبةِ المُبتدِئةِ مِن قولِه: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ [الروم: 8] إلى آخرِها [226] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/381)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/65). .
- قولُه: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ فيه تَقديمُ التَّسبيحِ على التَّحميدِ؛ لِمَا أنَّ التَّخليةَ مُتقدِّمةٌ على التَّحليةِ. والفاءُ لتَرتيبِ ما بعدَها على ما قبْلَها، أي: إذا عَلِمْتُم ذلك فسَبِّحوا اللهَ تعالى تَسبيحَه اللَّائقَ في هذه الأوقاتِ واحْمَدُوه؛ فإنَّ الإخبارَ بثُبوتِ الحمْدِ له تعالى ووُجوبِه على المُميِّزِينَ مِن أهلِ السَّمواتِ والأرضِ في معنَى الأمْرِ به على أبلَغِ وجْهٍ وآكَدِه. وتَوسيطُه بينَ أوقاتِ التَّسبيحِ؛ للاعتناءِ بشأْنِه، والإشعارِ بأنَّ حقَّهما أنْ يُجمعَ بينَهما، كما يُنبِئُ عنه قولُه تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر: 98] . وتَخصيصُهما بتلكَ الأوقاتِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ ما يَحدُثُ فيها مِن آياتِ قُدرتِه وأحكامِ رَحمتِه ونِعمتِه، شواهدُ ناطقةٌ بتَنزُّهِه تعالى، واسْتحقاقِه الحمْدَ، ومُوجِبةٌ لِتَسبيحِه وتَحميدِه حتْمًا [227] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/203)، ((تفسير أبي حيان)) (8/381)، ((تفسير أبي السعود)) (7/54، 55)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/65). .
- وقيل: إنَّ قولَه: حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ظُروفٌ مُتعلِّقةٌ بما في إنشاءِ التَّنزيهِ مِن مَعنى الفِعلِ، أي: يُنشأُ تَنزيهُ اللهِ في هذه الأوقاتِ، وهي الأجزاءُ الَّتي يَتجزَّأُ الزَّمانُ إليها، والمَقصودُ التَّأبيدُ، كما تقولُ: سُبحانَ اللهِ دَومًا، وسُلِكَ به مَسلَكَ الإطنابِ؛ لأنَّه مُناسِبٌ لمَقامِ الثَّناءِ [228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/65). .
- وقيل: تَخْصيصُ التَّسبيحِ بالمساءِ والصَّباحِ؛ لأنَّ آثارَ القُدْرةِ والعظَمةِ فيهما أظهَرُ. وتَخصيصُ الحمْدِ بالعَشِيِّ الَّذي هو آخِرُ النَّهارِ والظَّهيرةِ الَّتي هي وسَطُه؛ لأنَّ تجدُّدَ النِّعَمِ فيهما أكثرُ [229] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/203). .
وقيل: خصَّ بعضَ الأوقاتِ بالأمرِ بالتَّسبيحِ؛ وذلك لأنَّ أفضلَ الأعمالِ أدومُها [230] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/86). .
