موسوعة الآداب الشرعية

ثامنًا: صِلَةُ الرَّحِمِ الكافِرةِ


تجوزُ صِلةُ الرَّحمِ الكافِرةِ [2525] وهذا باتِّفاقِ المذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ. الحَنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابِلةِ. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/232)، ((حاشية العدوي على كافية الطالب الرباني)) (2/427)، ((أسنى المطالب)) لزكريا الأنصاري (4/446)، ((الإنصاف)) للمرداوي (3/190). على أنَّ المالِكيَّةَ قد نصُّوا على أنَّ صِلةَ الكُفَّارِ الواجبةَ مُنحَصِرةٌ في الوالِدَينِ، أمَّا غيرُ الوالِدَينِ من القراباتِ فظاهِرُ كلامِهم الجوازُ، ما لم يؤَدِّ إلى مودَّتِهم. وقال الشَّافِعيَّةُ: تجِبُ صِلةُ الوالِدَينِ، وتُسَنُّ صِلةُ الأقارِبِ، لكِنْ إذا وصَلَهم يحرُمُ عليه قَطعُها بعد ذلك، ولم يُفَرِّقوا بين المسلمِ والكافرِ. وأجاز الحَنابِلةُ الوصيَّةَ والصَّدَقةَ مِن المسلِمِ للكافِرِ، وهذا نوعٌ من البِرِّ والصِّلةِ. .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
قَولُه تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة: 8-9] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى لم يَنْهَنا عن بِرِّ وصِلةِ الكُفَّارِ غيرِ المُحارِبينَ، يَستَوي في ذلك الأقارِبُ وغَيرُهم [2526] يُنظر: ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 856). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أسماءَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((أتَتني أمِّي راغِبةً، في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَألتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أصِلُها؟ قال: نَعَم)) [2527] أخرجه البخاري (5978) واللفظ له، ومسلم (1003). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أذِنَ لأسماءَ أن تَصِلَ أمَّها، ولم تَكُنْ مُسلِمةً [2528] يُنظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (7/ 89)، ((عون المعبود)) للعظيم آبادي (5/ 59). .
2- عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَأى حُلَّةً سِيَراءَ [2529] الحُلَّةُ السِّيَراءُ: هي المُضَلَّعةُ بالحريرِ، وسُمِّيت سِيَراءَ لِما فيه من الخطوطِ التي تُشبِهُ السُّيورَ. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 575). -يَعني: تُباعُ عِندَ بابِ المَسجِدِ- فقال: يا رَسولَ اللهِ، لوِ اشتَريتَ هذه فلَبِستَها يَومَ الجُمعةِ وللوَفدِ إذا قَدِموا عليك! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّما يَلبَسُ هذه مَن لا خَلَاقَ [2530] الخَلَاقُ: النَّصيبُ، وقيل: النَّصيبُ الوافِرُ مِنَ الخَيرِ، ومِنه قَولُه عَزَّ وجَلَّ: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ [التوبة: 69] أيِ: انتَفَعوا به، وقال تعالى: أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آل عمران: 77] . يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 576)، ((المعلم)) للمازري (3/ 129)، ((شرح مسلم)) للنووي (14/ 38). له في الآخِرةِ! ثُمَّ جاءَت رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنها حُلَلٌ، فأعطى عُمَرَ حُلَّةً، فقال عُمَرُ: كَسَوتَنيها يا رَسولَ اللهِ، وقد قُلتَ في حُلَّةِ عُطارِدَ ما قُلتَ! فقال رسولُ اللهِ: إنِّي لم أكسُكها لتَلبَسَها، فكساها عُمَرُ أخًا له مُشرِكًا بمَكَّةَ)) [2531] أخرجه البخاري (886) واللفظ له، ومسلم (2068). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه وَصَل بالحُلَّةِ مُشرِكًا، وهذا دَليلٌ على جَوازِ صِلةِ غيرِ المُسلمِ [2532] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (14/ 262)، ((المعلم بفوائد مسلم)) للمازري (3/ 129). وقال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (لم يَختَلفِ العُلَماءُ في الصَّدَقةِ التَّطَوُّعِ أنَّها جائِزةٌ مِنَ المُسلمِ على المُشرِكِ، قَريبًا كان أو غيرَه، والقَريبُ أَولى مِمَّن سِواه، والحَسَنةُ فيه أتَمُّ وأفضَلُ، وإنَّما اختَلفوا في كفَّارةِ الأيمانِ وزَكاةِ الفِطرِ؛ فجُمهورُ العُلماءِ على أنَّه لا تَجوزُ لغيرِ المُسلِمينَ؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "أُمِرتُ أن آخُذَ الصَّدَقةَ مِن أغنيائِكُم وأرُدَّها على فُقَرائِكُم"، وكذلك كلُّ ما يَجِبُ أن يُؤخَذَ مِنهم فواجِبٌ أن يُرَدَّ على فُقَرائِهم. وأجمَعوا أنَّ الزَّكاةَ المَفروضةَ لا تَحِلُّ لغيرِ المُسلمينَ، فسائِرُ ما يَجِبُ أداؤُه عليهم مِن زَكاةِ الفِطرِ وكفَّارةِ الأيمانِ والظِّهارِ فقياسٌ على الزَّكاةِ عِندَنا، وأمَّا التَّطَوُّعُ بالصَّدَقةِ فجائِزٌ على أهلِ الكُفرِ مِنَ القَراباتِ وغيرِهم، لا أعلَمُ في ذلك خِلافًا. واللَّهُ أعلَمُ). ((التمهيد)) (14/ 262، 263). .
3- عن قَيسِ بنِ أبي حازِمٍ، أنَّ عَمرَو بنَ العاصِ قال: (سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جِهارًا غيرَ سِرٍّ يَقولُ: إنَّ آلَ أبي -قال عَمرٌو: في كِتابِ مُحَمَّدِ بنِ جَعفَرٍ بياضٌ- ليسوا بأوليائي، إنَّما وليِّيَ اللَّهُ وصالحُ المُؤمِنينَ) [2533] أخرجه البخاري (5990) واللفظ له، ومسلم (215). . زادَ عَنبَسةُ بنُ عَبدِ الواحِدِ، عن بيانٍ، عن قيسٍ، عن عَمرِو بنِ العاصِ، قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ولكِنْ لهم رَحِمٌ أبُلُّها ببِلالِها)) [2534] أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم بعد حديث (5990)، وأخرجه موصولًا أبو عوانة في ((المسند)) (277). .

انظر أيضا: