موسوعة التفسير

سُورةُ المائِدَةِ
الآية (3)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ

غريب الكلمات:

أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ: أي: رُفِع فيه الصَّوتُ بتسميَةِ غيرِ الله، أو ما ذُبِحَ لغيرِ الله، وأصْل (هلل): يَدلُّ على رفْعِ صوتٍ، ومنه قولهم: أهلَّ بالحجِّ: رفَع صوتَه بالتَّلبيَةِ [82] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 69)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/11)، ((المفردات)) للراغب (ص: 843)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 26)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 100)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 211). .
الْمُنْخَنِقَةُ: التي تموتُ خنقًا، وهو حبسُ النَّفَس، سواءٌ فعَل بها ذلك آدميٌّ، أو اتَّفق لها ذلك في حَجَرٍ أو شجرةٍ أو بحبلٍ أو نحوه، وأصل (خنق): يدلُّ على ضِيق [83] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 140)، ((تفسير ابن جرير)) (8/56)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/224)، ((المفردات)) للراغب (ص: 300)، ((تفسير ابن عطية)) (2/150). .
الْمَوْقُوذَةُ: المقتولةُ بالضَّربِ، والوَقْذ: الإيلامُ بالضَّرْب، وأصْل (وقذ): يدلُّ على ضربٍ بخَشَب [84] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 140)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/132)، = = ((المفردات)) للراغب (ص: 879)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 78)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 147)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 877). .
الْمُتَرَدِّيَةُ: الواقعةُ من جَبَلٍ أو حائطٍ، أو في بِئر؛ يُقال: تردَّى: إذا سقَط، وأصله يدلُّ على رمْيٍ أو ترامٍ، وما أشبهَ ذلك [85] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 140)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/506)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 78)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 147)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 877). .
النَّطِيحَةُ: المنطوحةُ التي نطحتْها شاةٌ أو بقرةٌ فماتتْ [86] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 140)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/442)، ((المفردات)) للراغب (ص: 811)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 78)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 147) ، ((الكليات)) للكفوي (ص: 877). .
ذَكَّيْتُمْ: ذبَحتُم، فقطعْتُم أوداجَه، وأنهَرْتم دمَه، وذكرتُم اسمَ الله تعالى إذا ذبَحْتُموه، وأصلُ الذَّكاة: تمامُ الشَّيْء [87] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 140)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 228)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 78)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 147)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 464). .
النُّصُبِ: الحَجَر، أو الصَّنَم الذي يَذبحونَ عنده، أو يُنصَب للعبادةِ، وجمْعُه أنصابٌ، وقيل: النُّصُب جمعٌ مفردُه نَصِيبٌ، وأصلُ (نصب): يدلُّ على إقامةِ شيءٍ، وإهدافٍ في استواءٍ [88] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 140) و(ص: 486)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/434)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 78)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 147). .
تَسْتَقْسِمُوا: تطلُبوا عِلمَ ما قُسِمَ لكم، والاستقسامُ بها: أن يُضربَ بها، ثم يُعمَلَ بما يَخْرُجُ فيها من أمْرٍ أو نهيٍ، وأُخِذ الاستقسامُ من القَسْم، وهو النَّصيبُ، كأنَّه طَلَبُ النَّصيبِ [89] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 141)، ((المفردات)) للراغب (ص: 670)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 79). .
بِالْأَزْلَامِ: جمْعُ زَلَم وزُلَم، وهي القِداحُ التي كانوا يَضربونَ بها على المَيسرِ ويَستَقْسِمون بها، أو هي سِهامُ العربِ، وأصل (زلم): يدلُّ على نحافةٍ ودِقَّةٍ في مَلاسةٍ [90] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 141)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 55)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/18)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 79)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 148)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 82). .
فِسْقٌ: خروجٌ عن حدودِ الشَّرع؛ من قولهم: فَسَق الرُّطَب، إذا خرَج عن قِشْرِه، والفُسُوق: الخروجُ من الطاعة إلى المعصِيَة، والخروجُ من الإيمانِ إلى الكُفرِ [91] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 368)، ((المفردات)) للراغب (ص: 636، 819)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 117)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 693). .
فَلَا تَخْشَوْهُمْ: فلا تَخافوهم، والخَشْيةُ: أكثرُ ما تكونُ عن عِلمٍ بما يُخشَى منه، وقيل: هي خوفٌ يشوبُه تعظيمٌ، وأصل خَشِيَ: فواتٌ بالكليَّةِ يدلُّ على خوفٍ وذُعْرٍ [92] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/184)، ((المفردات)) للراغب (ص: 283)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/508)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 82)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 428). .
مَخْمَصَةٍ: أي: مجاعةٍ؛ مُشتقَّةٌ من خَمْصِ البَطن، أي: ضُمورِه، وأصلُ (خمص): يدلُّ على الضُّمْرِ والتَّطامُنِ [93] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 414)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/219)، ((المفردات)) للراغب (ص: 299)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 149)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 148)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 877). .
مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ: مُنحرِفٍ، مائلٍ إلى ذلك متعمِّدًا، بأنْ يأكُلَ بعدَ زوالِ الضَّرورة، أو يأكُلَ فوقَ الشِّبَع، وأصلُ الجنف: الميلُ ميلًا ظاهِرًا، والعدولُ عن الحقِّ [94] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 141)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 436)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1 /486)، ((المفردات)) للراغب (1 /207)، ((تذكرة = = الأريب)) لابن الجوزي (ص: 79)، ((التبيان)) لابن الهائم (1 /102، 148). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّن اللهُ تعالى لعبادِه المؤمنين أنَّه حرَّم عليهم أكْلَ ما مات من الحيوانِ دون ذَكاةٍ ولا اصطيادٍ، وحرَّم عليهم أكْلَ الدَّمِ المسفوحِ، ولحمِ الخنزيرِ، وأكْلَ ما ذُكِرَ عليه غيرُ اسمِ الله عند ذَبْحه، ثم ذَكَر سبحانه أنواعًا أُخرى مِن المحرَّمات: وهي ما يموت بالاختناقِ من البَهائم، وما ضُرِبَ بشيءٍ ثقيلٍ غيرِ محدَّدٍ حتى مات، والبهيمةُ التي تتردَّى من مكانٍ عالٍ فتموت نتيجةَ سقوطِها، والتي ماتتْ بسبب نطْحِ غيرِها لها، والتي عدَا عليها سَبُعٌ- كأسدٍ أو ذئبٍ وغيرهما- فماتتْ بذلك، إلَّا ما أمكَنَ تدارُكُه بالذَّكاةِ مِن هذه الأنواعِ، وكانت فيه حياةٌ، فإنَّه يجوز أكْلُه، كما حَرَّم عليهم سبحانه وتعالى ما ذُبِحَ عند الأوثان تقرُّبًا لها، وحرَّم عليهم أن يَطلُبوا عِلمَ ما قُسِمَ لهم، باستخدامِ الأقداحِ؛ كما يَفعل أهلُ الجاهليَّة، فإنَّ كلَّ ما سبق ممَّا حرَّمه الله خروجٌ عن طاعة الله إلى معصيته، ثم أخبَرَ تعالى أنَّ الكفَّار انقطعَ طمعُهم من أن يرتدَّ المؤمنونَ عن دِينهم يوم عرفةَ في حجَّةِ الوداعِ؛ يومَ نَزَلَت هذه الآيةُ؛ فلا يَنبغي للمسلمينَ أن يخافوهم، بل عليهم أن يخافوا اللهَ تعالى؛ فهو في هذا اليومِ أكْمَلَ للمؤمنين دِينَهم، وأَتَمَّ عليهم نِعمتَه، ورَضِيَ لهم دِينَ الإسلام دينًا يتقرَّبون به إلى الله، فمْن ألجأتْه الضرورةُ إلى أكْل شيءٍ من المحرَّماتِ التي ذَكَرَها الله في الآية، غيرَ مُريدٍ للحرامِ، فله تناوُلُ ما يدفع حاجتَه، واللهُ غفورٌ رحيمٌ.

تفسير الآية:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا قال تعالى في أوَّل السُّورةِ: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ ثم ذكَر فيه استثناءَ أشياءَ تُتلَى عليهم في قَوْلِه: إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ- ذَكَر هنا تلك الصُّورَ المستثناةَ من ذلك العمومِ [95] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/283). ، فقال:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ.
أي: حرَّم اللهُ تعالى عليكم- أيُّها المؤمنونَ- أكْلَ المَيْتَة، وهي: ما مات مِن الحيوان حتْفَ أنفِه، من غير ذكاةٍ شرعيَّة، ولا اصطيادٍ [96] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/53-54)، ((تفسير ابن كثير)) (2/14)، ((تفسير السعدي)) (ص: 219-220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/35). ويُستثنى من الميتات الجراد والسمك. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/14). .
وَالدَّمُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ الدَّمِ المسفوحِ [97] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/54)، ((تفسير ابن كثير)) (2/14)، ((تفسير السعدي)) (ص: 220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/37). قال ابن جرير: (فأمَّا ما كان قد صارَ في معنى اللَّحْمِ كالكَبدِ والطِّحال، وما كان في اللَّحمِ غير مُنسفِح؛ فإنَّ ذلك غيرُ حرامٍ؛ لإجماعِ الجميعِ على ذلك) ((تفسير ابن جرير)) (8/54). ، كالذي يخرُج عند الذَّكاةِ، أو يخرج عند فصْد العِرْقِ، وما أشبهَ ذلك [98] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/37). .
قال تعالى: قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام: 145] .
وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ.
أي: وحرَّم عليكم أكْلَ الخِنزيرِ؛ إنسيِّه ووحشيِّه، وظاهرِه وباطنِه؛ فجميعُ أجزائِه مُحرَّمٌ أَكْلُها [99] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/54)، ((تفسير ابن كثير)) (2/16)، ((تفسير السعدي)) (ص: 220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/37). .
وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ ما ذُبِحَ فذُكر عليه غيرُ اسم ِالله عزَّ وجلَّ [100] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/54-55)، ((تفسير ابن كثير)) (2/17)، ((تفسير السعدي)) (ص: 220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/37-38). .
وَالْمُنْخَنِقَةُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ ما يموتُ بالخَنقِ، سواءٌ بنفسها؛ كإدخالِها رأسَها في شيءٍ ضيِّقٍ، فتعجِز عن إخراجِه حتى تموتَ، أو بخنْقِ غيرِها لها [101] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/17)، ((تفسير السعدي)) (ص: 220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/38). قال ابنُ عطية: (قوله تعالى: وَالْمُنْخَنِقَةُ معناه التي تموتُ خَنقًا، وهو حَبسُ النَّفَس، سواءٌ فَعَل بها ذلِك آدميٌّ، أو اتَّفق لها ذلك في حجرٍ أو شجرةٍ، أو بحبلٍ أو نحوِه، وهذا إجماعٌ) ((تفسير ابن عطية)) (2/150). .
وَالْمَوْقُوذَةُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ الموقوذةِ، وهي التي تُضرَب بشَيءٍ ثقيلٍ غير محدَّدٍ حتى تموتَ، كالتي تُضرَب بعصًا، أو حصًى، أو خَشبةٍ [102] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/18)، ((تفسير السعدي)) (ص: 220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/38). .
عن عَديِّ بن حاتمٍ الطائيِّ رضي الله عنه، قال: ((قلتُ: يا رسولَ اللهِ، إني أُرسِلُ الكِلابَ المُعلَّمةَ، فيُمْسِكْنَ عليَّ، وأذكرُ اسمَ اللهِ عليه؟ فقال: إذا أرسلتَ كلبَك المُعلَّمَ، وذكَرْتَ اسمَ اللهِ عليه، فكُلْ، قلتُ: وإنْ قتلْنَ؟ قال: وإنْ قتلْنَ! ما لم يَشرَكْها كلبٌ ليس معها، قلتُ له: فإنِّي أَرْمي بالمِعراضِ [103] المِعْراض- بكسر الميم-: سهمٌ بلا رِيش ولا نَصْل، وإنَّما يُصيب بعَرضِه دون حَدِّه. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/215). الصَّيدَ، فأصيبُ؟ فقال: إذا رَميتَ بالمعراضِ فخَرَق، فكُلْهُ، وإنْ أصابَه بعَرْضِه، فلا تأكُلْه )) [104] رواه مسلم (1929). قال ابنُ كثير: (ففرَّق بين ما أصابه بالسَّهم، أو بالْمِزْراق [الرمح الصَّغير] ونحوِه بحَدِّه فأحلَّه، وما أصابَه بعُرْضِه فجعله وقيذًا فلم يُحلَّه، وقد أجمعَ الفقهاءُ على هذا الحُكم هاهنا) ((تفسير ابن كثير)) (3/18). .
وَالْمُتَرَدِّيَةُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ المتردِّيَة، وهي التي تَسقُط من موضعٍ عالٍ فتموتُ بذلك [105] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/21)، ((تفسير السعدي)) (ص: 220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/38). .
وَالنَّطِيحَةُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ المنطوحةِ، وهي التي ماتتْ بسبب نَطْحِ غيرِها لها [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/59-60)، ((تفسير ابن كثير)) (2/22)، ((تفسير السعدي)) (ص: 220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/38-39). .
وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكْلَ التي عَدَا عليها سَبُعٌ، كالأسدِ أو الفهد أو النَّمِر وغيرها، فأكَلَ بعضَها فماتتْ بذلك [107] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/22)، ((تفسير السعدي)) (ص: 220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/39). .
إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ.
أي: إنَ أمكنَ تَداركُ المُنخَنِقةِ والموقوذةِ والمتردِّيةِ والنَّطيحةِ وما أكَلَ السَّبعُ- إنْ أمكن تَداركُها بذَكاةٍ شرعيَّة، وفيها حياةٌ مستقرَّة؛ فإنَّه يحِلُّ أكلُها [108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/67-68)، ((تفسير ابن كثير)) (2/22)، ((تفسير السعدي)) (ص: 220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/39-40). وأَدْخَل ابنُ جرير فيها: ما أُهلَّ لغير الله تعالى به. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/67-68). .
وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.
أي: وحرَّم عليكم أيضًا أكلَ ما ذُبِحَ عند الأوثانِ تقربًا لها [109] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/69)، ((تفسير ابن كثير)) (2/23)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/39-40). .
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ.
أي: وحرَّم عليكم- أيُّها المؤمنون- الاستقسامَ بالأزلامِ، وقد كانتِ العربُ في جاهليَّتِها يَتعاطَون ذلك، وهي عبارةٌ عن قِداحٍ ثلاثة، مكتوبٌ على أحدها: «افْعَلْ»، وعلى الآخر: «لا تفعَلْ»، والثالث ليس عليه شيءٌ. وقِيل: كان يُكتَب على الواحِدِ منها: «أَمَرني ربِّي»، وعلى الآخر: «نَهاني ربي»، والثالث ليس عليه شيء، فإذا أجالَها فطَلَع السَّهمُ الآمِرُ فَعَلَه، أو الناهي ترَكَه، وإنْ طلع الفارغُ أعاد الاستقسامَ، حتى يخرجَ أحدُ القَدَحين الآخَرَين فيعمل به [110] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/72)، ((تفسير ابن كثير)) (2/24)، ((تفسير السعدي)) (ص: 220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/41-42). قال ابنُ كثير: (قد أمَر الله المؤمنين إذا تردَّدوا في أمورهم أن يستخيروه بأنْ يَعبُدوه، ثم يسألوه الخِيرَة في الأمْر الذي يُريدونه) ((تفسير ابن كثير)) (2/25). وقال السعديُّ: (فحرَّمه الله عليهم، الذي في هذه الصورة وما يُشبهه، وعوَّضهم عنه بالاستخارة لربِّهم في جميع أمورهم) ((تفسير السعدي)) (ص: 220) .
ذَلِكُمْ فِسْقٌ.
أي: إنَّ سائرَ الأمورِ التي حرَّمها الله تعالى في هذه الآية- كأكْلِ المَيْتَة والدَّمِ ولحمِ الخنزير، والاستقسامِ بالأزلام، وغيرِ ذلك- خروجٌ عن طاعةِ الله تعالى إلى مَعصِيَته [111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/77)، ((تفسير السعدي)) (ص: 220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/42). .
الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ.
أي: الآنَ (والمرادُ باليومِ يومُ عَرفَةَ في حَجَّةِ الوداعِ) انقطَع طمَعُ الكفَّار والمشركينَ من أن ترتدُّوا عن دِينِكم- أيُّها المؤمنون [112] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/78)، ((تفسير ابن كثير)) (2/25)، ((تفسير السعدي)) (ص: 220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/42-43). .
فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ.
أي: فلا تَخافُوا من المشركين، وخافوني [113] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/79)، ((تفسير ابن كثير)) (2/25)، ((تفسير السعدي)) (ص: 220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/43). .
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
أي: اليومَ (وهو يومُ عَرفةَ في حَجَّةِ الوداعِ) أكملتُ لكم دِينَ الإسلامِ- أيُّها المؤمنونَ [114] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/82)، ((تفسير ابن كثير)) (2/26)، ((تفسير السعدي)) (ص: 220). قال ابنُ جريرٍ: (وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ أن يُقالَ: إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ أخبَرَ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمؤمنينَ به؛ أنَّه أكمَلُ لهم- يومَ أنزَلَ هذه الآيةَ على نبيِّه- دينَهم، بإفرادِهم بالبَلَدِ الحَرامِ، وإجلائِه عنه المشركينَ، حتى حجَّه المسلمونَ دونهم، لا يُخالِطُهم المشركونَ، فأمَّا الفرائِضُ والأحكامُ، فإنَّه قد اختُلِفَ فيها، هل كانت أُكمِلَت ذلك اليومَ أم لا؟ ... ولا يدفَعُ ذو عِلمٍ أنَّ الوَحيَ لم ينقطِعْ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أن قُبِضَ، بل كان الوحيُ قبل وفاتِه أكثَرَ ما كان تتابُعًا، فإذا كان ذلك كذلك، وكان قولُه: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [النساء: 176] آخِرَها نزولًا، وكان ذلك من الأحكامِ والفرائِضِ- كان معلومًا أنَّ معنى قولِه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] على خلافِ الوَجهِ الذي تأوَّلَه مَن تأوَّلَه؛ أعني: كمالَ العباداتِ والأحكامِ والفرائِضِ) ((تفسير ابن جرير)) (8/82). = = وقال ابنُ عَطيَّة: (وهذا الإكمالُ عندَ الجمهورِ، هو الإظهارُ واستيعابُ عُظْمِ الفرائض والتَّحليلِ والتَّحريم. قالوا: وقد نزَل بعدَ ذلك قرآنٌ كثيرٌ، ونزلتْ آية الرِّبا، ونزلت آيةُ الكلالة إلى غير ذلك، وإنَّما كَمَّل عُظْمَ الدِّين، وأمْرَ الحجِّ أنْ حجُّوا وليس معهم مشركٌ) ((تفسير ابن عطية)) (2/154). وقال ابنُ رجب: (إكمال الدِّين في ذلك اليومِ حَصَل من وجوه؛ منها: أنَّ المسلمين لم يكونوا حجُّوا حَجَّةَ الإسلام بعد فَرْض الحجِّ قبل ذلك، ولا أحدٌ منهم، هذا قول أكثرِ العلماء أو كثيرٍ منهم، فكمَّل بذلك دِينَهم؛ لاستكمالهم عملَ أركان الإسلام كلها. ومنها: أنَّ الله تعالى أعاد الحجَّ على قواعد إبراهيم عليه السلام، ونفَى الشركَ وأهلَه، فلم يختلطْ بالمسلمين في ذلك الموقفِ منهم أحدٌ) ((لطائف المعارف)) (ص: 279). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/103-105) .
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي.
أي: وأتممْتُ عليكم نِعمتي- أيُّها المؤمنون- بإظهارِكم على المشركينَ، ونفْيِي إيَّاهم عن بلادِكم، وقطعي طمَعَهم في عودِكم إلى الشِّركِ، وإكمالِ دِينِكم [115] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/83)، ((تفسير ابن كثير)) (2/26)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/44). قال ابنُ رجب: (وأمَّا إتمام النِّعمة فإنما حصَل بالمغفرة، فلا تتمُّ النعمة بدونها، كما قال لنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح: 2] ، وقال تعالى في آية الوضوء: وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [المائدة: 6] ، ومن هنا استنبط مُحمَّدُ بن كعبٍ القرظيُّ بأنَّ الوضوء يُكفِّر الذنوب، كما وردتِ السُّنة بذلك صريحًا، ويشهد له أيضًا أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّمَ سمع رجلًا يدعو ويقول: اللهمَّ إنِّي أسالك تمامَ النِّعمة، فقال له: «تمامُ النِّعمة: النجاة من النار، ودخولُ الجنة»، فهذه الآية تَشهَد لِمَا رُوي في يوم عرفةَ أنَّه يوم المغفرة والعِتق من النار) ((لطائف المعارف)) (279-280). .
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.
أي: واخترتُ واصطفيتُ لكم الإسلامَ دينًا، فكما ارتضيتُه لكم؛ فارْضَوْه أنتم لأنفُسِكم، وقوموا به والْزموه، ولا تتَّخذوا دِينًا سواه [116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/84-85)، ((تفسير ابن كثير)) (2/26)، ((تفسير السعدي)) (ص: 220)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/44). .
عن طارِقِ بنِ شِهابٍ، قال: (جاء رجلٌ مِن اليهودِ إِلى عُمرَ، فقال: يا أميرَ المُؤْمِنِينَ؛ آيةٌ في كِتابِكم تَقْرَؤونَها، لو علينا نَزَلتْ- مَعْشرَ اليهودِ- لَاتَّخَذْنا ذلك اليومَ عِيدًا، قال: وأيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3] ، فقال عُمرُ: إِنِّي لَأعْلَمُ اليومَ الَّذي نَزَلَتْ فيه، والمكانَ الَّذي نزلَتْ فيه، نزلَتْ على رسُولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم بعَرفاتٍ في يومِ جُمُعَةٍ) [117] أخرجه البخاري (45)، ومسلم (3017) واللفظ له. .
فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ.
أي: فمَن ألجأتْه الضرورةُ لأكْلِ شيءٍ من هذه المحرَّماتِ، التي ذَكَرها اللهُ تعالى في هذه الآيةِ [118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/91-92)، ((تفسير ابن كثير)) (2/29)، ((تفسير السعدي)) (ص: 220-221)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/44-45). .
غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ.
أي: غيرَ مُريدٍ لهذه المحرَّماتِ؛ بألَّا يأكُلَ حتى يُضطَرَّ، ولا يَزيدَ في الأكْلِ على كِفايتِه [119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/93-94)، ((تفسير ابن كثير)) (2/31)، ((تفسير السعدي)) (ص: 221)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/45). .
فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: فله تناولُ ذلك، واللهُ غفورٌ له؛ لأنَّه تعالى يعلَمُ حاجةَ عبْدِه المضطرِّ، وافتقارَه إلى ذلك؛ فيتجاوزُ عن أكْلِ ما حرَّمَه، ورحيمٌ به حيثُ أباحَ له الأكْلَ في هذه الحالِ [120] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/96)، ((تفسير ابن كثير)) (2/29)، ((تفسير السعدي)) (ص: 221)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/46). .

الفوائد التربوية:

1- عِظَم خَطر الشِّرك، وأنَّه يؤثِّرُ حتى في الذبائح؛ لقوله: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ [121] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/47). .
2- تأثيرُ النيَّة في العملِ؛ لقوله: وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ أي: للأصنامِ؛ فإنَّه يكون حرامًا حتى ولو ذُكِرَ اسمُ الله عليه؛ وذلك لتأثير النيَّة، وأنَّ النيَّةَ تؤثِّرُ حتى في حِلِّ الشيءِ وتحريمِه، وكذلك في قوله: غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ [122] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/48، 53). .
3- تحريمُ خَشية الكفَّارِ التي يترتَّب عليها المُداهنةُ في دِينِ الله؛ لقوله: فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ [123] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/50). .
4- التَّحريضُ بأكملِ ما يكونُ على التمسُّكِ بما شرَعَ اللهُ تعالى، وذلك في قولِه سبحانه: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ؛ لأنَّه قد حصَل لهم اليأسُ مِن دينِكم؛ فإذا صارَ الأمرُ كذلك فيجبُ عليكم ألَّا تَلْتَفِتوا إليهم وألَّا تخافوهم، وأنْ تُقبِلوا على طاعةِ الله عزَّ وجلَّ، والعملِ بشَرائعِه [124] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/286). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَدْ حرَّم الله الاستقسامَ بالأزلامِ في قوله: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ؛ لأنَّه من الخُرافاتِ والأوهامِ التي لا يَركَنُ إليها إلَّا مَن كان ضعيفَ العقل؛ يَفعلُ ما يَفعلُ من غير بيِّنةٍ ولا بصيرةٍ، ويترُك ما يترُك عن غير بيِّنةٍ ولا بصيرةٍ، ويَجعل نفْسَه أُلعوبةً للكَهَنَة والسَّدَنَة، ويتفاءل ويتشاءم بما لا فأْلَ فيه ولا شُؤْم، فلا غَرْوَ أنْ يُبطِلَ ذلك دِينُ العقْلِ والبصيرة والبرهان، كما أَبطَلَ التطيُّرَ [126] التطيُّر: التشاؤم بالشَّيءِ، مِن الطِّيَرة- بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تسكن-، وأصلُه: الشيءُ المكروه من قولٍ أو فعلٍ أو مرئيٍّ، وكانوا يَتطيَّرون فيُنفِّرون الظِّباء والطيور، فإنْ أخذت ذاتَ اليمين تبرَّكوا به ومضَوا في سفرهم وحوائجهم، وإنْ أخذت ذاتَ الشمال رجَعُوا عن حاجتهم وسفرهم وتشاءَموا به، فكانت تصدُّهم في كثيرٍ من الأوقات عن مصالحهم، فنَفى الشرع ذلك وأبطَلَه، ونهى عنه، وأخبر أنه ليس له تأثيرٌ بِنَفْعٍ ولا ضُرٍّ. ينظر: ((شرح النووي على مسلم)) (14/218)، ((النهاية)) لابن الأثير (3/152). ، والكِهانةَ [127] الكَهَانة- بفَتْح الكاف، ويجوز كسرها-: ادِّعاءُ عِلم الغيب، كالإخبارِ بما سيقع في الأرض مع الاستنادِ إلى سببٍ. ينظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/216)، ((تاج العروس)) للزبيدي (36/81). ، والعِيافةَ [128] العِيافة: زجْر الطير، والتَّفَاؤُل بأسْمائِها وأصْواتها ومَمرِّها. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/330)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/440)، ((تاج العروس)) للزبيدي (24/196). ، والعِرافة [129] العرافة: مِهنة العرَّاف، وهو الذي يستدلُّ على الأمورِ بأسبابٍ ومُقدِّمات يَدَّعي معرفتَها بها، أو مَن يستخرجُ الوقوفَ على المغيَّبات بضربٍ مِن فعلٍ أو قول. ينظر: ((شرح النووي على مسلم)) (14/223)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/217). ، وسائرَ خُرافات الجاهليَّة، ولا يَليق ذلك كلُّه إلَّا بجهلِ الوثنيَّةِ وأوهامِها [130] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (7/195)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/124). .
2- قوله: ذَلِكُمْ فِسْقٌ المشارُ إليه كلُّ ما سبَق؛ لأنَّ القاعدةَ: أنَّه إذا أمكن أن يعودَ اسمُ الإشارةِ أو الضَّميرُ إلى كلِّ ما سبَق، حُمِلَ عليه [131] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/127)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/42). .
3- قوله: فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الفرق بين الخَشْيَةِ والخوف: أنَّ الخشية تكون عن عِلمٍ، والخوف لا يلزم أن يكونَ عن عِلمٍ، كذلك الخشيةُ تكون مِن عِظَمِ الْمَخْشِيِّ، وإنْ كان الخاشي قويًّا، لكنَّ الْمَخْشِيَّ يكون أقوى منه، والخوف لا يدلُّ على عِظَم الْمَخُوفِ، وإنَّما يدلُّ على ضَعْف الخائِفِ أمامَ مَن يَخاف منه وإنْ لم يكن قويًّا، وهذا فرقٌ واضِحٌ؛ فالطِّفل الذي له أربعُ سَنواتٍ يَخاف من الطِّفلِ الذي له ثمانِي سنواتٍ، مع أنَّ الثاني ضعيفٌ، لكنَّ الذي يَخشى مِن مَلِك أو صاحبِ سلطانٍ قويٍّ، هذا يُـقال: إنَّه خاشٍ [132] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/43). .
4- قوْلُه تعالى: أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ المرادُ من الدِّين دِينُ الإسلامِ، وإضافتُه إلى ضَميرِ المسلمين؛ لتشريفِهم بذلك [134] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/106). ، وليَفْخروا ويعتزُّوا بتمسُّكِهم به، ويُدافِعوا عنه [135] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/51). .
5- بيانُ نِعمة الله على هذه الأمَّة- وله الحمدُ والمِنَّة- بإكمالِ الدِّين؛ لقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، فهذه أكبَرُ نِعَمِ اللهِ عزَّ وجلَّ على هذه الأمَّةِ؛ حيث أكمَلَ تعالى لهم دينَهم، فلا يحتاجونَ إلى دينٍ غَيرِه، ولا إلى نبيٍّ غيرِ نَبيِّهم- صَلواتُ اللهِ وسلامُه عليه؛ ولهذا جَعَله اللهُ خاتَمَ الأنبياءِ، وبعَثَه إلى الإنسِ والجِنِّ، فلا حلالَ إلَّا ما أحَلَّه، ولا حرامَ إلا ما حَرَّمه، ولا دِينَ إلا ما شَرَعه. وفيه بيانُ شرَفِ ذلك اليوم الذي أُكْمِلَ فيه الدِّينُ؛ لأنَّه لولا ذلك لم يكُن لقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فائدةٌ [136] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/26)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/50). .
6- في قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بيانُ أنَّ الدِّين كاملٌ، فكل مُتكلِّف يزعُمُ أنَّه لا بدَّ للنَّاسِ- في مَعرفةِ عقائدِهم وأحكامِهم - مِن معرفةِ علومٍ غيرِ عِلم الكتابِ والسُّنة، من عِلم الكلامِ وغيره؛ فهو جاهلٌ، مُبطِلٌ في دعواه، قد زعَم أنَّ الدِّين لا يكمُل إلَّا بما قالَه ودعا إليه، وهذا من أعظمِ الظُّلم والتَّجهيلِ لله ولرسولِه [137] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 220). ، قال الإمامُ مالِكُ بنُ أنسٍ: (مَن أحدَثَ في هذه الأمَّةِ شيئًا لم يكُنْ عليه سَلَفُها؛ فقد زعم أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم خان الرِّسالةَ؛ لأنَّ اللهَ يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا، فما لم يكُنْ يومَئذٍ دِينًا؛ فلا يكونُ اليومَ دِينًا) [138] ينظر: ((الإحكام)) لابن حزم (6/58)، ((الاعتصام)) للشاطبي (1/494). .
7- قوْلُه تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا فيه إشارةٌ لى أنَّ نَسْخَ الأحكامِ قد انتهى، وأنَّ هذا الدِّين دينٌ أبديٌّ؛ لأنَّ الشيءَ المختار المدَّخر لا يكونُ إلَّا أَنْفَسَ ما أُظْهِرَ من الأديانِ، والأَنفَسُ لا يُبطِلُه شيءٌ؛ إذ ليس بعده غايةٌ [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/108). .
8- أفاد قولُه: فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بعد قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ حُكمًا شرعيًّا، وهو أنَّه تعالى غفَر للمضطرِّ الذنبَ بتناوُلِ هذا المحرَّم، ورحمِه بإباحتِه له، فالأحكامِ تؤخَذُ من أسماء الله عزَّ وجلَّ؛ لا سيَّما المتعدِّيَة، فلا بدَّ أن يكونَ لها أثرٌ، كما في قوله تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: 34] يعني: إذا تاب قُطَّاعُ الطريق قبل القُدرَةِ عليهم سقَطَ عنهم الحدُّ [140] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/54- 55). .

بلاغة الآية:

1- قوله: وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ: خصَّ المنخنقةَ وما عُطفِ عليها مِن الْمَيتاتِ بالذِّكر- مع كونِها داخلةً في عمومِ الْمَيتةِ بالمعنى الشَّرعي-؛ لأنَّ بعضَ العربِ في الجاهليَّةِ كانوا يأكلونَها، ولئلَّا يغترَّ أحدٌ باستباحةِ بعضِ أهلِ الجاهليَّةِ لها، ولئلَّا يشتَبِهَ فيها بعضُ النَّاسِ؛ لأنَّ لِمَوتها سببًا معروفًا [141] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/114-117-122). وكانتِ العرب تعتقد أنَّ هذه الحوادثَ (الخنق والوقذ والتردي والنطح) على المأكول كالذَّكاة، وأنَّ الميتة ما ماتتْ بوجعٍ دون سببٍ يُعرف من هذه الأسباب. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/172). .
2- قوْلُه تعالى: وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ... وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ما ذُبِح على النُّصُبِ جزءٌ مِمَّا أُهِلَّ به لغيرِ اللهِ، لكن خُصَّ بالذِّكر بَعدَ جِنسِه؛ لشُهرةِ الأَمْرِ، وتَعظيمِ النُّفوسِ له [142] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/153)، ((تفسير أبي حيان)) (4/172). ، ولإزالة وَهمِ مَن توهَّم أنه قد يَحِلُّ بقصْدِ تعظيمِ البيتِ الحرامِ إذا لم يُذكَرِ اسمُ غيرِ اللهِ عليه [143] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/122). .
3- قوله: ذَلِكُمْ فِسْقٌ: اعتراضٌ وقَعَ بين آيةِ المحرَّماتِ المتقدِّمة، وبين آية الرُّخصة الآتية: وهي قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ، وفائدتُه تأكيدُ معنى التحريمِ، وكذلك ما بعده الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ...؛ لأنَّ تحريمَ هذه الخبائِثِ من جُملة الدِّين الكامِلِ والنِّعمةِ التامَّة، والإسلامِ المنعوتِ بالرِّضا دونَ غيرِه من المِلَل [144] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/604)، ((تفسير البيضاوي)) (2/115)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/99). .
4- قوْلُه تعالى: فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ أفاد مفادَ صِيغةِ الحصر، ولو قيل: (فإيَّاي فاخشون) لجرَى على الأكثر في مقامِ الحَصْر، ولكن عدَل إلى جُملَتَي نفيٍ وإثباتٍ؛ لأنَّ مفاد كِلتا الجملتينِ مقصودٌ، فلا يَحْسُن طيُّ إحداهما، وهذا من الدَّواعي الصَّارِفَة عن صيغةِ الحَصْر إلى الإتيان بصِيغتَيْ إثبات ونفي [145] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/102). .