ب- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ
حثَّت السُّنَّةُ النَّبَويَّةُ المُطَهَّرةُ على حِفظِ اللِّسانِ، فينبغي لمن أراد أن ينطِقَ أن يتدبَّرَ ما يقولُ قبلَ أن ينطِقَ، فإن ظهَرَت فيه مصلحةٌ تكَلَّم، وإلَّا أمسَك، ومن الأحاديثِ التي جاءت وتشهدُ لهذا المعنى:
1- عن عُقبةَ بنِ عامرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((قلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما النَّجاةُ؟ قال: أمسِكْ عليك لسانَك، ولْيَسَعْك بيتُك، وابكِ على خطيئتِك)) [3416] أخرجه من طرقٍ: الترمذي (2406) واللفظ له، وأحمد (17334). صحَّحه يحيى بن معين كما في ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (8/265)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2406)، وحسَّنه الترمذي، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (28/ 570). .
(«أمسِك عليك لسانَك»: أي: لا تُجْرِه إلَّا بما يكونُ لك لا عليك، وكان الظَّاهِرُ أن يقالَ: حِفْظُ اللِّسانِ، فأخرَجَه على سبيلِ الأمرِ المُقتضي للتَّحقيقِ؛ مَزيدًا للتَّقريرِ. وقيل: الحديثُ من أسلوبِ الحكيمِ؛ فإنَّ السُّؤالَ عن حقيقةِ النَّجاةِ، والجوابُ بسَبَبِها؛ لأنَّه أهَمُّ)
[3417] ((دليل الفالحين)) لابن علان (8/ 346). .
2- عن أبي موسى رَضِيَ اللَّهُ عنه قال:
((سُئِل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ المُسلِمين أفضَلُ؟ قال: مَن سَلِم المُسلِمون مِن لِسانِه ويَدِه)) [3418] أخرجه البخاري (11)، ومسلم (42) واللفظ له. .
(قولُه:
((مَن سَلِم المُسلِمون مِن لِسانِه ويَدِه))، أي: مَن كانت هذه حالَه كان أحَقَّ بهذا الاسمِ، وأمكَنَهم فيه. ويُبَيِّنُ ذلك أنَّه لا ينتهي الإنسانُ إلى هذا، حتَّى يتمَكَّنَ خَوفُ عقابِ اللَّهِ تعالى من قلبِه، ورجاءُ ثَوابِه، فيَكسِبُه ذلك وَرَعًا يحمِلُه على ضَبطِ لِسانِه ويَدِه، فلا يتكَلَّمُ إلَّا بما يَعنيه، ولا يفعَلُ إلَّا ما يَسلَمُ فيه، ومن كان كذلك فهو المُسلِمُ الكامِلُ، والمتَّقي الفاضِلُ)
[3419] ((المفهم)) للقرطبي (1/ 224). .
قال
ابنُ عُثَيمين: (فلا يلعَنُهم ولا يَسُبُّهم ولا يَشتِمُهم ولا يغتابُهم ولا يَنُمُّ فيهم، كُلُّ آفاتِ اللِّسانِ المتعَلِّقةِ بالخَلقِ قد كَفَّها فسَلِم النَّاسُ منه، وسَلِم المُسلِمون من يَدِه أيضًا، لا يعتدي عليهم بضربٍ ولا سَرِقةٍ ولا إفسادِ مالٍ ولا غيرِ ذلك، هذا هو المُسلِمُ، وليس المرادُ بذلك أنَّه ليس هناك مُسلِمٌ سواه، ولكِنَّ المعنى أنَّ هذا من الإسلامِ، وإلَّا فإنَّ المُسلِمَ مَن استسلم للهِ تعالى ظاهِرًا وباطنًا، لكِنْ أحيانًا يأتي مثلُ هذا التَّعبيرِ من أجلِ الحَثِّ على هذا العَمَلِ، وإن كان يُوجَدُ سِواه)
[3420] ((شرح رياض الصالحين)) (6/ 234). .
3- عن سَهلِ بنِ سعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((من يَضمَنْ لي ما بَيْنَ لَحْيَيه وما بَيْنَ رِجلَيه أضمَنْ له الجنَّةَ)) [3421] أخرجه البخاري (6474). .
قولُه:
((مَن يَضمَنْ)) من الضَّمانِ بمعنى الوفاءِ بتركِ المعصيةِ، والمعنى: من أدَّى الحَقَّ الذي على لسانِه من النُّطقِ بما يجِبُ عليه، أو الصَّمتِ عمَّا لا يعنيه، وأدَّى الحَقَّ الذي على فَرجِه مِن وَضعِه في الحلالِ وكَفِّه عن الحرامِ.
