ثامنًا: ألَّا تُظهِرَ المرأةُ زينتَها للأجانبِ
يَحرُمُ على المَرأةِ أن تُظهِرَ شَيئًا مِنَ الزِّينةِ للأجانِبِ، إلَّا ما لا يُمكِنُ إخفاؤُه، كَظاهِرِ الثِّيابِ التي جَرَتِ العادةُ بلُبسِها
[1077] يَجِبُ على المَرأةِ سَترُ بَدَنِها كُلِّه أمامَ الرَّجُلِ الأجنَبيِّ، بما في ذلك الوَجهُ والكَفَّانِ، وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: الحَنَفيَّةِ، والأظهَرُ مِن مَذهَبِ الشَّافِعيَّةِ، والصَّحيحُ مِن مَذهَبِ الحَنابلةِ، وهو قَولُ جَمعٍ مِن عُلماءِ المالكيَّةِ وغَيرِهم، وحُكيَ فيه اتِّفاقُ المُسلمينَ. ويَجِبُ على المَرأةِ أمامَ مَحارِمِها أن تَستُرَ جَميعَ بَدَنِها سِوى ما يَظهَرُ مِنها غالبًا، كالرَّقَبةِ، والشَّعرِ، والقدَمَينِ، ونَحوِ ذلك، وهو مَذهَبُ المالكيَّةِ، والحَنابلةِ، ووَجهٌ عِندَ الشَّافِعيَّةِ. يُنظر بَيانُ ذلك مَعَ أدِلَّتِه في: ((المَوسوعة الفِقهيَّة بمَوقِعِ الدُّرَرِ السَّنيَّة)) https://dorar.net/feqhia .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:أ- مِنَ الكِتابِ:قال تعالى:
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31] .
قال السَّعديُّ: (
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ عنِ النَّظَرِ إلى العَوراتِ والرِّجالِ بشَهوةٍ ونَحوِ ذلك مِنَ النَّظَرِ المَمنوعِ
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ مِنَ التَّمكينِ مِن جِماعِها، أو مَسِّها، أوِ النَّظَرِ المُحَرَّمِ إليها.
وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ كالثِّيابِ الجَميلةِ والحُليِّ، وجَميعِ البَدَنِ كُلِّه مِنَ الزِّينةِ، ولمَّا كانتِ الثِّيابُ الظَّاهِرةُ لا بُدَّ لها مِنها، قال:
إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا أي: الثِّيابَ الظَّاهرةَ التي جَرَتِ العادةُ بلُبسِها إذا لم يَكُنْ في ذلك ما يَدعو إلى الفِتنةِ بها
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، وهذا لكَمالِ الاستِتارِ، ويَدُلُّ ذلك على أنَّ الزِّينةَ التي يَحرُمُ إبداؤُها يَدخُلُ فيها جَميعُ البَدَنِ كَما ذَكَرنا. ثُمَّ كَرَّرَ النَّهيَ عن إبداءِ زينَتِهنَّ ليَستَثنيَ مِنه قَولَه:
إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أي: أزواجِهنَّ
أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ يَشمَلُ الأبَ بنَفسِه، والجَدَّ وإن عَلا
أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ، ويَدخُلُ فيه الأبناءُ وأبناءُ البُعولةِ مَهما نَزَلوا
أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أشِقَّاءَ أو لأبٍ أو لأُمٍّ
أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أي: يَجوزُ للنِّساءِ أن يَنظُرَ بعَضُهُنَّ إلى بَعضٍ مُطلقًا، ويُحتَمَلُ أنَّ الإضافةَ تَقتَضي الجِنسيَّةَ، أي: النِّساءُ المُسلِماتُ، اللَّاتي مِن جِنسِكُم، ففيه دَليلٌ لمَن قال: إنَّ المُسلِمةَ لا يَجوزُ أن تَنظُرَ إليها الذِّمِّيَّةُ.
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ فيَجوزُ للمَملوكِ إذا كان كُلُّه للأُنثى أن يَنظُرَ لسَيِّدَتِه ما دامَت مالِكةً له كُلِّه، فإن زال المِلكُ أو بَعضُه لم يَجُزِ النَّظَرُ.
أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أي: أوِ الذينَ يَتْبَعونَكُم ويَتَعَلَّقونَ بكُم مِنَ الرِّجالِ الذينَ لا إربةَ لهم في هذه الشَّهوةِ، كالمَعتوهِ الذي لا يَدري ما هنالكَ، وكالعِنِّينِ الذي لم يَبقَ له شَهوةٌ لا في فَرجِه ولا في قَلبِه، فإنَّ هذا لا مَحذورَ مِن نَظَرِه.
