ب- مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ
1- عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ من أشَرِّ النَّاسِ عندَ اللهِ مَنزِلةً يومَ القيامةِ الرَّجُلُ يُفضي إلى امرأتِه وتُفضي إليه، ثمَّ يَنشُرُ سِرَّها)) [797] رواه مسلم (1437). .
قال
المُناويُّ: (ثمَّ يَنشُرُ سِرَّها: أي: يَبُثُّ ما حَقُّه أن يُكتَمَ من الجِماعِ ومُقَدِّماتِه ولواحِقِه، فيَحرُمُ إفشاءُ ما يَجري بَينَ الزَّوجَينِ من الاستِمتاعِ، ووَصفُ تفاصيلِ ذلك بقَولٍ أو فِعلٍ)
[798] يُنظر: ((فيض القدير)) (2/538). .
وقال
النَّوويُّ: (في هذا الحديثِ تحريمُ إفشاءِ الرَّجُلِ ما يجري بَينَه وبَينَ امرأتِه من أمورِ الاستمتاعِ، ووَصفِ تفاصيلِ ذلك، وما يجري من المرأةِ فيه من قَولٍ أو فِعلٍ ونحوِه، فأمَّا مجرَّدُ ذِكرِ الجماعِ فإنْ لم تكُنْ فيه فائدةٌ ولا إليه حاجةٌ فمَكروهٌ؛ لأنَّه خِلافُ المروءةِ، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من كان يؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيَقُلْ خَيرًا أو ليَصْمُتْ)) [799] أخرجه البخاري (6018)، ومسلم (47) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. وأخرجه البخاري (6019)، ومسلم (48) من حديثِ أبي شُرَيحٍ العَدَويِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وإن كان إليه حاجةٌ أو ترتَّب عليه فائدةٌ بأن يُنكِرَ عليه إعراضَه عنها، أو تدَّعي عليه العَجزَ عن الجِماعِ، أو نحوَ ذلك؛ فلا كراهةَ في ذِكْرِه، كما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنِّي لأفعَلُه أنا وهذه)) [800] أخرجه مسلم (350) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها بلفظ: ((إنِّي لأفعَلُ ذلك أنا وهذه ثمَّ نغتَسِلُ)). ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي طَلحةَ:
((أعرَّسْتُم [801] هو كنايةٌ عن الجِماعِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (14/ 124). اللَّيلةَ؟)) [802] أخرجه البخاري (5470)، ومسلم (2144) من حديثِ أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. . وقال ل
جابرٍ:
((الكَيْسَ الكَيْسَ)) [803] أخرجه البخاري (5245)، ومسلم (715) من حديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. )
[804] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (10/8). .
2- وعن
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت:
((إنَّا كُنَّا- أزواجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عندَه جميعًا، لم تغادِرْ منَّا واحِدةٌ، فأقبَلَت فاطِمةُ تمشي، لا واللهِ ما تَخفى مِشْيَتُها من مِشْيةِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا رآها رَحَّب، قال: مَرحَبًا بابنَتي. ثمَّ أجلَسَها عن يمينِه -أو عن شمالِه- ثمَّ سارَّها، فبَكَت بكاءً شديدًا، فلمَّا رأى حُزنَها سارَّها الثَّانيةَ، فإذا هي تَضحَكُ، فقُلتُ لها، أنا مِن بَينِ نسائِه: خَصَّكِ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالسِّرِّ مِن بَينِنا، ثمَّ أنتِ تَبكِينَ، فلمَّا قام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سألتُها: عمَّا سارَّكِ؟ قالت: ما كُنتُ لأفُشِيَ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سِرَّه. فلمَّا توُفِّيَ قُلتُ لها: عزَمْتُ عليكِ بما لي عليكِ مِن الحَقِّ لَمَا أخبَرْتِني. قالت: أمَّا الآنَ فنَعَم. فأخبَرَتْني، قالت: أمَّا حينَ سارَّني في الأمرِ الأوَّلِ فإنَّه أخبَرَني أنَّ جِبريلَ كان يُعارِضُه بالقُرآنِ كُلَّ سَنةٍ مَرَّةً، وإنَّه قد عارَضَني به العامَ مَرَّتين، ولا أرى الأجَلَ إلَّا قد اقتَرَب، فاتَّقي اللهَ واصبِري، فإنِّي نِعْمَ السَّلَفُ أنا لك! قالت: فبَكَيت بكائي الذي رأيتِ، فلمَّا رأى جَزَعي سارَّني الثَّانيةَ، قال: يا فاطِمةُ، ألَا تَرضَينَ أن تكوني سَيِّدةَ نساءِ المؤمِنين، أو سَيِّدةَ نساءِ هذه الأمَّةِ؟!)) [805] أخرجه البخاري (6285، 6286) واللفظ له، ومسلم (2450). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (وفيه: أنَّه لا ينبغي إفشاءُ السِّرِّ إذا كانت فيه مَضَرَّةٌ على المُسِرِّ؛ لأنَّ
فاطِمةَ لو أخبَرَت نساءَ النَّبيِّ ذلك الوَقتَ بما أخبرَها به النَّبيُّ من قُربِ أجَلِه، لحَزِنَ لذلك حُزنًا شديدًا، وكذلك لو أخبَرَتهنَّ أنَّها سَيِّدةُ نِساءِ المؤمِنين لَعَظُمَ ذلك عليهِنَّ، واشتَدَّ حُزنُهنَّ، فلمَّا أَمِنَت ذلك
فاطِمةُ بَعدَ مَوتِه أخبَرَت بذلك)
[806] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (9/61). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (فيه جَوازُ إفشاءِ السِّرِّ إذا زال ما يترتَّبُ على إفشائِه من المَضَرَّةِ؛ لأنَّ الأصلَ في السِّرِّ الكِتمانُ، وإلَّا فما فائِدتُه)
[807] يُنظر: ((فتح الباري)) (11/80). .
3- وعن
ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: حينَ تأيَّمَت
[808] أي: صارت غيرَ ذاتِ زوجٍ بموتِ زَوجِها عنها. يُنظر: ((شرح صحيح البخارى)) لابن بطال (7/ 232). حَفصةُ قال عُمَرُ: لَقِيتُ
أبا بكرٍ فقُلتُ: (إنْ شِئتَ أنكَحْتُك
حفصةَ بنتَ عُمَرَ، فلَبِثْتُ لياليَ ثمَّ خَطَبها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَقِيني
أبو بكرٍ فقال: إنَّه لم يمنَعْني أن أَرجِعَ إليك فيما عَرَضْتَ إلَّا أنِّي قد عَلِمْتُ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد ذكَرَها، فلم أكُنْ لأفشِيَ سِرَّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولو تَرَكها لقَبِلْتُها)
[809] أخرجه البخاري (5145). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (وفيه أنَّ مَن حَلَف لا يُفشي سِرَّ فُلانٍ، فأفشى فلانٌ سِرَّ نَفسِه، ثمَّ تحَدَّث به الحالِفُ؛ لا يحنَثُ؛ لأنَّ صاحِبَ السِّرِّ هو الذي أفشاه، فلم يكُنِ الإفشاءُ من قِبَلِ الحالِفِ، وهذا بخلافِ ما لو حدَّث واحِدٌ آخَرَ بشَيءٍ واستحلَفَه ليَكتُمَه، فلَقِيَه رجلٌ فذَكَر له أنَّ صاحِبَ الحديثِ حَدَّثه بمِثلِ ما حدَّثه به، فأظهَرَ التَّعجُّبَ، وقال: ما ظنَنْتُ أنَّه حَدَّث بذلك غيري! فإنَّ هذا يحنَثُ؛ لأنَّ تحليفَه وقع على أنَّه يَكتُمُ أنَّه حَدَّثه، وقد أفشاه)
[810] يُنظر: ((فتح الباري)) (9/178). .
4- وعن
عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أربَعٌ مَن كُنَّ فيه كان منافِقًا خالِصًا، ومن كانت فيه خَصلةٌ منهُنَّ كانت فيه خَصلةٌ من النِّفاقِ حتى يَدَعَها: إذا اؤتُمِنَ خان، وإذا حدَّث كذَب، وإذا عاهَد غدَر، وإذا خاصَم فَجَر)) [811] أخرجه البخاري (34) واللفظ له، ومسلم (58) .
قوله:
((وإذا اؤتُمِنَ خان)) أي: فيما جُعِل أمينًا عليه، ومن ذلك حِفظُ الأسرارِ وعَدَمُ إفشائِها.
5- عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
((بعثني رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنا والزُّبَيرُ، والمقدادُ بنُ الأسوَدِ، قال: انطَلِقوا حتى تأتوا روضةَ خاخٍ [812] مَوضِعٌ بيْن مكَّةَ والمدينةِ بقُربِ المدينةِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/4012). ؛ فإنَّ بها ظَعينةً [813] الظَّعينةُ: المرأةُ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 151). ، ومعها كتابٌ فخُذوه منها، فانطلَقْنا تَعادى بنا خيلُنا حتى انتَهَينا إلى الرَّوضةِ، فإذا نحن بالظَّعينةِ، فقُلْنا: أخرجي الكتابَ، فقالت: ما معي من كتابٍ، فقُلْنا: لتُخرِجِنَّ الكتابَ أو لنُلقِيَنَّ الثيابَ، فأخرجَتْه من عِقاصِها [814] عِقاصِها: أي: الخَيطِ الَّذي يُعتقَصُ به أطرافُ الذَّوائبِ، أو الشَّعرِ المضفورِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (6/387). ، فأتينا به رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإذا فيه: مِن حاطِبِ بنِ أبي بلتعةَ إلى أُناسٍ من المشركين مِن أهلِ مكَّةَ يخبِرُهم ببعضِ أمرِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا حاطِبُ، ما هذا؟! قال: يا رَسولَ اللهِ، لا تعجَلْ عليَّ، إنِّي كنتُ امرَأً مُلصَقًا في قريشٍ، ولم أكُنْ من أنفُسِها، وكان مَن معك من المهاجِرين لهم قراباتٌ بمكَّةَ يحمون بها أهليهم وأموالَهم، فأحببتُ إذْ فاتني ذلك من النَّسَبِ فيهم أن أتخِذَ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلتُ كُفرًا ولا ارتدادًا، ولا رِضًا بالكُفرِ بعد الإسلامِ، فقال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لقد صدَقَكم، قال عُمَرُ: يا رسولَ اللهِ، دَعْني أضرِبْ عُنُقَ هذا المنافِقِ! قال: إنَّه قد شهد بدرًا، وما يُدريك لعلَّ اللهَ أن يكونَ قد اطَّلع على أهلِ بَدرٍ فقال: اعمَلوا ما شئتمُ، فقد غفرتُ لكم)) [815] أخرجه البخاري (3007) .
وهذا من خصائِصِ أهلِ بَدرٍ؛ أنَّ اللهَ غَفَر لهم ما يَفعَلون من الذُّنوبِ، وإلَّا فإنَّ حاطِبًا رَضِيَ اللهُ عنه فَعَل ذَنبًا عظيمًا، فمَن يَكتُبْ إلى أعدائِنا بأخبارِنا فعلى وَلِيِّ الأمرِ أن يقتُلَه ولو كان مسلِمًا، ومَنَع مِن ذلك في هذه القِصَّةِ مانِعٌ، وهو أنَّ حاطِبًا كان من أهلِ بَدرٍ
[816] ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/ 71، 72). .