عاشِرًا: أخطاءٌ شائعةٌ حَولَ الصِّلةِ والتَّواصُلِ
- قد يظُنُّ الظَّانُّ أنَّ الصِّلةَ تكونُ لِمن وصلَه من أقاربِه، أمَّا مَن قَطَع فلا يستَحِقُّ الصِّلةَ، وهذا خطَأٌ؛ فالإنسانُ الواصِلُ ليس المكافِئَ الذي إذا وصَله أقاربُه وصَلَهم، ولكِنَّ الواصِلَ هو الذي إذا قُطِعَت رَحِمُه وصَلَها، فتكونُ صِلتُه للهِ لا مكافأةً لعبادِ اللَّهِ، ولا مِن أجلِ أن ينالَ بذلك مدحًا عن النَّاسِ؛ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ليس الواصِلُ بالمكافئِ)) [5947] أخرجه البخاري (5991). يعني: بالذي إذا وصَله أقاربُه وصَلَهم مكافأةً لهم، وإنَّما الواصِلُ الذي إذا قُطِعَت رَحِمُه وصَلَها
[5948] ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/ 190). .
فأهلُ السُّنَّةِ يندُبون إلى أن تَصِلَ مَن قطَعَك، وأن تَصِلَ مَن وَصَلك بالأَولى؛ لأنَّ مَن وصَلَك وهو قريبٌ صار له حقَّانِ: حقُّ القرابةِ، وحَقُّ المكافأةِ
[5949] ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (2/ 354). .
- قد يُظَنُّ أنَّ التَّواصُلَ بَيْنَ الإخوانِ يَلزَمُ منه كثرةُ الزِّيارةِ، وأنَّ قِلَّةَ الزِّيارةِ تدُلُّ على الجفاءِ، وفي هذا نظَرٌ، بل المدارُ على خُلوصِ المحبَّةِ وقوَّتِها، مع عدَمِ قَصدِ القطيعةِ.
عن أبي بَكرٍ محمَّدِ بنِ يحيى بنِ سُلَيمانَ المَرْوَزيِّ، قال: قال
أبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سَلامٍ: (زُرتُ
أحمدَ بنَ حَنبَلٍ يومًا في بيتِه، فأجلسَني في صدرِ دارِه، وجلس دوني. فقلتُ: يا
أبا عبدِ اللَّهِ، أليس يقالُ: صاحِبُ البيتِ أحَقُّ بصَدرِ بيتِه؟! فقال: نعم، يقعُدُ ويُقعِدُ مَن يريدُ. قال: فقُلتُ في نفسي: خُذْ إليك يا
أبا عُبَيدٍ فائدةً! قال: ثمَّ قُلتُ له: يا
أبا عبدِ اللَّهِ، لو كنتُ آتيك على نحوِ ما تستَحِقُّ لأتيتُك كُلَّ يومٍ! فقال: لا تَقُلْ؛ إنَّ لي إخوانًا لا ألقاهم إلَّا في كُلِّ سَنةٍ مرَّةً، أنا أوثَقُ بمودَّتِهم ممَّن ألقى كُلَّ يومٍ! قال: قلتُ: هذه أخرى يا
أبا عُبَيدٍ! فلمَّا أردتُ القيامَ قام معي، فقُلتُ: لا تفعَلْ يا
أبا عَبدِ اللَّهِ. فقال: قال الشَّعبيُّ: من تمامِ زيارةِ الزَّائرِ أن تمشيَ معه إلى بابِ الدَّارِ، وتأخُذَ برِكابِه. قال: قلتُ: يا
أبا عُبَيدٍ، هذه ثالثةٌ! قال: فمشى معي إلى بابِ الدَّارِ وأخَذ برِكابي)
[5950] ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 152). .
- يسارِعُ بعضُ النَّاسِ إلى قَطعِ صِلتِه بأخيه بمجرَّدِ حُصولِ كَدرٍ يسيرٍ بَيْنَهما، أو وقوعِ هفوةٍ من أخيه! وهذا خطأٌ، فلو هجَر كُلُّ امرئٍ أخاه بسبَبِ هَفوةٍ وقَعَت لَمَا بَقِيَت صِلةٌ بَيْنَ اثنينِ!
عن أبي عُمَرَ بنِ نجيدٍ قال: (كنتُ أختَلِفُ إلى أبي عُثمانَ النَّيسابوريِّ مدَّةً في وقتِ شبابي، وكنتُ قد حظِيتُ عِندَه، فقُضيَ من القضاءِ أنِّي اشتغلتُ مرَّةً بشيءٍ ممَّا يشتَغِلُ به الفِتيانُ، فنُقِل ذلك إلى أبي عُثمانَ، فانقطَعتُ عنه بعدَ ذلك، فافتقَدني، فأقمتُ على انقطاعي عنه، وكنتُ إذا رأيتُه في الطَّريقِ أو من بعيدٍ اختفيتُ في موضعٍ؛ حتَّى لا تقعَ عينُه علَيَّ. فدخلتُ يومًا سِكَّةً من السِّكَكِ، فخرج عليَّ أبو عثمانَ من عَطفةٍ في السِّكَّةِ، فلم أجِدْ عنه محيصًا! فتقدَّمتُ إليه وأنا دَهِشٌ متشَوِّشٌ، فلمَّا رأى ذلك قال لي: يا أبا عُمَرَ، لا تَثِقَنَّ بمودَّةِ مَن لا يحِبُّك إلَّا معصومًا!)
[5951] ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي ت بشار (10/ 145). .
وقد قال بشَّارُ بنُ بُردٍ:
إذا كُنتَ في كُلِّ الذُّنوبِ مُعاتِبًا
صديقَك لم تَلْقَ الذي لا تُعاتِبُه
فعِشْ واحِدًا أو صِلْ أخاك فإنَّه
مقارِفُ ذَنبٍ مرَّةً ومجانِبُه
[5952] ((ديوان المعاني)) لأبي هلال العسكري (2/ 196).