قولُه:
((لَحْيَيه)) هما العَظمانِ في جانِبَيِ الفَمِ، والمرادُ بما بَيْنَهما: اللِّسانُ، وقيل: المرادُ بما بَيْنَ اللَّحيَينِ الفَمُ، فيتناوَلُ الأقوالَ والأكلَ والشُّربَ وسائِرَ ما يتأتَّى بالفَمِ من الفعلِ. ومن تحفَّظَ من ذلك أمِنَ من الشَّرِّ كُلِّه، ومحمَلُ الحديثِ على أنَّ النُّطقَ باللِّسانِ أصلٌ في حصولِ كُلِّ مطلوبٍ، فإذا لم ينطِقْ به إلَّا في خيرٍ سَلِم. ودَلَّ الحديثُ على أنَّ أعظَمَ البلاءِ على المرءِ في الدُّنيا لسانُه وفَرجُه، فمَن وُقِيَ شَرَّهما وُقِيَ أعظَمَ الشَّرِّ
[3422] يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/ 309، 310). .
4- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال:
((قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن كان يُؤمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ فلْيَقُلْ خيرًا أو ليَصمُتْ)) [3423] أخرجه البخاري (6475)، ومسلم (47) مطوَّلًا. .
في هذا الحديثِ نَصٌّ صريحٌ على أنَّه لا ينبغي أن يتكَلَّمَ إلَّا إذا كان الكلامُ خيرًا، وهو الذي ظهَرَت له مصلحتُه، ومتى شَكَّ في ظهورِ المصلحةِ فلا يتكَلَّمْ.
وقال
الشَّافعيُّ: (إذا أراد الكلامَ فعليه أن يُفَكِّرَ قبلَ كَلامِه، فإن ظهَرَت المصلحةُ تكَلَّم، وإن شَكَّ لم يتكَلَّمْ حتى تَظهَرَ)
[3424] ((الأذكار)) للنووي (ص: 332). .
5- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه،
((عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: إنَّ العَبدَ لَيتكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِن رِضوانِ اللَّهِ، لا يُلقي لها بالًا، يَرفَعُه اللَّهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبدَ لَيتكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لها بالًا، يَهْوي بها في جَهَنَّمَ)) [3425] أخرجه البخاري (6478) واللفظ له، ومسلم (2988) بنحوه. .
قولُه:
((لا يُلقي لها بالًا)) أي: لا يرى بتلك الكَلِمةِ بأسًا، ومعنى الحديثِ: إنَّ العبدَ ليتكَلَّمُ بكَلِمةِ حقٍّ وخيرٍ لا يعرِفُ قَدْرَه؛ يعني: يظنُّها قليلًا، وهو عِندَ اللَّهِ عظيمُ القَدرِ، فيَحصُلُ بها رضوانُ اللَّهِ.
وكذلك ربَّما يتكَلَّمُ بشَرٍّ وهو لا يظنُّه ذَنبًا، وهو عِندَ اللَّهِ ذنبٌ عظيمٌ، فيَحصُلُ له سَخَطُ اللَّهِ، يعني: لا يجوزُ أن يظُنَّ الخيرَ حقيرًا، بل لِيَعمَلِ الرَّجُلُ بكُلِّ خيرٍ، ولْيتكَلَّمْ كُلَّ خيرٍ.
وكذلك لا يجوزُ أن يَعُدَّ الشَّرَّ حقيرًا، بل لِيَترُكِ الرَّجُلُ كُلَّ شرٍّ؛ كي لا يصدُرَ منه شرٌّ، فيُحصَلَ له به سَخَطُ اللَّهِ
[3426] ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (5/ 171). .
قال
ابنُ عبدِ البَرِّ: (وقد فَسَّر
ابنُ عُيَينةَ هذا الحديثَ بمعنى ما أصِفُ لك، قال: هي الكَلِمةُ عِندَ السُّلطانِ الظَّالمِ لِيَرُدَّه بها عن ظُلمِه في إراقةِ دَمٍ أو أخذِ مالٍ لمُسلِمٍ، أو ليَصرِفَه عن معصيةِ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ، أو يُعِزَّ ضعيفًا لا يستطيعُ بُلوغَ حاجتِه عندَه، ونحوَ ذلك ممَّا يُرضي اللَّهَ به، وكذلك الكَلِمةُ في عونِه على الإثمِ والجَورِ ممَّا يُسخِطُ اللَّهَ به)
[3427] ((الاستذكار)) (8/ 555). وقال ابنُ بطَّالٍ عَقِبَ ذِكرِه عدَّةَ أحاديثَ في بابِ حِفظِ اللِّسانِ (ما أحَقَّ مَن عَلِم أنَّ عليه حَفَظةً موكَّلين به، يُحصون عليه سَقَطَ كَلامِه وعَثَراتِ لِسانِه، أن يَخزُنَه ويَقِلَّ كلامُه فيما لا يَعنيه! وما أحراه بالسَّعيِ في ألَّا يرتفِعَ عنه ما يطولُ عليه نَدَمُه من قولِ الزُّورِ والخَوضِ في الباطِلِ، وأن يجاهِدَ نفسَه في ذلك، ويستعينَ باللَّهِ ويستعيذَ مِن شَرِّ لِسانِه)
[3428] ((شرح صحيح البخاري)) (10/ 185). .