موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: رَفعُ اليَدَينِ في الدُّعاءِ


يُستَحَبُّ للدَّاعي أن يَرفعَ يَدَيه.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ والآثارِ:
أ- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: حَدَّثَني عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، قال: ((لَمَّا كان يومُ بَدرٍ نَظَر رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى المُشرِكين وهم ألفٌ، وأصحابُه ثلاثُمائةٍ وتِسعةَ عَشَرَ رَجُلًا، فاستَقبَلَ نَبيُّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القِبلةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيه، فجَعَلَ يَهتِفُ برَبِّه: اللَّهُمَّ أنجِزْ لي ما وعَدتَني، اللَّهُمَّ آت ما وعَدْتني، اللَّهُمَّ إن تُهلِكْ هذه العصابةَ مِن أهلِ الإسلامِ لا تُعبَدْ في الأرضِ، فما زال يَهتِفُ برَبِّه مادًّا يَدَيه مُستَقبِلَ القِبلةِ حتَّى سَقَط رداؤُه عن مَنكِبَيه...)) [2105] أخرجه مسلم (1763). .
2- عن أبي بُردةَ، عن أبي موسى رَضيَ اللهُ عنه، قال: ((لمَّا فرَغَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن حُنَينٍ بَعَثَ أبا عامِرٍ على جَيشٍ إلى أوطاسٍ، فلَقيَ دُرَيدَ بنَ الصِّمَّةِ، فقُتِلَ دُرَيدٌ وهَزَمَ اللهُ أصحابَه، قال أبو موسى: وبَعَثَني مَعَ أبي عامِرٍ، فرُميَ أبو عامِرٍ في رُكبَتِه، رَماه جُشَميٌّ بسَهمٍ فأثبَتَه في رُكبَتِه... قُلتُ لأبي عامِرٍ: قَتَلَ اللهُ صاحِبَك، قال: فانزِع هذا السَّهمَ، فنَزَعته فنَزا [2106] فَنَزا: أي: ظَهَر وارتَفَع وجرى وانصَبَّ ولم ينقَطِعْ. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (4/ 149)، ((شرح مسلم)) للنووي (16/ 59، 60)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (5/ 85) و (6/ 408). مِنه الماءُ! قال: يا ابنَ أخي، أقرِئِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم السَّلامَ، وقُلْ له: استَغفِرْ لي! واستَخلَفَني أبو عامِرٍ على النَّاسِ، فمَكَثَ يَسيرًا ثُمَّ ماتَ، فرَجَعتُ فدَخَلتُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بَيتِه على سَريرٍ مُرمَلٍ [2107] سريرٍ مُرْمَلٍ: أي: قد نُسِجَ وَجهُه بالسَّعَفِ. وقيل: مُرمَلٌ: أي: مَنسوجٌ بحَبلٍ ونَحوِه. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (8/ 411)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (6/ 408). وعليه فِراشٌ، قد أثَّرَ رِمالُ السَّريرِ بظَهرِه وجَنبَيه، فأخبَرتُه بخَبَرِنا وخَبَرِ أبي عامِرٍ، وقال: قُلْ له: استَغفِرْ لي، فدَعا بماءٍ فتَوضَّأ، ثُمَّ رَفعَ يَدَيه فقال: اللَّهُمَّ اغفِرْ لعُبَيدٍ أبي عامِرٍ. ورَأيتُ بَياضَ إبطَيه، ثُمَّ قال: اللَّهُمَّ اجعَلْه يَومَ القيامةِ فوقَ كَثيرٍ مِن خَلقِك مِنَ النَّاسِ. فقُلتُ: ولي فاستَغفِرْ! فقال: اللَّهُمَّ اغفِرْ لعَبدِ اللهِ بنِ قَيسٍ ذَنبَه، وأدخِلْه يَومَ القيامةِ مُدخَلًا كَريمًا)). قال أبو بُردةَ: إحداهما لأبي عامِرٍ، والأُخرى لأبي موسى [2108] أخرجه البخاري (4323) واللفظ له، ومسلم (2498). .
ب- مِنَ الآثارِ:
قال سَلمانُ الفارِسيُّ رَضيَ اللهُ عنه: (إنَّ اللَّهَ ليَستَحي أن يَبسُطَ العَبدُ إليه يَدَيه يَسألُه فيهما خَيرًا، فيَرُدَّهما خائِبَتَينِ) [2109] أخرجه أحمد (23714)، والحاكم (1854)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (1013). صحَّح إسنادَه الحاكم وقال: على شرط الشيخين، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23714). .