- وجُوِّزَ أنْ يكونَ فَسُبْحَانَ هنا مَصدرًا واقعًا بدلًا عن فِعلِ أمْرٍ بالتَّسبيحِ، كأنَّه قِيل: فسَبِّحوا اللهَ سُبحانًا. فـ (سُبحان) أمْرٌ بأنْ يَقولوا: سُبحانَ اللهِ، وهو كِنايةٌ عن الصَّلاةِ؛ لأنَّ الصَّلاةَ تَشتمِلُ على قولِ: سُبحانَ ربِّيَ الأعلى وبحَمْدِه. وقولُه: حِينَ تُمْسُونَ إلى آخرِه، إشارةٌ إلى أوقاتِ الصَّلواتِ، وهو يَقْتضي أنْ يكونَ الخِطابُ مُوجَّهًا إلى المؤمنينَ. والمُناسَبةُ مع سابِقِه: أنَّه لَمَّا وعَدَهم بحُسنِ مَصيرِهم، لقَّنَهم شُكرَ نِعمةِ اللهِ بإقامةِ الصَّلاةِ في أجزاءِ اليومِ واللَّيلةِ. وهذا التَّفريعُ يُؤذِنُ بأنَّ التَّسبيحَ والتَّحميدَ الواقعَينِ إنشاءَ ثَناءٍ على اللهِ، كنايةٌ عن الشُّكرِ عن النِّعمةِ؛ لأنَّ التَّصدِّيَ لإنشاءِ الثَّناءِ عقِبَ حُصولِ الإنعامِ أو الوعْدِ به يدُلُّ على أنَّ المادِحَ ما بعَثَه على المدْحِ في ذلك المَقامِ إلَّا قصْدُ الجزاءِ على النِّعمةِ بما في طَوقِه. وليست الصَّلواتُ الخمْسُ وأوقاتُها هي المُرادَ مِن الآيةِ، ولكنْ نُسِجَت على نسْجٍ صالحٍ لشُمولِه الصَّلواتِ الخمْسَ وأوقاتَها، وذلك مِن إعجازِ القرآنِ؛ لأنَّ الصَّلاةَ وإنْ كان فيها تَسبيحٌ ويُطلَقُ عليها السُّبْحةُ، فلا يُطلَقُ عليها: سُبحانَ اللهِ [231] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/65، 66). .
- قولُه: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ فيه تقديمُ الإمساءِ على الإصباحِ، كما قُدِّمَ في قولِه: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ [الحج: 61] ، والظُّلماتُ على النُّورِ، وقابَلَ بالعَشِيِّ الإمساءَ، وبالإظهارِ الإصباحَ؛ لأنَّ كلًّا منهما يُعقَبُ بما يُقابِلُه؛ فالعشِيُّ يَعقُبُه الإمساءُ، والإصباحُ يَعقُبُه الإظهارُ [232] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/381). . وقيل: قدَّمَ فِعلَ الإمساءِ على فِعلِ الإصباحِ: إمَّا لأنَّ الاستعمالَ العربيَّ يَعتبِرون فيه اللَّياليَ مَبدأَ عَددِ الأيَّامِ كثيرًا، قال تعالى: سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ [سبأ: 18] ، وإمَّا لأنَّ الكلامَ لَمَّا وقَعَ عقِبَ ذِكرِ الحشرِ مِن قولِه: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم: 11] ، وذِكْرِ قِيامِ السَّاعةِ؛ ناسَبَ أنْ يكونَ الإمساءُ -وهو آخِرُ اليومِ- خاطِرًا في الذِّهنِ، فقدَّمَ لهم ذِكْرَه [233] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/66). .
2- قَولُه تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ
- قولُه: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جُملةٌ مُعترِضةٌ بيْنَ الظُّروفِ تُفِيدُ أنَّ تَسْبيحَ المؤمنينَ للهِ ليس لِمَنفعةِ اللهِ تعالى، بلْ لِمَنفعةِ المُسبِّحينَ؛ لأنَّ اللهَ مَحمودٌ في السَّمواتِ والأرضِ؛ فهو غَنِيٌّ عن حمْدِنا [234] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/66). . وقِيل: اعتِراضٌ، معناه: إنَّ على المُميِّزينَ كلِّهم مِن أهلِ السَّمواتِ والأرضِ أنْ يَحمَدوه [235] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/472)، ((تفسير أبي حيان)) (8/381). .
- وتَقْديمُ المَجْرورِ في وَلَهُ الْحَمْدُ؛ لإفادةِ القصْرِ الادِّعائيِّ [236] القَصرُ أو الحَصرُ -في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ: هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه، مثل: إنَّما زيدٌ قائمٌ، و: ما ضربتُ إلَّا زيدًا. وينقسمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثل: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على الموصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحَقيقيُّ فيه مَبْنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ، بتنزيلِ غَيرِ المذكورِ مَنزلةَ العدَمِ، وقصْرُ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175، 176)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). لجِنْسِ الحمْدِ على اللهِ تعالى؛ لأنَّ حمْدَه هو الحمْدُ الكاملُ، على نحوِ قولِهم: فلانٌ الشُّجاعُ. ويجوزُ أنْ يكونَ التَّقديمُ للاهتمامِ بضَميرِ الجَلالةِ [237] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/66، 67). .
