ب- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ
ورَد في السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ بعضُ الأحاديثِ فيها النَّهيُ عن الثَّرثَرةِ على سبيلِ الإشارةِ والتَّشنيعِ على الثَّرثارين؛ منها على سبيلِ المثالِ:
- عن
جابِرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ مِن أحَبِّكم إليَّ وأقرَبِكم منِّي مجلِسًا يومَ القيامةِ أحاسِنَكم أخلاقًا، وإنَّ أبغَضَكم إليَّ وأبعَدَكم منِّي يومَ القيامةِ الثَّرثارون والمتَشَدِّقون والمُتفَيهِقون. قالوا: يا رسولَ اللهِ، قد عَلِمْنا الثَّرثارون والمتَشَدِّقون، فما المُتفَيهِقون؟ قال: المُتكَبِّرون)) [2059] أخرجه الترمذي (2018) واللفظ له، والخرائطي في ((مساوئ الأخلاق)) (59)، والطبراني في ((مكارم الأخلاق)) (6). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2018)، وقال الترمذي: حسَنٌ غريبٌ، وحَسَّن إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((رياض الصالحين)) (1738). وأخرجه أحمد (17732)، وابن حبان (5557)، والبيهقي (21320) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي ثعلبةَ الخُشَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابن حبان، والبوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (6/11)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (1535)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (5557). .
قال
ابنُ الأثيرِ: الثَّرثارون: هم الذين يُكثِرون الكلامَ تكَلُّفًا وخروجًا عن الحَقِّ. والثَّرثَرةُ: كثرةُ الكلامِ وترديدُه. المتشَدِّقون: المتوسِّعون في الكلامِ من غيرِ احتياطٍ واحترازٍ. وقيل: أراد بالمتشَدِّقِ: المُستهزِئَ بالنَّاسِ يلوي شِدْقَه بهم وعليهم.
المُتفَيهِقون: هم الذين يتوسَّعون في الكلامِ ويفتَحون به أفواهَهم، مأخوذٌ من الفَهْقِ، وهو الامتلاءُ والاتِّساعُ. يقال: أفهَقْتُ الإناءَ ففَهِقَ يَفهَقُ فَهْقًا
[2060] يُنظَر: ((النهاية)) (1/ 209) (2/ 453) (3/ 482). .
وقيل: الثَّرثارون: (مُكثِرو الكلامِ خَطَأً أو صوابًا، حَقًّا أو باطلًا، بحيثُ لا يميِّزُ الجَيِّدَ من الرَّديءِ، ويتكَلَّفُ رِياءً وعُجبًا)
[2061] ((بريقة محمودية)) لأبي سعيد الخادمي (4/ 30). .
- عن
عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما قال:
((قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ يُبغِضُ البليغَ من الرِّجالِ، الذي يتخَلَّلُ بلسانِه تخَلُّلَ الباقِرةِ بلِسانِها)) [2062] أخرجه أبو داود (5005) واللفظ له، والترمذي (2853)، وأحمد (6543). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5005)، وقال الترمذي: (حسنٌ غريبٌ من هذا الوجهِ)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/53)، وحسَّنه ابنُ باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (303)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5005). .
((تخَلُّلَ الباقِرةِ بلِسانِها)) شَبَّه إدارةَ لسانِه حولَ الأسنانِ والفَمِ حالَ التَّكَلُّمِ تفاصُحًا بما تفعَلُ البَقَرةُ بلِسانِها، والباقِرةُ: جماعةُ البَقَرِ، وهو الذي يتشَدَّقُ في الكلامِ، ويُفخِّمُ به لسانَه، ويَلُفُّه كما تَلُفُّ البَقَرةُ بلِسانِها لَفًّا
[2063] يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/ 3020). ، (فالمَرْضيُّ من الكلامِ أن يكونَ قَدْرَ الحاجةِ غيرَ زائدٍ عليها، يوافِقُ ظاهِرُه باطِنَه)
[2064] ((شرح المصابيح)) لابن الملك (5/ 230). .
- عن كاتِبِ المُغيرةِ بنِ شُعبةَ قال: كتَب
معاويةُ رَضِيَ اللَّهُ عنه إلى المغيرةِ بنِ شُعبةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه: أنِ اكتُبْ إليَّ بشَيءٍ سَمِعتَه من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكتَب إليه: سمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ:
((إنَّ اللهَ كَرِهَ لكم ثلاثًا: قِيلَ وقال، وإضاعةَ المالِ، وكَثرةَ السُّؤالِ)) [2065] أخرجه البخاري (1477)، ومسلم (593). .
قال
ابنُ عُثَيمين: («كَرِه لكم قِيلَ وقال» يعني: نَقلَ الكلامِ، وكثرةَ ما يتكَلَّمُ الإنسانُ ويُثرثِرُ به، وأن يكونَ ليس له همٌّ إلَّا الكلامُ في النَّاسِ، قالوا كذا وقيل كذا، ولا سيَّما إذا كان هذا في أعراضِ أهلِ العِلمِ وأعراضِ وُلاةِ الأمورِ؛ فإنَّه يكونُ أشَدَّ وأشَدَّ كراهةً عِندَ اللهِ عزَّ وجَلَّ)
[2066] ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 211). .
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن كان يؤمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخِرِ فلْيَقُلْ خَيرًا أو لِيَصمُتْ)) [2067] أخرجه البخاري (6018)، ومسلم (47). .
قال القاضي عِياضٌ: (أي: يَصمُتُ عن الشَّرِّ وما لا يُعنى من الكلامِ، وقد تكونُ الواوُ للتَّقسيمِ، أي: يقولُ الخَيرُ ويَشغَلُ به لسانَه فيُؤجَرُ ويَغنَمُ، فإنْ لم يفعَلْ هذا فلْيَصمُتْ ويَسلَمْ، وقد تكونُ «أو» هنا بمعنى الواوِ، أي: يقولُ الخيرَ ويَصمُتُ عن الشَّرِّ)
[2068] ((إكمال المعلم)) (6/23). .
وهكذا تجِدُ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعَلِّمُ أتباعَه الإعراضَ عن اللَّغوِ، ومجانبةَ الثَّرثَرةِ والهَذَرِ
[2069] يُنظَر: ((خلق المسلم)) لمحمد الغزالي (ص: 7). .
عن
عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ أبغَضَ الرِّجالِ إلى اللَّهِ الألَدُّ الخَصِمُ)) [2070] رواه البخاري (3178)، ومسلم (58). .
قولُه:
((الأَلَدُّ الخَصِمُ)) يحتَمِلُ أن يكونَ المرادُ الشَّديدَ الخصومةِ؛ فإنَّ الخَصِمَ من صِيَغِ المبالغةِ، فيَحتَمِلُ الشِّدَّةَ، ويحتَمِلُ الكَثرةَ
[2071] ((فتح الباري)) لابن حجر (13/ 180). .
(والحديثُ بإطلاقِه يَشمَلُ من يخاصِمُ في باطِلٍ أو يجادِلُ بغيرِ عِلمٍ، كالمحامين الذين لم يَدرُسوا القضيَّةَ أو دَرَسوها وعَرَفوا باطِلَها، ودافَعوا فيها، وكالجَدَليِّين الذين يحامون عن الآراءِ الباطِلةِ والعقائِدِ الزَّائغةِ، حتَّى يَضِلَّ بهم العامَّةُ أو ذوو العُقولِ الصَّغيرةِ، سواءٌ كان ذلك بالتَّأليفِ أو بالحديثِ في المجالسِ، ويدخُلُ في الذَّمِّ مَن يخاصِمُ في الحَقِّ، ويتجاوَزُ في الخصومةِ قَدْرَ الحاجةِ، فيَسُبُّ ويَكذِبُ لإيذاءِ خَصمِه، أو يخاصِمُه عِنادًا ليَقهَرَه ويُذِلَّه)
[2072] ((الأدب النبوي)) للخولي (ص: 200). .
و(هناك أُناسٌ أوتوا بَسطةً في ألسِنَتِهم، تُغريهم بالاشتباكِ مع العالِمِ والجاهِلِ، وتجعَلُ الكلامَ لديهم شَهوةً غالبةً، فهم لا يَمَلُّونه أبَدًا. وهذا الصِّنفُ إذا سَلَّط ذلاقَتَه على شُؤونِ النَّاسِ أساء، وإذا سَلَّطها على حقائِقِ الدِّينِ شَوَّه جمالَها وأضاع هيبتَها. وقد سَخِط الإسلامُ أشَدَّ السَّخَطِ على هذا الفريقِ الثَّرثارِ المتقَعِّرِ. قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ أبغَضَ الرِّجالِ إلى اللَّهِ الألَدُّ الخَصِمُ)) [2073] أخرجه البخاري (2457)، ومسلم (2668) من حديثِ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها. ... هذا الصِّنفُ لا يَقِفُ ببَسطةِ لِسانِه عِندَ حَدٍّ، إنَّه يريدُ الكلامَ فحَسْبُ، يريدُ أن يباهيَ به ويَستطيلَ، إنَّ الألفاظَ تأتي في المرتبةِ الأولى، والمعاني في المرتبةِ الثَّانيةِ، أمَّا الغَرَضُ النَّبيلُ فرُبَّما كان له موضوعٌ أخيرٌ، ورُبَّما عزَّ له موضِعٌ وَسْطَ هذا الصَّخَبِ!)
[2074] ((خلق المسلم)) لمحمد الغزالي (ص: 84). .