اكتسابُ الأخلاقِ
(لدَينا حَقيقةٌ ثابتةٌ لا بُدَّ من مُلاحَظَتِها في مَجالِ كُلِّ تَكليفٍ رَبَّانيٍّ: هي أنَّ اللهَ تَبارَكَ وتعالى لا يُكَلِّفُ نَفسًا إلَّا وُسعَها، فمسؤوليَّةُ الإنسانِ تَنحَصِرُ في نِطاقِ ما يَدخُلُ في وُسعِه، وما يَستَطيعُه من عَمَلٍ، أمَّا ما هو خارِجٌ عن وُسعِ الإنسانُ واستِطاعَتِه، فليس عليه مسؤوليَّةٌ نَحوَه، يُضافُ إلى ذلك أنَّ نِسبةَ المسؤوليَّةِ تَتَناسَبُ طَردًا وعَكسًا مَعَ مِقدارِ الاستِطاعةِ...
فما كان منَ الطِّباعِ الفِطريَّةِ قابلًا للتَّعديلِ والتَّبديلِ، ولو في حُدودِ نِسَبٍ جُزئيَّةٍ؛ لدُخولِه تَحتَ سُلطانِ إرادةِ الإنسانِ وقُدرَتِه، كان خاضِعًا للمسؤوليَّةِ، وداخِلًا في إطارِها تِجاهَ التَّكاليفِ الرَّبَّانيَّةِ، وما لم يَكُنْ قابلًا للتَّعديلِ والتَّبديلِ؛ لخُروجِه عن سُلطانِ إرادةِ الإنسانِ وقُدرَتِه، فهو غَيرُ داخِلٍ في إطارِ المسؤوليَّةِ تِجاهَ التَّكاليفِ الرَّبَّانيَّةِ.
وبناءً على ذلك فإنَّنا نَقولُ وَفْقَ المَفاهيمِ الدِّينيَّةِ: لو لم يَكُنْ لدى كُلِّ إنسانٍ عاقِلٍ قُدرةٌ على اكتِسابِ حَدٍّ ما منَ الفضائِلِ الأخلاقيَّةِ، لَما كَلَّفه اللَّهُ ذلك.
وليس أمرُ قُدرةِ الإنسانِ على اكتِسابِ حَدٍّ ما من كُلِّ فضيلةٍ خُلُقيَّةٍ بَعيدًا عنِ التَّصَوُّرِ والفهمِ، ولكِنَّه بحاجةٍ إلى مِقدارٍ مُناسِبٍ منَ التَّأمُّلِ والتَّفكيرِ.
أليستِ استِعداداتُ النَّاسِ لأنواعِ العُلومِ المُختَلفةِ مُتَفاوِتةً؛ فبَعضُهم أقدَرُ على تَعلُّمِ الفُنونِ الجَميلةِ من بَعض، وبَعضُهم أقدَرُ على تَعلُّمِ العُلومِ العَقليَّةِ من بَعضٍ، وبَعضُهم أقدَرُ على حِفظِ التَّواريخِ والحَوادِثِ أو حِفظِ النُّصوصِ من بَعضٍ؟
إنَّه... ما من إنسانٍ عاقِلٍ إلَّا ولدَيه قُدرةٌ على اكتِسابِ مِقدارٍ ما من فضائِلِ الأخلاقِ، وفي حُدودِ هذا المِقدارِ الذي يَستَطيعُه يَكونُ تَكليفُه، وتَكونُ مسؤوليَّتُه، ثمَّ في حُدودِه تَكونُ مُحاسَبَتُه ومُجازاتُه.
إنَّ أسرَعَ النَّاسِ استِجابةً لانفِعالِ الغَضَبِ يَستَطيعُ بوسائِلِ التَّربيةِ أن يَكتَسِبَ مِقدارًا ما من خُلُقِ الحِلمِ، ومَتى صَمَّمَ بإرادَتِه أن يَكتَسِبَ ذلك فإنَّه يَستَطيعُه؛ لذلك فهو مسؤولٌ عنِ اكتِسابِ ما يَستَطيعُه منه، فإذا هو أهمَل تَربيةَ نَفسِه، وتَركَها من غَيرِ تَهذيبٍ تَنمو نُموَّ أشواكِ الغابِ، فإنَّه سَيُحاسَبُ على إهمالِه، وسيَجني ثَمَراتِ تَقصيرِه.
وإنَّ أشَدَّ النَّاسِ بُخلًا وأنانيَّةً وحُبًّا للتَّمَلُّكِ يَستَطيعُ بوسائِلِ التَّربيةِ أن يَكتَسِبَ مِقدارًا ما من خُلُقِ حُبِّ العَطاءِ، ومَتى صَمَّمَ بإرادَتِه أن يَكتَسِبَ ذلك فإنَّه يَستَطيعُه؛ لذلك فهو مسؤولٌ عنِ اكتِسابِ القَدرِ الواجِبِ شَرعًا منه، فإذا هو أهمَل تَربيةَ نَفسِه، وتَركَها من غَيرِ تَهذيبٍ، فإنَّه سَيُحاسَبُ على إهمالِه، وسَيَجني ثَمَراتِ تَقصيرِه.
والمَفطورُ على نِسبةٍ كَبيرةٍ منَ الجُبنِ يَستَطيعُ أن يَكتَسِبَ بالتَّربيةِ المُقتَرِنةِ بالإرادةِ والتَّصميمِ مِقدارًا ما من خُلُقِ الشَّجاعةِ، قد لا يَبلُغُ به مَبلَغَ المَفطورِ على نِسبةٍ عاليةٍ منَ الشَّجاعةِ، ولكِنَّه مِقدارٌ يَكفيه لتَحقيقِ ما يَجِبُ عليه فيه أن يَكونَ شُجاعًا، وضِمنَ الحُدودِ التي هو مسؤولٌ فيها.
وأشَدُّ النَّاسِ أنانيَّةً في تَكوينِه الفِطريِّ يَستَطيعُ أن يَكتَسِبَ بالتَّربيةِ المُقتَرِنةِ بالإرادةِ والتَّصميمِ مِقدارًا ما منَ الغَيريَّةِ والإيثارِ، قد لا يَبلُغُ فيه مَبلغَ المَفطورِ على مَحَبَّةِ الآخَرينَ، والرَّغبةِ بأن يُؤثِرَهم على نَفسِه، ولكِنَّه مِقدارٌ يَكفيه لتَأديةِ الحُقوقِ الواجِبةِ عليه تِجاهَ الآخَرينَ.
وهكذا نَستَطيعُ أن نَقولَ: إنَّ أيَّةَ فضيلةٍ خُلُقيَّةٍ باستِطاعةِ أيِّ إنسانٍ عاقِلٍ أن يَكتَسِبَ منها بالتَّربيةِ المُقتَرِنةِ بالإرادةِ والتَّصميمِ المِقدارَ الذي يَكفيه لتَأديةِ واجِبِ السُّلوكِ الأخلاقيِّ.
والنَّاسُ من بَعدِ ذلك يَتَفاوتونَ بمَدى سَبقِهم وارتِقائِهم في سُلَّمِ الفضائِلِ.
وتَفاوُتُ الاستِعداداتِ والطَّبائِعِ لا يُنافي وُجودَ استِعدادٍ عامٍّ صالحٍ لاكتِسابِ مِقدارٍ ما من أيِّ فرعٍ من فُروعِ الاختِصاصِ، سَواءٌ أكان ذلك من قَبيلِ العُلومِ، أو من قَبيلِ الفُنونِ، أو من قَبيلِ المَهاراتِ، أو من قَبيلِ الأخلاقِ.
وفي حُدودِ هذا الاستِعدادِ العامِّ ورَدَتِ التَّكاليفُ الشَّرعيَّةُ الرَّبَّانيَّةُ العامَّةُ، ثمَّ تَرتَقي من بَعدِه مسؤوليَّاتُ الأفرادِ بحَسَبِ ما وهَبَ اللَّهُ كُلًّا منهم مِن فِطَرٍ، وبحَسَبِ ما وَهبَ كُلًّا منهم منِ استِعداداتٍ خاصَّةٍ زائِدةٍ على نِسبةِ الاستِعدادِ العامِّ.
ولو أنَّ بَعضَ النَّاسِ كان مَحرومًا من أدنى حُدودِ الاستِعدادِ العامِّ الذي هو مَناطُ التَّكليفِ، فإنَّ التَّكليفَ لا يَتَوجَّهُ إليه أصلًا، ومن سُلِب منه هذا الاستِعدادُ بسَبَبِ ما ارتَفعَ عنه التَّكليفُ؛ ضَرورةَ اقتِرانِ التَّكليفِ بالاستِطاعةِ، كما أوضَحَت ذلك نُصوصُ الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ.
ووَفقَ هذا الأساسِ جاءَتِ التَّكاليفُ الشَّرعيَّةُ بالتِزامِ فضائِلِ الأخلاقِ واجتِنابِ رَذائِلِها.
ووَفقَ هذا الأساسِ وضع الإسلامُ الخُطَطَ التَّربَويَّةَ التي تَنفعُ في التَّربيةِ على الأخلاقِ الفاضِلةِ؛ فالاستِعدادُ لذلك مَوجودٌ في الواقِعِ الإنسانيِّ، وإن اختَلفت نِسبةُ هذا الاستِعدادِ من شَخصٍ إلى آخَرَ. وفي الإصلاحِ التَّربَويِّ قد يَقبَلُ بَعضُ النَّاسِ بَعضَ فضائِلِ الأخلاقِ بسُهولةٍ، ولا يَقبَلُ بَعضَها الآخَرَ إلَّا بصُعوبةٍ ومُعالجةٍ طَويلةِ المَدى، وقد تَقِلُّ نِسبةُ استِجابَتِه)
[57]((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) لعبد الرحمن حسن حبنكة (1/179) (بتصرف). .
قال
الغَزاليُّ: (لو كانتِ الأخلاقُ لا تَقبَلُ التَّغييرَ لبَطَلتِ الوصايا والمَواعِظُ والتَّأديباتُ... وكَيف يُنكَرُ هذا في حَقِّ الآدَميِّ، وتَغييرُ خَلقِ البَهيمةِ مُمكِنٌ؟! إذ يُنقَلُ البازي منَ الاستيحاشِ إلى الأُنسِ، والكَلبُ من شَرَهِ الأكلِ إلى التَّأدُّبِ والإمساكِ والتَّخليةِ، والفرَسُ منَ الجِماحِ إلى السَّلاسةِ والانقيادِ، وكُلُّ ذلك تَغييرٌ للأخلاقِ)
[58]((إحياء علوم الدين)) (3/ 55). .