- قولُه: وَعَشِيًّا عطْفٌ على حِينَ تُمْسُونَ، وتقْديمُه على وَحِينَ تُصْبِحُونَ؛ لمُراعاةِ الفواصلِ. وتغْييرُ الأُسلوبِ؛ لِمَا أنَّ (العَشيَّ) لا يَجِيءُ منه الفِعلُ بمعنَى الدُّخولِ في العَشِيِّ، كالمساءِ -والفعلُ منه (أمسَى)-، والصَّباحِ -والفعلُ منه (أصبَح)-، والظَّهيرةِ -والفعلُ منه (أظهَر)-، ولعلَّ السِّرَّ في ذلك: أنَّه ليس مِن الأوقاتِ الَّتي تَختلِفُ فيها أحوالُ النَّاسِ وتتغيَّرُ تغيُّرًا ظاهرًا مُصحِّحًا لِوَصفِهم بالخروجِ عمَّا قبْلَها والدُّخولِ فيها كالأوقاتِ المذكورةِ؛ فإنَّ كلًّا منها وقتٌ تَتغيَّرُ فيه الأحوالُ تغيُّرًا ظاهرًا؛ أمَّا في المساءِ والصَّباحِ فظاهرٌ، وأمَّا في الظَّهيرةِ فلأنَّها وقتٌ يُعتادُ فيه التَّجرُّدُ عن الثِّيابِ للقَيلولةِ [238] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/381)، ((تفسير أبي السعود)) (7/55). .
3- قَولُه تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ هذا نوعُ تَفصيلٍ لقولِه تعالى: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [239] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/55). .
- وجُملةُ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ بدَلٌ مِن جُملةِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم: 11] . ويجوزُ أيضًا أنْ تكونَ مَوقِعَ العلَّةِ لجُملةِ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ [الروم: 17] وما عُطِفَ عليها، أي: هو مُستحِقٌّ للتَّسبيحِ والحمْدِ؛ لِتَصرُّفِه في المخلوقاتِ بالإيجادِ العَجيبِ، وبالإحياءِ بعْدَ الموتِ. واختِيرَ مِن تَصرُّفاتِه العظيمةِ تَصرُّفُ الإحياءِ والإماتةِ في الحيوانِ والنَّباتِ؛ لأنَّه تَخلُّصٌ للغرَضِ المقصودِ مِن إثباتِ البعثِ، ردًّا للكلامِ على ما تقدَّمَ مِن قولِه: اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الروم: 11] ؛ فتحصَّلَ مِن ذلك أنَّ الأمْرَ بتَسبيحِه وحمْدِه مَعلولٌ بأمْرَينِ: إيفاءِ حقِّ شُكرِه، المُفادِ بفاءِ التَّفريعِ في قولِه: فَسُبْحَانَ اللَّهِ [الروم: 17] ، وإيفاءِ حقِّ التَّعظيمِ والإجلالِ، والمقصودُ هو إخراجُ الحيِّ مِن الميِّتِ [240] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/67). .
- وعطْفُ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ؛ للاحتِراسِ مِن اقتصارِ قُدرتِه على بعضِ التَّصرُّفاتِ، ولإظهارِ عَجِيبِ قُدرتِه أنَّها تَفعَلُ الضِّدَّينِ [241] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/67). .
- والإتيانُ بصِيغةِ المُضارِعِ في يُخْرِجُ؛ لاستِحضارِ الحالةِ العَجيبةِ؛ فهذا الإخراجُ والإحياءُ آيةٌ عظيمةٌ على استِحقاقِه التَّعظيمَ والإفرادَ بالعِبادةِ؛ إذ أودَعَ هذا النِّظامَ العجيبَ في المَوجوداتِ، فجعَلَ في الشَّيءِ الَّذي لا حَياةَ له قوَّةً وخصائصَ تجْعَلُه يُنتِجُ الأشياءَ الحيَّةَ الثَّابتةَ المُتصرِّفةَ، ويَجعَلُ في تُرابِ الأرضِ قُوًى تُخرِجُ الزَّرعَ والنَّباتَ حيًّا ناميًا [242] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/68). .
