رابعًا: صُوَرُ الأمانةِ ومَظاهِرُها
هناك مجالاتٌ وصُوَرٌ تدخُلُ فيها الأمانةُ، وهي كثيرةٌ؛ فــ (الأمانةُ بابٌ واسِعٌ جِدًّا، وأصلُها أمرانِ:
أمانةٌ في حقوقِ اللهِ: وهي أمانةُ العبدِ في عباداتِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وأمانةٌ في حقوقِ البَشَرِ)
[850] يُنظَر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/463). . وفيما يلي تفصيلُ ما يدخُلُ تحتَهما مِن صُوَرٍ:
1- الأمانةُ فيما افترضه اللهُ على عبادِه:فمن الأمانةِ: (ما ائتَمَنه اللهُ على عبادِه من العباداتِ التي كلَّفهم بها؛ فإنَّها أمانةٌ ائتمَن اللهُ عليها العبادَ)
[851] يُنظَر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/462). .
2- الأمانةُ في الأموالِ: (ومن الأمانةِ: العِفَّةُ عمَّا ليس للإنسانِ به حَقٌّ من المالِ، وتأديةُ ما عليه من حَقٍّ لذَوَيه، وتأديةُ ما تحتَ يَدِه منه لأصحابِ الحَقِّ فيه، وتدخُلُ في البُيوعِ والدُّيونِ والمواريثِ، والودائِعِ والرُّهونِ والعواريِّ والوصايا، وأنواعِ الوِلاياتِ الكُبرى والصُّغرى، وغيرِ ذلك)
[852] يُنظَر: ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/595). .
قال
ابنُ عُثَيمين: (ومنها الأمانةُ الماليَّةُ، وهي: الودائِعُ التي تُعطى للإنسانِ ليحفَظَها لأهلِها، وكذلك الأموالُ الأُخرى التي تكونُ بيَدِ الإنسانِ لمصلحتِه، أو مصلحتِه ومصلحةِ مالِكِها، وذلك أنَّ الأمانةَ التي بيَدِ الإنسانِ إمَّا أن تكونَ لمصلحةِ مالِكِها، أو لمصلحةِ مَن هي بيَدِه، أو لمصلحتِهما جميعًا؛ فأمَّا الأوَّلُ: فالوديعةُ تجعَلُها عندَ شخصٍ، تقولُ -مثلًا-: هذه ساعتي عندَك، احفَظْها لي. أو: هذه دراهِمُ، احفَظْها لي. وما أشبَهَ ذلك، فهذه وديعةٌ المودَعُ فيها بَقِيَت عنده لمصلحةِ مالِكِها، وأمَّا التي لمصلحةِ مَن هي بيَدِه فالعاريَّةُ: يعطيك شخصٌ شيئًا يُعِيرك إيَّاه من إناءٍ أو فِراشٍ أو ساعةٍ أو سيَّارةٍ، فهذه بَقِيَت في يَدِك لمصلحتِك، وأمَّا التي لمصلحةِ مالِكِها ومَن هي بيَدِه: فالعَينُ المُستأجَرةُ، فهذه مصلحتُها للجميعِ؛ استأجَرْتَ مني سيارةً وأخَذْتَها، فأنت تنتَفِعُ بها في قضاءِ حاجتِك، وأنا أنتَفِعُ بالأجرةِ، وكذلك البيتُ والدُّكَّانُ وما أشبَهَ ذلك، كلُّ هذه من الأماناتِ)
[853] ((شرح رياض الصالحين)) (2/462). .
3- الأمانةُ في الأعراضِ: فمِن الأمانةِ في الأعراضِ: العِفَّةُ عمَّا ليس للإنسانِ فيه حقٌّ منها، وكَفُّ النَّفسِ واللِّسانِ عن نَيلِ شَيءٍ منها بسُوءٍ، كالقَذفِ والغِيبةِ.
4- الأمانةُ في الأجسامِ والأرواحِ:فمن الأمانةِ في الأجسامِ والأرواحِ: كَفُّ النَّفسِ واليَدِ عن التَّعرُّضِ لها بسوءٍ؛ من قَتلٍ أو جَرحٍ، أو ضُرٍّ أو أذًى.
5- الأمانةُ في المعارِفِ والعلومِ:فمن الأمانةِ في المعارِفِ والعلومِ تأديتُها دونَ تحريفٍ أو تغييرٍ، ونسبةُ الأقوالِ إلى أصحابِها، وعدَمُ انتحالِ الإنسانِ ما لغَيرِه منها.
6- الأمانةُ في الوِلايةِ:فمِن الأمانةِ في الوِلايةِ: تأديةُ الحُقوقِ إلى أهلِها، وإسنادُ الأعمالِ إلى مُستَحِقِّيها الأكْفاءِ لها، وحِفظُ أموالِ النَّاسِ وأجسامِهم وأرواحِهم وعقولِهم، وصيانتُها ممَّا يؤذيها أو يَضُرُّ بها، وحِفظُ الدِّينِ الذي ارتضاه اللهُ لعبادِه من أن ينالَه أحَدٌ بسُوءٍ، وحِفظُ أسرارِ الدَّولةِ وكُلِّ ما ينبغي كِتمانُه من أن يُسَرَّبَ إلى الأعداءِ، إلى غيرِ ذلك من أمورٍ
[854] من رقم 3 إلى 6، منقول من كتاب ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/595). .
وإذا تعيَّن رجُلانِ أحَدُهما أعظَمُ أمانةً، والآخَرُ أعظَمُ قُوَّةً؛ قُدِّم أنفَعُهما لتلك الوِلايةِ. قال
ابنُ تيميَّةَ: (واجتِماعُ القُوَّةِ والأمانةِ في النَّاسِ قليلٌ... فالواجِبُ في كُلِّ ولايةٍ الأصلَحُ بحسَبِها، فإذا تعيَّن رجلانِ أحَدُهما أعظَمُ أمانةً، والآخَرُ أعظَمُ قُوَّةً؛ قُدِّم أنفَعُهما لتلك الولايةِ وأقَلُّهما ضررًا فيها، فيُقَدَّمُ في إمارةِ الحُروبِ الرَّجُلُ القَويُّ الشُّجاعُ وإن كان فيه فُجورٌ، على الرَّجُلِ الضَّعيفِ العاجِزِ وإن كان أمينًا، كما سُئِل
الإمامُ أحمدُ عن الرَّجُلينِ يكونانِ أميرَينِ في الغَزْوِ، وأحَدُهما قويٌّ فاجِرٌ، والآخَرُ صالحٌ ضعيفٌ، مع أيِّهما يُغزى؟ فقال: أمَّا الفاجِرُ القَويُّ فقُوَّتُه للمُسلِمين، وفجورُه على نَفسِه، وأمَّا الصَّالحُ الضَّعيفُ فصلاحُه لنَفسِه، وضَعفُه على المُسلِمين، فيُغزى مع القَويِّ الفاجِرِ، وقد قال النَّبيُّ:
((إنَّ اللهَ يؤيِّدُ هذا الدِّينَ بالرَّجُلِ الفاجِرِ)) [855] أخرجه البخاري (3062)، ومسلم (111) واللفظ له، من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. . وإنْ لم يكُنْ فاجِرًا كان أَولى بإمارةِ الحَربِ ممَّن هو أصلَحُ منه في الدِّينِ، إذا لم يَسُدَّ مسَدَّه)
[856] يُنظَر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/254- 255). .
7– الأمانةُ في الشَّهادةِ:وتكونُ الأمانةُ في الشَّهادةِ بتحَمُّلِها بحسَبِ ما هي عليه في الواقِعِ، وبأدائِها دونَ تحريفٍ أو تغييرٍ، أو زيادةٍ أو نقصانٍ.
8 - الأمانةُ في القضاءِ:وتكونُ الأمانةُ في القضاءِ بإصدارِ الأحكامِ وَفْقَ أحكامِ العَدلِ التي استؤمِنَ القاضي عليها، وفُوِّض الأمرُ فيها إليه.
9- الأمانةُ في الكتابةِ:وتكون الأمانةُ في الكتابةِ بأن تكونَ على وَفقِ ما يُمليه مُملِيها، وعلى وَفقِ الأصلِ الذي تُنسَخُ عنه، فلا يكونُ فيها تغييرٌ ولا تبديلٌ، ولا زيادةٌ ولا نقصٌ، وإذا كانت من إنشاءِ كاتِبِها فالأمانةُ فيها أن تكونَ مضامينُها خاليةً من الكَذِبِ والتَّلاعُبِ بالحقائِقِ، إلى غيرِ ذلك.
10- الأمانةُ في الأسرارِ التي يُستأمَنُ الإنسانُ على حِفظِها وعَدَمُ إفشائِها:وتكونُ الأمانةُ فيها بكِتمانِها
[857] من رقم 7 إلى 10، منقول من كتاب ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/595). .
(ومن الأماناتِ ما يكونُ بَينَ الرَّجُلِ وصاحِبِه من الأمورِ الخاصَّةِ التي لا يحِبُّ أن يطَّلِعَ عليها أحَدٌ؛ فإنَّه لا يجوزُ لصاحبِه أن يخبِرَ بها... ومن ذلك أيضًا ما يكونُ بَينَ الرَّجُلِ وبَينَ زَوجتِه من الأشياءِ الخاصَّةِ؛ فإنَّ شَرَّ النَّاسِ منزلةً عِندَ اللهِ تعالى يومَ القيامةِ الرَّجُلُ يُفضي إلى امرأتِه وتُفضي إليه، ثمَّ يَروحُ يَنشُرُ سِرَّها، ويتحَدَّثُ بما جرى بينَهما)
[858] يُنظَر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/464). .
11- الأمانةُ في الرِّسالاتِ:وتكونُ الأمانةُ فيها بتبليغِها إلى أهلِها تامَّةً غيرَ منقوصةٍ ولا مزادٍ عليها، وعلى وَفقِ رغبةٍ مُحمِّلِها، سواءٌ أكانت رسالةً لفظيَّةً أم كتابيَّةً أم عَمَليَّةً
[859] يُنظَر: ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/595). .
12– الأمانةُ في السَّمعِ والبَصَرِ وسائِرِ الحواسِّ:وتكونُ الأمانةُ فيها بكَفِّها عن العُدوانِ على أصحابِ الحُقوقِ، وبحِفظِها عن معصيةِ اللهِ فيها، وبتوجيهِها للقيامِ بما يجِبُ فيها من أعمالٍ؛ فاستِراقُ السَّمعِ خيانةٌ، واستِراقُ النَّظَرِ إلى ما لا يحِلُّ النَّظَرُ إليه خيانةٌ، واستِراقُ اللَّمسِ المحَرَّمِ خيانةٌ
[860] يُنظَر: ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/595). .
(ومن معاني الأمانةِ أن تنظُرَ إلى حواسِّك التي أنعم اللهُ بها عليك، وإلى المواهِبِ التي خصَّك بها، وإلى ما حُبِيتَ من أموالٍ وأولادٍ، فتُدرِكَ أنَّها ودائِعُ اللهِ الغاليةُ عندَك، فيَجِبُ أن تُسَخِّرَها في قُرُباتِه، وأن تستخدِمَها في مَرضاتِه)
[861] يُنظَر: ((خلق المسلم)) للغزالي (ص: 44). .
13- الأمانةُ في النُّصحِ والمشورةِ:ومِن صُوَرِ الأمانةِ أن تنصَحَ من استشارك، وأن تَصدُقَ مَن وَثِق برأيِك؛ فإذا عرَض عليك أحَدٌ من النَّاسِ موضوعًا مُعَيَّنًا، وطلَب منك الرَّأيَ والمشورةَ والنَّصيحةَ، فاعلَمْ أنَّ إبداءَ رأيِك له أمانةٌ، فإذا أشَرْتَ عليه بغيرِ الرَّأيِ الصَّحيحِ فذلك خيانةٌ
[862] يُنظَر: ((الأخلاق الإسلامية)) لحسن المرسي (ص: 181). .
وقد قال الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((المُستَشارُ مُؤتَمَنٌ)) [863] أخرجه أبو داود (5128)، والترمذي (2822)، وابن ماجه (3745) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5128)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1419)، وحَسَّنه الترمذي، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5128)، وقال ابن باز في ((الفوائد العلمية)) (6/157): (لا بأسَ بإسنادِه؛ فهو صحيحٌ، وهو جَيِّدٌ). .
14- الأمانةُ في تربيةِ الأولادِ:(إنَّ تربيةَ الأولادِ وتهذيبَهم وتعليمَهم أمورَ الدُّنيا والدِّينِ أمانةٌ يجِبُ أداؤُها؛ فتوجيهُ الأولادِ للمعالي، وتربيتُهم على الفضيلةِ، وتعويدُهم على البِرِّ والأخلاقِ الحميدةِ وطَلَبِ الرِّزقِ من وجوهِ الحلالِ، وتعليمُهم الصَّلاةَ والصِّيامَ والزَّكاةَ: أمانةٌ؛ فاللهُ جَلَّ وعلا يقولُ:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] ، وقد أوضَح النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم أمانةَ تربيةِ الأولادِ في قولِه:
((ألا كُلُّكم راعٍ وكُلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه ... إلخ)) [864] رواه البخاري (893)، ومسلم (1829). الحديث)
[865] ((صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال)) للقاضي حسين (1/ 527). . وقال
ابنُ عُمَرَ لرجُلٍ: (أدِّبِ ابنَك؛ فإنَّك مسؤولٌ عن ولَدِك: ماذا أدَّبْتَه؟ وماذا عَلَّمْتَه؟ وإنَّه مسؤولٌ عن بِرِّك وطواعيَتِه لك)
[866] أخرجه البيهقي في ((السنن الكبرى)) (3/ 120). . وقال
الغزاليُّ: (والصَّبيُّ أمانةٌ عِندَ والِدَيه)
[867] ((إحياء علوم الدين)) (3/ 72). .
15- أمانةُ كُلِّ إنسانٍ في عَمَلِه: (فالتَّاجِرُ يجِبُ أن يكونَ أمينًا، والزَّارعُ فيما يزرَعُ ويحصُدُ يجبُ أن يكونَ أمينًا، والصَّانِعُ فيما يصنَعُ ويُبدِعُ يجِبُ أن يكونَ أمينًا، والعالِمُ فيما يعلَمُ ويُنتِجُ يجِبُ أن يكونَ أمينًا، والموظَّفُ فيما يَعمَلُه ويؤَدِّيه يجِبُ أن يكونَ أمينًا، والمؤذِّنُ أمينٌ مُؤتَمَنٌ)
[868] ((صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال)) للقاضي حسين (1/ 516). .