صِفةُ رَفعِ اليَدَينِ
1- في مَقامِ الدُّعاءِ العامِّ يَرفعُ اليَدَينِ إلى المَنكِبَينِ أو نَحوِهما [2110] استحسن بعضُ أهلِ العلم ضمَّهما، وقال ابنُ عُثيمين: (وظاهِرُ كَلامِ أهلِ العِلمِ: أنَّه يَضُمُّ اليَدَينِ بَعضَهما إلى بَعضٍ، كَحالِ المُستَجدي الذي يَطلُبُ مِن غَيرِه أن يُعطيَه شيئًا، وأمَّا التَّفريجُ والمُباعَدةُ بَينَهما فلا أعلمُ له أصلًا لا في السُّنَّةِ ولا في كَلامِ العُلماءِ). ((الشرح الممتع)) (4/18). وينظر: ((تصحيح الدعاء)) لبكر أبو زيد (ص: 116). لكنْ لم يَرِدْ في ضَمِّ الكَفَّينِ عندَ الدُّعاءِ حَديثٌ، وإنَّما ذَكَره الغزاليُّ في الإحياءِ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا دعا ضَمَّ كَفَّيه، وجَعَل بُطونَهما ممَّا يلي وَجهَه)). وذَكَر العِراقيُّ في تخريجِ الإحياءِ (ص: 362) أنَّه أخرَجه الطَّبَرانيُّ في الكبيرِ، ولعَلَّه تسامُحٌ في التَّخريجِ على سَنَنِ المحَدِّثينَ في العزْوِ لأصلِ الحديثِ؛ فلَفظُه في ((المعجم الكبير)) (11/ 435) (12234): عن ابنِ عَبَّاسٍ، قال: ((كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا دعا جَعَل باطِنَ كَفِّه إلى وَجهِه)) دونَ لَفظِ: (إذا دعا ضَمَّ كَفَّيه)، وهذا سَنَدُه ضعيفٌ؛ تفَرَّد به خُصَيفُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ على كثرةِ أصحابِه، وخُصَيفٌ: ضَعيفٌ مُتكَلَّمٌ فيه. وفيه أيضًا عَنْعَنةُ ابنِ إسحاقَ، وهو مُدَلِّسٌ، ولم يُصَرِّحْ بالتَّحديثِ. وممَّن ضَعَّف سَنَدَه العِراقيُّ في ((تخريج الإحياء)) (1/404)، والقسطلَّاني في ((المواهب اللدنية)) (3/521). باسِطًا لبُطونِهما نَحوَ السَّماءِ، وظُهورُهما إلى الأرضِ. وهذه هيَ الصِّفةُ العامَّةُ لرَفعِ اليَدَينِ حالَ الدُّعاءِ [2111] يُنظر: ((تصحيح الدعاء)) لبكر أبو زيد (ص: 116). قال ابنُ حجرٍ: (غالبُ الأحاديثِ التي ورَدتْ في رَفعِ اليدينِ في الدُّعاءِ إنَّما المرادُ به مدُّ اليدينِ وبسطُهما عندَ الدُّعاءِ). ((فتح الباري)) (2/ 517). وقال ابنُ رجبٍ: (وقد رُوي عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في صفةِ رفعِ يدَيْه في الدُّعاءِ أنواعٌ متعددةٌ... ومنها: أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم رفَع يدَيْه وجعَل ظهورَهما إلى جهةِ القِبلةِ وهو مستقبلُها، وجعَل بطونَهما مما يلي وجهَه. وقد رُوِيت هذه الصِّفةُ عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في دُعاءِ الاستسقاءِ، واستحبَّ بعضُهم الرفعَ في الاستسقاءِ على هذه الصِّفةِ، منهم الجوزجانيُّ). ((جامع العلوم والحكم)) (1/ 271). .
2- في مَقامِ الاستِغفارِ يَرفعُ إصبَعًا واحِدةً، وهيَ السَّبَّابةُ مِنَ اليَدِ اليُمنى، وهذه الصِّفةُ خاصَّةٌ بمَقامِ الذِّكرِ والدُّعاءِ حالَ الخُطبةِ على المِنبَرِ، وحالَ التَّشَهُّدِ في الصَّلاةِ، وحالَ الذِّكرِ والتَّمجيدِ والهَيلَلةِ خارِجَ الصَّلاةِ [2112] يُنظر: ((تصحيح الدعاء)) لبكر أبو زيد (ص: 117). .
3- في مَقامِ الابتِهالِ والتَّضَرُّعِ والمُبالغةِ في المَسألةِ يَرفعُ اليَدَينِ مَدًّا نَحوَ السَّماءِ، وهيَ خاصَّةٌ بحالِ الشِّدَّةِ والرَّهبةِ، كَحالِ الجَدبِ والنَّازِلةِ بتَسَلُّطِ العَدوِّ ونَحوِ ذلك، وعليه يُحمَلُ حَديثُ أنَسٍ: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَرفعُ يَدَيه في شَيءٍ مِن دُعائِه إلَّا في الاستِسقاءِ، وإنَّه يَرفعُ حتَّى يُرى بَياضُ إبْطَيه)) [2113] أخرجه البخاري (1031). ، أي: لا يَرفعُهما رَفعَ مُبالغةٍ وابتِهالٍ شَديدٍ إلَّا في مَقامِ الرَّهبِ حالَ الجَدبِ في الاستِسقاءِ، لا أنَّه يُريدُ نَفيَ الرَّفعِ في غَيرِ هذا المَوضِعِ؛ لتَواتُرِ أحاديثِ الرَّفعِ حالَ المَسألةِ والدُّعاءِ في رِوايةِ جَمعٍ كَثيرٍ مِنَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، فالمَنفيُّ في هذه الحالةِ صِفةٌ سِواها [2114] ينظر: ((تصحيح الدعاء)) (ص: 117). قال النَّوويُّ: (هذا الحَديثُ يُوهِمُ ظاهِرُه أنَّه لم يَرفَعْ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا في الاستِسقاءِ، وليسَ الأمرُ كذلك، بَل قد ثَبَتَ رَفعُ يَدَيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الدُّعاءِ في مواطِنَ غَيرِ الاستِسقاءِ، وهيَ أكثَرُ مِن أن تُحصَرَ،...، ويُتَأوَّلُ هذا الحَديثُ على أنَّه لم يَرفعِ الرَّفعَ البَليغَ بحَيثُ يُرى بَياضُ إبْطَيه إلَّا في الاستِسقاءِ، أو أنَّ المُرادَ: لم أرَه رَفَع، وقد رَآه غَيرُه رَفَع، فيُقدَّمُ المُثبِتونَ في مَواضِعَ كَثيرةٍ -وهم جَماعاتٌ- على واحِدٍ لم يَحضُرْ ذلك، ولا بُدَّ مِن تَأويلِه؛ لِما ذَكَرْناه، واللَّهُ أعلَمُ). ((شرح النووي على مسلم)) (6/ 190). .
وأمَّا حَديثُ أنَسٍ الآخَرُ: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استَسقى فأشارَ بظَهرِ كَفَّيه إلى السَّماءِ)) [2115] أخرجه مسلم (895). . فمعنى قَولِه: ((فأشارَ بظَهرِ كَفَّيه إلى السَّماءِ)) أي: مِن شَدَّةِ الرَّفعِ، كَأنَّ ظُهورَ كَفَّيه نَحوَ السَّماءِ، قال ابنُ تَيميَّةَ: (صارَ كَفُّهما نَحوَ السَّماءِ لشِدَّةِ الرَّفعِ، لا قَصدًا له، وإنَّما كان يُوَجِّه بُطونَهما مَعَ القَصدِ، وأنَّه لو كان قَصَدَه، فغَيرُه أَولى وأشهَرُ) [2116] نقله عنه المرداوي في ((الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف)) (5/ 427). .
وقال ابنُ عُثَيمين: (أمَّا الدُّعاءُ بظُهورِ الأكُفِّ فقدِ اختَلف أهلُ العِلمِ فيه؛ لأنَّه ورَدَ في صحيحِ مُسلِمٍ ما ظاهِرُه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَدعو بظُهورِ كَفَّيه في الاستِسقاءِ، ولكِنَّ الظَّاهرَ ما ذَهَبَ إليه شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ رَحِمَه اللهُ مِن أنَّ الدُّعاءَ كُلَّه ببُطونِ الأكُفِّ، ولكِنَّ الرَّاويَ ذَكَرَ أنَّ ظُهورَ كَفَّيِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى السَّماءِ؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالغَ في الرَّفعِ، فظَنَّ مَن يَراه أنَّه جَعَل ظُهورَهما نَحوَ السَّماءِ، وليسَ المَعنى أنَّه دَعا بهما مَقلوبَتَينِ، وهذا هو الأقرَبُ) [2117] ((نور على الدرب)) لابن عثيمين (2/ 522، 523). .
وقيل: بَل هيَ صِفةٌ مَقصودةٌ، فيَقلبُ كفَّيه وتكونُ ظُهورُ يَدَيه نَحوَ السَّماءِ [2118] قال ابنُ رَجَبٍ: ((النَّوعُ الخامِسُ: أن يَقلِبَ كَفَّيه، ويجعَلَ ظُهورَهما ممَّا يلي السَّماءَ، وبُطونَهما ممَّا يلي الأرضَ، مع مَدِّ اليَدَينِ ورَفعِهما إلى السَّماء….وقد تَأوَّل بَعضُ المُتَأخِّرينَ حَديثَ أنَسٍ على أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَقصِدْ قَلبَ كَفَّيه، إنَّما حَصَل له مِن شَدَّةِ رَفعِ يَدَيه انحناءُ بُطونِهما إلى الأرضِ، وليسَ الأمرُ كَما ظَنَّه، بَل هو صِفةٌ مَقصودةٌ لنَفسِه في رَفعِ اليَدَينِ في الدُّعاءِ). ((فتح الباري)) (9/ 225). وقال النوويُّ: (قال الرَّافعيُّ وغيرُه: قال العُلَماءُ: السُّنَّةُ لكُلِّ مَن دَعا لرَفعِ بلاءٍ وإن دعا لطَلَبِ شَيءٍ جَعَل بطنَ كفَّيه إلى السَّماءِ). ((المجموع شرح المهذب)) (5/ 84). وينظر: ((حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح)) (ص: 551)، ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (2/111)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (2/70). لكن لفظُ قَلْبِ الكفَّين لم يرِد في الحديث. .

انظر أيضا: