د- نماذِجُ من العِفَّةِ عندَ السَّلَفِ
عِفَّةُ سالمِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ:- قال
ابنُ عُيَينةَ: (دخَل
هِشامُ بنُ عبدِ المَلِكِ إلى الكعبةِ، فإذا هو بسالمٍ، فقال له: سَلْني حاجتَك. فقال: إني أستحي من اللهِ أن أسألَ في بيتِه غيرَه، فلمَّا خرجا منها قال: الآن قد خرَجْتَ منها فاسأَلْ، فقال: واللهِ ما سألتُ الدُّنيا ممَّن يملِكُها، فكيف أسألُ فيها من لا يَملِكُها؟!)
[6871] رواه الدينوري في ((المجالسة وجواهر العلم)) (80)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (20/64). .
عِفَّةُ الرَّبيعِ بنِ خُثَيمٍ:- عن سعدانَ قال: (أمَر قومٌ امرأةً ذاتَ جمالٍ بارعٍ أن تتعرَّضَ للرَّبيعِ بنِ خُثَيمٍ فلعَلَّها تفتِنُه، وجعلوا لها إن فعَلَتْ ذلك ألفَ دِرهَمٍ، فلَبِسَت أحسَنَ ما قدَرَت عليه من الثِّيابِ، وتطيَّبَت بأطيبِ ما قدَرَت عليه، ثمَّ تعرَّضَت له حينَ خرج من مسجِدِه، فنظر إليها فراعه أمرُها، فأقبلَت عليه وهي سافرةٌ، فقال لها الرَّبيعُ: كيف بكِ لو قد نزَلَت الحُمَّى بجسمِك فغيَّرَت ما أرى من لونِك وبهجتِك؟ أم كيف بكِ لو قد نزل بكِ مَلَكُ الموتُ فقَطَع منكِ حبلَ الوتينِ؟
[6872] الوَتينُ: عِرقٌ في القَلبِ إذا انقطع مات صاحبُه. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (13/441). أم كيف بكِ لو قد ساءلَكِ منكَرٌ ونكيرٌ؟ فصرَخَت صرخةً فسقَطَت مغشيًّا عليها. فواللهِ لقد أفاقت وبلغت من عبادةِ رَبِّها أنَّها كانت يومَ ماتت كأنَّها جِذعٌ محتَرِقٌ!)
[6873] ((صفة الصفوة)) لابن الجوزي (3/191). .
نماذِجُ أُخرى في العِفَّةِ:- راود رجلٌ امرأةً في فَلاةٍ ليلًا فأبت وقالت: أمَا لك زاجرٌ من عقلٍ إن لم يكنْ لك ناهٍ من دينٍ؟! فقلتُ: إنَّه لا يرانا إلَّا الكواكِبُ، فقالت: وأين مُكَوكِبُها
[6874] يُنظَر: ((اعتلال القلوب)) للخرائطي (1/ 44)، ((شعب الإيمان)) للبيهقي (2/ 266)، ((محاضرات الأدباء)) للراغب (2/ 249). ؟!
- ونزل أسَديٌّ بطائيَّةٍ في يومٍ صائفٍ، فأتته بقِرًى
[6875] القِرَى: ما يُقدَّمُ إلى الضَّيفِ من طعامٍ. يُنظَر: ((معجم اللغة العربية المعاصرة)) لأحمد مختار (3/ 1808). ، ففتنَتْه بعينَيها من وراءِ البُرقُعِ، فراودها، فقالت: أمَا يردَعُك الكرَمُ والإسلامُ؟! كُلْ وأقِلَّ، وإن أردْتَ غيرَ ذلك فارتحِلْ
[6876] ((محاضرات الأدباء)) للراغب (2/ 249). .
- وعن مخرَمةَ بنِ عُثمانَ قال: نُبِّئتُ أنَّ فتًى من العبَّادِ أحبَّ جاريةً من أهلِ البصرةِ، فبعث يخطُبُها فامتنعَت عليه، وقالت: إن أردتَ غيرَ ذلك فعَلتُ، فأرسل إليها: سبحانَ اللهِ! يا هذه أدعوك إلى الأمرِ الصَّحيحِ الذي لا عيبَ فيه ولا وِزرَ، وتدعينَني إلى ما لا يصلُحُ، ولا لكِ فيه عذرٌ! فأرسلَت إليه: قد أخبَرتُك بالذي عندي، فإن أردتَ فتقَدَّمْ، وإن كرِهتَ تأخَّرْ، فأنشد يقولُ:
أسائِلُها الحلالَ وتَدْعُ قلبي
إلى ما لا أريدُ من الحرامِ
كداعي آلِ فرعونَ إليه
وهم يدعونه نحوَ الغرامِ
فظلَّ منعَّمًا في الخُلدِ يسعى
وظلُّوا في الجحيمِ وفي السَّقامِ
فلمَّا عَلِمَت أنَّه قد امتنع من الفاحشةِ أرسلَت إليه: ها أنا بين يديك على الذي تحِبُّ، فكتب إليها: هيهاتَ! لا حاجةَ لنا فيمن دعانا إلى المعصيةِ ونحن ندعوه إلى الطَّاعةِ، لا خيرَ في نفسٍ لا تدومُ على الاستقامةِ! ثمَّ أنشأ يقولُ:
لا خيرَ فيمن لا يراقِبُ رَبَّه
عندَ الهوى ويخافُه أحيانَا
حَجَب التُّقى بابَ الهوى فأخو التُّقى
عفُّ الخليقةِ زائدٌ إيمانَا
[6877] ((اعتلال القلوب)) للخرائطي (ص: 92، 93). - وقال
ابنُ العَرَبيِّ: (لقد دخلتُ نَيِّفًا على ألفِ قريةٍ من برِّيةٍ، فما رأيتُ أصونَ عيالًا، ولا أعفَّ نساءً من نساءِ نابلسَ التي رُمِي فيها الخليلُ -عليه السَّلامُ- بالنَّارِ، فإني أقمتُ فيها أشهُرًا، فما رأيتُ امرأةً في طريقٍ نهارًا إلَّا يومَ الجمُعةِ؛ فإنَّهنَّ يخرُجْنَ إليها حتى يمتلئَ المسجدُ منهنَّ، فإذا قُضِيت الصَّلاةُ، وانقلَبْنَ إلى منازِلهنَّ لم تقَعْ عيني على واحدةٍ منهنَّ إلى الجمُعةِ الأخرى. وسائرُ القرى تُرى نساؤها متبرِّجاتٍ بزينةٍ وعُطلةٍ، متفَرِّقاتٍ في كلِّ فِتنةٍ وعضلةٍ.
وقد رأيتُ بالمسجِدِ الأقصى عفائِفَ ما خرَجْنَ من معتَكَفِهنَّ حتى استُشهِدْنَ فيه)
[6878] ((أحكام القرآن)) (3/ 569). .