موسوعة الآداب الشرعية

خامسًا: الإسباغُ


يُستحَبُّ إسباغُ الوُضوءِ [33] الإسباغُ في اللُّغةِ: الإتمامُ، ويُطلَقُ ويُرادُ به أحَدُ شَيئَينِ؛ الأوَّلُ: تَعميمُ جَميعِ الأعضاءِ الواجِبِ غَسلُها بالماءِ، وهذا واجِبٌ، والثَّاني: كَمالُ إتمامِه وتَوفيتِه. والثَّاني هو المُرادُ هنا. ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 240). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ألا أدُلُّكُم على ما يَمحو اللهُ به الخَطايا، ويَرفعُ به الدَّرَجاتِ؟ قالوا: بَلى يا رَسولَ اللهِ، قال: إسباغُ الوُضوءِ على المَكارِهِ، وكَثرةُ الخُطا إلى المَساجِدِ، وانتِظارُ الصَّلاةِ بَعدَ الصَّلاةِ، فذلكمُ الرِّباطُ)) [34] أخرجه مسلم (251) .
وفي رِوايةٍ: ((كَفَّاراتُ الخَطايا: إسباغُ الوُضوءِ على المَكارِهِ، وإعمالُ الأقدامِ إلى المَساجِدِ، وانتِظارُ الصَّلاةِ بَعدَ الصَّلاةِ)) [35] أخرجها ابن ماجه (428) واللفظ له، والبزار (8129). صحَّحها الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (428)، وصحح إسنادها الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (2/40). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنتُمُ الغُرُّ المُحَجَّلونَ يَومَ القيامةِ؛ مِن إسباغِ الوُضوءِ)) [36] أخرجه البخاري (136)، ومسلم (246) واللفظ له. .
وفي حَديثِ حُذَيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه: ((تَرِدُونَ عليَّ غُرًّا مُحَجَّلينَ مِن آثارِ الوُضوءِ، ليسَت لأحَدٍ غَيرِكُم)) [37] أخرجه مسلم (248). .
والغُرَّةُ والتَّحجيلُ: بَياضٌ في وَجهِ الفرَسِ وقَوائِمِه، وذلك مِمَّا يُحَسِّنُه ويُزَيِّنُه، ومَعنى الحَديثِ: أنَّهم إذا دُعوا على رُؤوسِ الأشهادِ أو إلى الجَنَّةِ، كانوا على هذه الصِّفةِ [38] يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (7/ 188)، ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطِّيبي (3/ 748). .
3- عن عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن تَوضَّأ فأحسَن الوُضوءَ خَرَجَت خَطاياه مِن جَسَدِه، حتَّى تَخرُجَ مِن تَحتِ أظفارِه)) [39] أخرجه مسلم (245). .
(قَولُه: «فأحسَن الوُضوءَ» هو في مَعنى أسبَغَه، والظَّاهِرُ أنَّ الإسباغَ إكمالُه بإيصالِ الماءِ تَمامًا، وتَثليثِ الغَسلِ ونَحوِه، والإحسانِ برِعايةِ السُّنَنِ والآدابِ، واللهُ أعلمُ) [40] ((لمعات التنقيح)) (2/ 14). .
4- عن أُسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((دَفعَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن عَرَفةَ حتَّى إذا كان بالشِّعبِ [41] الشِّعبُ: هو انفِراقٌ بَينَ الجَبَلينِ مِن طَريقٍ ونَحوِه، قيل: المُرادُ به هنا الشِّعبُ الأيسَرُ الذي دَونَ المُزدَلِفةِ، وهو الشِّعبُ الكَبيرُ الذي بَينَ مَأزِمَي عَرَفةَ عن يَسارِ المُقبِلِ مِن عَرَفةَ يُريدُ مُزدَلِفةَ مِمَّا يَلي نَمِرةَ، ويُقالُ له: شِعبُ الإذخِرِ، وقيل: هو الشِّعبُ الذي في بَطنِ المَأزِم على يَمينِك وأنتَ مُقبلٌ مِن عَرَفةَ بَينَ الجَبَلينِ إذا أفضَيتَ مِن مَضيقِ المَأزِمَينِ، وهو أقرَبُ وأوصَلُ بالطَّريقِ. يُنظر: ((أخبار مكة)) للأزرقي (2/ 197، 198)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (4/ 243)، ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (6/ 287، 288). نَزَل فبال، ثُمَّ تَوضَّأ ولم يُسبِغِ الوُضوءَ، فقُلتُ: الصَّلاةُ يا رَسولَ اللهِ! فقال: الصَّلاةُ أمامَك، فرَكِبَ، فلمَّا جاءَ المُزدَلِفةَ نَزَل فتَوضَّأ، فأسبَغَ الوُضوءَ، ثُمَّ أُقيمَتِ الصَّلاةُ، فصَلَّى المَغرِبَ، ثُمَّ أناخَ كُلُّ إنسانٍ بعيرَه في مَنزِلِه، ثُمَّ أُقيمَتِ العِشاءُ فصَلَّى، ولم يُصَلِّ بَينَهما)) [42] أخرجه البخاري (139) واللفظ له، ومسلم (1280). .