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ أي: الأطفالِ الذينَ دونَ التَّمييزَ، فإنَّه يَجوزُ نَظَرُهم للنِّساءِ الأجانِبِ، وعَلَّل تعالى ذلك بأنَّهم لم يَظهَروا على عَوراتِ النِّساءِ، أي: ليسَ لهم عِلمٌ بذلك، ولا وُجِدَت فيهمُ الشَّهوةُ بَعدُ، ودَلَّ هذا أنَّ المُمَيِّزَ تَستَتِرُ مِنه المَرأةُ؛ لأنَّه يَظهَرُ على عَوراتِ النِّساءِ.
وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ أي: لا يَضرِبنَ الأرضَ بأرجُلِهنَّ ليُصَوِّتَ ما عليهنَّ مِن حُليٍّ، كَخَلاخِلَ وغَيرِها، فتُعلَمَ زينَتُها بسَبَبِه، فيَكونَ وسيلةً إلى الفِتنةِ.
ويُؤخَذُ مِن هذا ونَحوِه قاعِدةُ سَدِّ الوسائِلِ، وأنَّ الأمرَ إذا كان مُباحًا، ولكِنَّه يُفضي إلى مُحَرَّمٍ، أو يُخافُ مِن وُقوعِه، فإنَّه يُمنَعُ مِنه، فالضَّربُ بالرِّجلِ في الأرضِ الأصلُ أنَّه مُباحٌ، ولكِن لمَّا كان وسيلةً لعِلمِ الزِّينةِ مُنِع منه)
[1078] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 566). .
ب- من السُّنَّةِ:وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا تَمنَعوا إماءَ اللهِ مَساجِدَ اللهِ، ولكِنْ لِيَخرُجْنَ وهنَّ تَفِلاتٌ [1079] تَفِلاتٌ: أي: تاركاتٌ الطِّيبَ. يُنظر: ((المجموع)) للنووي (4/ 199). ) [1080] أخرجه أبو داود (565) واللفظ له، وأحمد (9645). صحَّحه ابن خزيمة في ((الصحيح)) (3/172)، وابن حبان في ((صحيحه)) (2214)، والبغوي في ((شرح السنة)) (2/420)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/46). .
قال ابنُ دَقيقِ العيدِ: (في بَعضِ الرِّواياتِ «وليَخرُجنَ تَفِلاتٍ»
[1081] لفظُها: عن أبي هريرةَ: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا تَمنَعوا إماءَ الله مساجِدَ الله، ولْيَخْرُجْنَ تَفِلاتٍ)). أخرجها أبو داودَ (565)، وأحمدُ (9645) واللفظُ له. صححها ابن خزيمة في ((الصحيح)) (3/172)، وابن حبان في ((صحيحه)) (2214)، والبغوي في ((شرح السنة)) (2/420)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (5/46). ، وفي بَعضِها: «إذا شَهِدَت إحداكُنَّ المَسجِدَ فلا تَمَسَّ طِيبًا»
[1082] أخرجها مسلم (443) من حديث زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. ، وفي بَعضِها: «إذا شَهِدَت إحداكُنَّ العِشاءَ فلا تَطَيَّبْ تلك اللَّيلةَ»
[1083] أخرجها مسلم (443) من حديث زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. .
فأُلحِق بالطِّيبِ ما في مَعناه؛ فإنَّ الطِّيبَ إنَّما مُنِعَ مِنه لِما فيه مِن تَحريكِ داعيةِ الرِّجالِ وشَهوتِهم، ورُبَّما يَكونُ سَبَبًا لتَحريكِ شَهوةِ المَرأةِ أيضًا، فما أوجَبَ هذا المَعنى التَحَقَ به.
وقد صَحَّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أيُّما امرَأةٍ أصابَت بَخورًا فلا تَشهَدْ مَعنا العِشاءَ الآخِرةَ»
[1084] أخرجه مسلم (444) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
ويُلحَقُ به أيضًا: حُسنُ المَلابِسِ، ولُبسُ الحُليِّ الذي يَظهَرُ أثَرُه في الزِّينةِ.
وحَمَل بَعضُهم قَولَ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها في "الصَّحيحِ": "لو أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَأى ما أحدَثَ النِّساءُ بَعدَه لمَنعَهنَّ المَساجِدَ كَما مُنِعَت نِساءُ بَني إسرائيلَ"
[1085] أخرجه البخاري (869)، ومسلم (445) باختلاف يسير؛ ولفظ البخاري: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: ((لَوْ أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ رَأَى ما أحْدَثَ النِّساءُ لَمَنَعَهُنَّ المَسْجِدَ كما مُنِعَتْ نِساءُ بَنِي إسْرائِيلَ. قالَ: فَقُلتُ لِعَمْرَةَ: أنِساءُ بَنِي إسْرائِيلَ مُنِعْنَ المَسْجِدَ؟ قالَتْ: نَعَمْ)). على هذا، تَعني: إحداثَ حُسنِ المَلابِسِ والطِّيبِ والزِّينةِ)
[1086] ((إحكام الأحكام)) (1/ 197). .