- والتَّشبيهُ في قولِه: وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ راجعٌ إلى ما يَصلُحُ له مِن المَذكورِ قبْلَه؛ وهو ما فيه إنشاءُ حياةِ شَيءٍ بعْدَ مَوتِه؛ بِناءً على أنَّ قولَه: وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ليس مَقصودًا مِنَ الاستِدلالِ، ولكنَّه احتراسٌ وتَكمِلةٌ. ويجوزُ أنْ يكونَ التَّشبيهُ راجِعًا إلى أقرَبِ مَذكورٍ، وهو إحياءُ الأرضِ بعْدَ مَوتِها، أي: وكإخراجِ النَّباتِ مِن الأرضِ بعْدَ مَوتِه فيها يكونُ إخراجُكم مِن الأرضِ بعْدَ أنْ كنتُم أمْواتًا فيها، كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا [نوح: 17، 18]. ولا وَجْهَ لاقتِصارِ التَّشبيهِ على الثَّاني دونَ الأوَّلِ [243] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/68، 69). .
4- قَولُه تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ
- قولُه: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ لَمَّا كان الاستِدلالُ على البَعثِ مُتضمِّنًا آياتٍ على تَفرُّدِه تعالى بالتَّصرُّفِ، ودَلالتِه على الوَحدانيَّةِ؛ انتقَلَ مِن ذلك الاستِدلالِ إلى آياتٍ على ذلك التَّصرُّفِ العظيمِ، غيرَ ما فيه إثباتُ البَعثِ؛ تَثْبيتًا للمؤمنينَ، وإعذارًا لمَن أشْرَكوا في الإلهيَّةِ، وقد سبَقَت سِتُّ آياتٍ على الوَحدانيَّةِ، وابتُدِئَت بكَلمةِ وَمِنْ آَيَاتِهِ؛ تنْبيهًا على اتِّحادِ غرَضِها؛ فهذه هي الآيةُ الأُولى، ولها شَبَهٌ بالاستِدلالِ على البَعثِ؛ لأنَّ خلْقَ النَّاسِ مِن تُرابٍ وبثَّ الحياةِ والانتشارَ فيهم، هو ضَربٌ مِن ضُروبِ إخراجِ الحيِّ مِن الميِّتِ؛ فلذلك كانت هي الأُولى في الذِّكرِ؛ لِمُناسَبتِها لِمَا قبْلَها، فجُعِلتْ تخلُّصًا مِن دَلائلِ البَعثِ إلى دَلائلِ عظيمِ القُدرةِ [244] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/69). .
- وفي قولِه: ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ لَمَّا كان تَمامُ البشريَّةِ يَنشَأُ عن تطوُّرِ التُّرابِ إلى نَباتٍ، ثمَّ إلى نُطفةٍ، ثمَّ إلى أطْوارِ التَّخلُّقِ في أزْمنةٍ مُتتاليةٍ؛ عُطِفَت الجُملةُ بحرْفِ المُهلَةِ (ثُمَّ) الدَّالِّ على تَراخي الزَّمنِ، مع تَراخي الرُّتبةِ الَّذي هو الأصْلُ في عطْفِ الجُمَلِ بحرْفِ (ثم) [245] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/70). .
- قولُه: ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ صُدِّرَت الجُملةُ بحرْفِ المُفاجأةِ (إذا)؛ لأنَّ الكَونَ بشَرًا يَظهَرُ للنَّاسِ فجْأةً بوضْعِ الأجِنَّةِ، أو خُروجِ الفِراخِ مِن البَيضِ، وما بيْنَ ذلك مِن الأطوارِ التي اقْتَضاها حرْفُ المُهلَةِ هي أطوارٌ خَفِيَّةٌ غيرُ مُشاهَدةٍ؛ فكان الجمْعُ بيْن حرْفِ المُهلَةِ وحرْفِ المُفاجأةِ تَنبيهًا على ذلك التَّطوُّرِ العجيبِ. وحصَلَ مِن المُقارَنةِ بيْن حرْفِ المُهلةِ وحرْفِ المُفاجأةِ شِبْهُ الطِّباقِ، وإنْ كان مَرجِعُ كلٍّ مِن الحرفينِ غيرَ مَرجِعِ الآخَرِ [246] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/70). .
5- قَولُه تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
- قولُه: وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا أُدمِجَ في الاعتِبارِ بهذه الآيةِ امتِنانٌ بنِعمةٍ في هذه الآيةِ أشارَ إليها قولُه: لَكُمْ، أي: لأجْلِ نَفْعِكم [247] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/71). .
- قولُه: لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ضَمَّنَ السُّكونَ معنى المَيلِ، فعَدَّاه بـ «إلى»؛ إِذْ لم يقُلْ: «لِتسكُنوا منها» ولا «عِندَها»، ولكِنْ لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا؛ ولهذا كان الرَّجُلُ مَيَّالًا بطَبعِه إلى المرأةِ وساكِنًا إليها، ولا سيَّما إذا وُفِّقَ لامرأةٍ تكونُ ملائِمةً له؛ فإنَّ هذا يبدو ظاهِرًا جدًّا مِن التَّعليلِ [248] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 109). .
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تَذْييلٌ مُقرِّرٌ لِمَضمونِ ما قبْلَه، مع التَّنبيهِ على أنَّ ما ذُكِرَ ليس بآيةٍ فذَّةٍ، كما يُنبِئُ عنه قولُه تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ، بلْ هي مُشتمِلةٌ على آياتٍ شَتَّى [249] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/56). . وإنَّما جُعِلَ في ذلك آياتٌ كثيرةٌ باعتبارِ اشْتمالِ ذلك الخلْقِ على دَقائقَ كثيرةٍ، مُتولِّدٌ بعضُها عن بعضٍ، يُظهِرُها التَّأمُّلُ والتَّدبُّرُ، بحيث يَتجمَّعُ منها آياتٌ كثيرةٌ [250] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/72). .
- وما في اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ مِن مَعنى البُعدِ، مع قُربِ العهْدِ بالمُشارِ إليه؛ للإشعارِ ببُعدِ مَنزلتِه [251] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/56). .
- وجُعِلَت الآياتُ لقومٍ يَتفكَّرون؛ لأنَّ التَّفكُّرَ والنَّظرَ في تِلك الدَّلائلِ هو الذي يُجْلِي كُنْهَها، ويَزِيدُ النَّاظرَ بَصارةً بمَنافِعَ أُخرى في ضِمْنِها؛ فالقصْدُ في خلْقِ الأزواجِ السُّكونُ إليها، وإلْقاءُ المَحبَّةِ بيْنَ الزَّوجينِ، ليس لمُجرَّدِ قَضاءِ الشَّهوةِ الَّتي يَشترِكُ فيها البهائمُ، بلْ لِتَكثيرِ النَّسلِ، وبقاءِ نَوعِ المُتفكِّرينَ الَّذين يُؤدِّيهم الفِكرُ إلى المعرفةِ والعِبادةِ الَّتي ما خُلِقَت السَّمواتُ والأرضُ إلَّا لها؛ فناسَبَ ذلك التَّفكُّرُ [252] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/240، 241)، ((تفسير أبي حيان)) (8/384)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 442)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/71). .
6- قَولُه تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ
لَمَّا كان أشرَفُ ما على الأرضِ نَوعَ الإنسانِ، قرَنَ ما في بعضِ أحوالِه مِن الآياتِ بما في خلْقِ الأرضِ مِن الآياتِ، وخُصَّ مِن أحوالِه المُتخالِفةُ؛ لأنَّها أشدُّ عِبرةً؛ إذ كان فيها اختلافٌ بيْن أشياءَ مُتَّحِدةٍ في الماهيَّةِ، ولأنَّ هاتِه الأحوالَ المُختلِفةَ لهذا النَّوعِ الواحدِ نجِدُ أسبابَ اختلافِها مِن آثارِ خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ؛ فاختلافُ الألْسنةِ مِن أسبابِه القرارُ بأوطانٍ مُختلِفةٍ مُتباعِدةٍ، واختلافُ الألوانِ مِن أسبابِه اختلافُ الجِهاتِ المَسْكونةِ مِن الأرضِ، واختلافُ مُسامَتةِ أشعَّةِ الشَّمسِ لها؛ فهي مِن آثارِ خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ. ولذلك فالظَّاهرُ أنَّ المَقصودَ هو آيةُ اختلافِ اللُّغاتِ والألوانِ، وأنَّ ما تَقدَّمَه مِن خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ تَمْهيدٌ له، وإيماءٌ إلى انطواءِ أسبابِ الاختلافِ في أسرارِ خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ. وقد كانتْ هذه الآيةُ مُتعلِّقةً بأحوالٍ عرَضيَّةٍ في الإنسانِ مُلازِمةً له، فبتلك المُلازَمةِ أشْبَهَتِ الأحوالَ الذَّاتيَّةَ المُطلَقةَ، ثمَّ النِّسبيَّةَ؛ فلذلك ذُكِرَت هذه الآيةُ عقِبَ الآيتَينِ السَّابقتَينِ حسَبَ التَّرتيبِ السَّابقِ [253] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/73). .
- قولُه: وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إنَّما نُظِمَ هذا في سِلْكِ الآياتِ الآفاقيَّةِ مِن خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، مع كَونِه مِن الآياتِ الأنفُسيَّةِ الحَقيقةِ بالانتظامِ في سِلْكِ ما سبَقَ مِن خَلْقِ أنفُسِهم وأزواجِهم؛ للإيذانِ باستِقلالِه، والاحترازِ عن تَوهُّمِ كَونِه مِن تَتمَّاتِ خلْقِهم [254] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/56). .
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ جُعِلَ في ذلك آياتٌ باعتِبارِ اشْتمالِ ذلك الخلْقِ على دَقائقَ كثيرةٍ، مُتولِّدٌ بعضُها عن بعضٍ [255] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/75). .
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ جُعِلتِ الآيات للعالِمين -على قِراءةِ كسْرِ اللَّامِ-؛ لكونِ المُنتفِعِ بها إنَّما همْ أهْلُ العِلْمِ، كقولِه: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43]. وعلى قِراءةِ لِلْعَالَمِينَ -بفَتحِ اللَّامِ-؛ جُعِلتْ لهم لأنَّها آيةٌ مَكشوفةٌ للعالَمِ، ويُمكِنُهم الشُّعورُ بآياتِه بمُجرَّدِ الْتفاتِ الذِّهنِ دونَ إمعانِ نظَرٍ، وفيه دَلالةٌ على كَمالِ وُضوحِ الآياتِ، وعدَمِ خَفائِها على أَحدٍ مِن الخلْقِ كافَّةً [256] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/240، 241)، ((تفسير أبي حيان)) (8/384)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 442، 443)، ((تفسير أبي السعود)) (7/57)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/75). .
7- قَولُه تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
- قولُه: وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ... هذا مِن بابِ اللَّفِّ [257] اللَّف والنَّشْر: هو ذِكرُ شيئين أو أشياءَ، إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ، أو إجمالًا -بأن يُؤتَى بلفظٍ يشتملُ على متعدِّدٍ- ثم يذكرُ أشياءَ على عدَدِ ذلك، كلُّ واحدٍ يرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفوَّضُ إلى عقلِ السَّامعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُّ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الَّذي يُؤتَى به أوَّلًا. والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحقِ الَّذي يتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دونَ تعيينٍ. مثل قوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يدخلَ الجنَّةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يدخُلَ الجنةَ إلَّا النَّصارى، وهذا لفٌّ ونَشْر إجمالي. واللَّفُّ المُفصَّلُ يأتي النَّشرُ اللَّاحقُ له على وجهين؛ الوجه الأوَّل: أنْ يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّف، ويُسَمَّى «اللَّفَّ والنَّشرَ المرتَّبَ». الوجه الثاني: أنْ يأتيَ النَّشرُ على غيرِ تَرتيبِ اللَّفِّ، ويُسمَّى «اللَّفَّ والنَّشرَ غيرَ المُرتَّبِ»، وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّف والنَّشر المُشَوَّش»، أو «المعكوس». يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/403). ، وتَرتيبُه: ومِن آياتِه مَنامُكم وابتغاؤُكم مِن فضْلِه باللَّيلِ والنَّهارِ، فلَفَّ وضَمَّ بيْن الزَّمانينِ والفِعلينِ بعاطفينِ -وهما الواوانِ-؛ إشعارًا بأنَّ كلًّا مِن الزَّمانينِ وإنِ اختَصَّ بأحدِهما فهو صالحٌ للآخَرِ عندَ الحاجةِ، ويُؤيِّدُه سائرُ الآياتِ الواردةِ فيه، خَلَا أنَّه فصَلَ بينَ القرينَينِ الأوَّلَينِ بالقَرِينينِ الأخِيرَينِ؛ لأنَّهما زمانٌ، والزَّمانُ مع ما وقَعَ فيه كشَيءٍ واحدٍ مع إعادةِ اللَّفِّ على الاتِّحادِ. ويجوزُ أنْ يُرادَ: مَنامُكم في الزَّمانينِ، وابتِغاؤكم فِيهما؛ فعلى هذا لا يكونُ مِن بابِ اللَّفِّ، بلْ مِن المُقابَلةِ؛ فحُذِفَ في إحْدى المُتقابلينِ ما يُقابِلُ الآخَرَ؛ لدَلالةِ التَّقابُلِ [258] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/473)، ((تفسير البيضاوي)) (4/205)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/227)، ((تفسير أبي حيان)) (8/382، 383)، ((تفسير أبي السعود)) (7/57)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/492، 493). قال ابن عاشور: (وقد تكَلَّف صاحبُ الكشَّافِ فجَعَل الكلامَ مِن قبيلِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ على أنَّ اللَّفَّ وَقَع فيه تفريقٌ، ووَجَّهَه مُحَشِّيه القزوينِيُّ بأنَّ التَّقديمَ للاهتمامِ بآيَةِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ). ((تفسير ابن عاشور)) (21/76). .
- قولُه: وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ الابتِغاءُ مِن فضْلِ اللهِ: طلَبُ الرِّزقِ بالعمَلِ؛ لأنَّ فضْلَ اللهِ الرِّزقُ، وجُعِلَ هذا كِنايةً عن الهُبوبِ إلى العمَلِ؛ لأنَّ الابتغاءَ يَستلزِمُ الهُبوبَ مِن النَّومِ، وذلك آيةٌ أُخرى؛ لأنَّه نَشاطُ القوَّةِ بعْدَ أنْ خارَتَ وفشِلَتْ. ولِكَونِ ابتِغاءِ الرِّزقِ مِن خَصائصِ النَّهارِ، أُطلِقَ هنا، فلم يُقيَّدْ باللَّيلِ والنَّهارِ. ولك أنْ تَجعَلَ عدَمَ تَقْييدِه بمِثْلِ ما قُيِّدَ به مَنامُكم؛ للاستغناءِ بدَلالةِ القَيدِ الَّذي قبْلَه، بتَقديرِ: وابْتغاؤُكم مِن فضْلِه فيهما [259] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/76). .
- وقدَّمَ المنامَ باللَّيلِ على الابتِغاءِ بالنَّهارِ في الذِّكرِ؛ لأنَّ الاستراحةَ مَطلوبةٌ لِذاتِها، والطَّلَبَ لا يكونُ إلَّا لحاجةٍ، فلا يبتغي إلَّا محتاجٌ في الحالِ، أو خائِفٌ مِن المآلِ [260] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/93). . أو باعتبارِ أنَّ اللَّيلَ سابقٌ للنَّهارِ.
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وجْهُ جَعلِ ذلك آياتٍ؛ لِمَا يَنْطوي عليه مِن تَعدُّدِ الدَّلالاتِ بتَعدُّدِ المُستدِلِّينَ، وتَولُّدِ دَقائقِ تلك الآيةِ بعضِها عن بعضٍ [261] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/77). .
- وأُجْرِيَت صِفةُ يَسْمَعُونَ على (قَوم)؛ للإيماءِ إلى أنَّ السَّمعَ مُتمكِّنٌ منهم، حتَّى كأنَّه مِن مُقَوِّماتِ قَوميَّتِهم [262] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/77). .
- وأيضًا في قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ جُعِلَت دَلالاتُ المَنامِ والابتِغاءِ مِن فضْلِ اللهِ لِقَومٍ يسْمَعون؛ لِوَجهينِ: أحدِهما: أنَّ هذينِ حالتانِ مُتعاوِرتانِ على النَّاسِ قد اعْتادُوهما، فقَلَّ مَن يَتدبَّرُ في دَلالتِهما على دَقيقِ صُنْعِ اللهِ تعالى ممَّا يَشعُرُ به صاحبُ النَّومِ مِن أحوالِ نَومِه؛ لأنَّ النَّائمَ لا يَعرِفُ مِن نَومِه إلَّا الاستعدادَ له، وإلَّا أنَّه حِين يَهُبُّ مِن نَومِه يَعلَمُ أنَّه كان نائمًا، فأمَّا حالةُ النَّائمِ في حينِ نَومِه، ومِقدارُ تَنبُّهِه لمَن يُوقِظُه، وشُعورُه بالأصواتِ الَّتي تقَعُ بقُرْبِه، والأضواءِ الَّتي تَنتشِرُ على بصَرِه، فتُنبِّهُه أو لا تُنبِّهُه؛ كلٌّ ذلك لا يَتلقَّاه النَّائمُ إلَّا بطَريقِ الخبَرِ مِن الَّذين يَكونون أيْقاظًا في وقْتِ نَومِه، فطَريقُ العِلْمِ بتَفاصيلِ أحوالِ النَّائمينَ واختلافِها السَّمعُ، وقد يُشاهِدُ المرْءُ حالَ نَومِ غيرِه، إلَّا أنَّ عِبرتَه بنَومِه الخاصِّ به أشَدُّ؛ فطَريقُ السَّمعِ هو أعمُّ الطُّرقِ لِمَعرفةِ تَفاصيلِ أحوالِ النَّومِ؛ فلذلك قِيل: لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وأيضًا لأنَّ النَّومَ يَحولُ دونَ الشُّعورِ بالمَسموعاتِ بادِئَ ذي بَدْءٍ قبْلَ أنْ يَحولَ دونَ الشُّعورِ بالمُبصَراتِ [263] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/76، 77). .
- وقيل: إنَّما قال: لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ؛ لأنَّه لَمَّا كان مِن أفعالِ العِبادةِ قد يُتوهَّمُ أنَّه لا يَحتاجُ إلى مُرشِدٍ، فنُبِّه على السَّماعِ، وجُعِلَ البالُ مِن كلامِ المُرشِدِ [264] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/385). . وقيل: ختَمَها بقولِه: لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ؛ لأنَّ مَن يَسمَعُ سَماعَ تدبُّرٍ أنَّ النَّومَ مِن صُنعِ اللهِ الحكيمِ، لا يُقدَرُ على اجتِلابِه إذا امْتنَعَ، ولا على رفْعِه إذا ورَدَ؛ يَعلَمُ أنَّ له صانعًا مُدبِّرًا [265] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 443). .
- وقيل: خُصَّ قولُه: مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ باللَّيلِ وَابْتِغَاؤُكُمْ بالنَّهارِ بالسَّمعِ؛ لأنَّ أكثَرَ النَّاسِ مُنسَدِحون [266] السَّدْحُ: الإِضْجاعُ، والصَّرْعُ على الوَجْهِ، والإِلْقاءُ على الظَّهْرِ، والمنسدحُ: المُسْتَلْقي على ظهرِه، المُفَرِّجُ بينَ رِجْلَيْه. يُنظر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 223)، ((تاج العروس)) للزبيدي (6/461). باللَّيلِ كالأمواتِ، ومُتردِّدون كالبهائمِ بالنَّهارِ، لا يَدْرون فِيمَ همْ؟ ولِمَ ذلك؟ لكنْ مَن ألْقى السَّمعَ وهو شهيدٌ يَتنبَّهُ لِواعظِ اللهِ ويُصْغي إليه؛ لأنَّ مرَّ اللَّيالي وكرَّ النَّهارِ يُناديانِ بلِسانِ الحالِ: (الرَّحيلَ الرَّحيلَ مِن دارِ الغُرورِ إلى دارِ القرارِ)، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [267] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/240، 241). [الفرقان: 62] .