قال الخَطَّابيُّ: («الصَّلاةُ أمامَك» يُريدُ أنَّ مَوضِعَ هذه الصَّلاةِ المُزدَلِفةُ، وهيَ أمامَك.
وأمَّا فِعلُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ نَزَل الشِّعبَ وتَركُه إسباغَ الوُضوءِ، فإنَّما فَعلَ ذلك ليَكونَ مُستَصحِبًا للطَّهارةِ في مَسيرِه إلى أن يَبلُغَ جَمعًا [43] قال ابنُ بَطَّالٍ: (قال أبو الزِّنادِ: تَوضَّأ ولم يُسبِغْ؛ لذِكرِ اللهِ تعالى؛ لأنَّهم يُكثِرونَ ذِكرَ اللهِ عِندَ الدَّفعِ مِن عَرَفةَ). ((شرح صحيح البخاري)) (1/ 228). ، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَأخَّى في عامَّةِ أحوالِه أن يَكونَ على طُهرٍ، وإنَّما تَجَوَّزَ في الطَّهارةِ ولم يُسبِغْها؛ لأنَّه لم يَفعَلْ ذلك ليُصَلِّيَ بها، ألَا تَراه قد أسبَغَها حينَ أرادَ أن يُصَلِّيَ وأكمَلَها؟
وفي وُضوئِه لغَيرِ الصَّلاةِ دَليلٌ على أنَّ الوُضوءَ نَفسَه عِبادةٌ وقُربةٌ، وإن لم يُفعَلْ لأجْلِ الصَّلاةِ، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُقدِّمُ الطَّهارةَ إذا أوى إلى فِراشِه [44] لفظُه: عنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا أتَيتَ مَضجَعَك فتَوضَّأْ وُضوءَك للصَّلاةِ، ثُمَّ اضطَجِعْ على شِقِّك الأيمَنِ، ثُمَّ قُل: اللَّهُمَّ أسلَمتُ وَجهي إليك، وفوَّضتُ أمري إليك، وألجَأتُ ظَهري إليك؛ رَغبةً ورَهبةً إليك، لا مَلجَأَ ولا مَنجا مِنك إلَّا إليك، اللَّهُمَّ آمَنتُ بكِتابِك الَّذي أنزَلتَ، وبنَبيِّك الَّذي أرسَلتَ، فإن مُتَّ مِن لَيلَتِك فأنتَ على الفِطرةِ، واجعَلْهنَّ آخِرَ ما تَتَكَلَّمُ به. قال: فرَدَّدْتُها على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَمَّا بَلَغتُ: اللَّهُمَّ آمَنتُ بكِتابِك الَّذي أنزَلتَ، قُلتُ: ورَسولِك، قال: لا، ونَبيِّك الَّذي أرسَلتَ)). أخرجه البخاري (247) واللفظ له، ومسلم (2710). ؛ ليكونَ مَبيتُه على طُهرٍ) [45] ((أعلام الحديث)) (1/ 234-236). .
وقال المُهَلَّبُ: (قَولُه: "وتَوضَّأ ولم يُسبغِ الوُضوءَ" يُريدُ أنَّه خَفَّف الوُضوءَ، وهو أدنى ما تُجزِئُ الصَّلاةُ به دونَ تَكرارِ إمرارِ اليَدِ عليه) [46] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (4/ 352). .
فائدةٌ:
عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((رَجَعنا مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن مَكَّةَ إلى المَدينةِ حتَّى إذا كُنَّا بماءٍ بالطَّريقِ تَعَجَّل قَومٌ عِندَ العَصرِ، فتوضَّؤوا وهم عِجالٌ، فانتَهَينا إليهم وأعقابُهم تَلوحُ لم يَمَسَّها الماءُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَيلٌ للأعقابِ مِنَ النَّارِ، أسبِغوا الوُضوءَ)) [47] أخرجه البخاري (96)، ومسلم (241) واللفظ له. .
(قَولُه: «أسبِغوا الوُضوءَ» أي: أكمِلوه وأتِمُّوه، ولا تَترُكوا جُزءًا مِن أجزاءِ الأعضاءِ غَيرَ مَغسولٍ.
وقال بَعضُ العُلماءِ: المُرادُ بالإسباغِ هاهنا إكمالُ الوُضوءِ، وإبلاغُ الماءِ كُلَّ ظاهرِ أعضائِه، وهذا فَرضٌ، والإسباغُ الذي هو التَّثليثُ سُنَّةٌ، والإسباغُ الذي هو التَّسييلُ هو شَرطٌ، والإسباغُ الذي هو إكثارُ الماءِ مِن غَيرِ إسرافٍ فضيلةٌ، وبكُلِّ هذا يُفسَّرُ الإسباغُ باختِلافِ المَقاماتِ) [48] ((لمعات التنقيح)) (2/ 129). ويُنظر: ((عون المعبود)) للعظيم آبادي (1/ 119). .

انظر أيضا: