حادِيَ عَشَرَ: حُكمُ سَماعِ الغِيبةِ ومَوقِفُ السَّلَفِ والعُلَماءِ من المُغتابينَ
حُكمُ سَماعِ الغِيبةِ:إنَّ سَماعَ الغِيبةِ والاستماعَ إليها لا يجوزُ؛ فقائِلُ الغِيبةِ وسامِعُها في الإثمِ سَواءٌ.
قال
النَّوويُّ: (اعلَمْ أنَّ الغِيبةَ كما يَحرُمُ على المغتابِ ذِكْرُها، يَحرُمُ على السَّامِعِ استِماعُها وإقرارُها؛ فيَجِبُ على مَن سَمِع إنسانًا يبتدئُ بغِيبةٍ مُحرَّمةٍ أن ينهاه إنْ لم يَخَفْ ضررًا ظاهِرًا، فإن خافه وجَب عليه الإنكارُ بقَلبِه، ومُفارقةُ ذلك المجلِسِ إن تمكَّنَ من مفارقتِه، فإنْ قَدَر على الإنكارِ بلِسانِه، أو على قَطعِ الغِيبةِ بكلامٍ آخَرَ، لَزِمه ذلك، إن لم يفعَلْ عصى)
[5659] ((الأذكار)) (ص: 339). .
وجاء في فتاوى اللَّجنةِ الدَّائمةِ إجابةً عن سؤالِ حُكمِ سَماعِ الغِيبةِ: (سماعُ الغِيبةِ محرَّمٌ؛ لأنَّه إقرارٌ للمُنكَرِ، والغِيبةُ كبيرةٌ من كبائرِ الذُّنوبِ، يجِبُ إنكارُها على مَن يَفعَلُها)
[5660] ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (26/18). .
قال الشَّاعِرُ:
فالسَّامِعُ الذَّمِّ شريكٌ له
ومُطعِمِ المأكولِ كالآكِلِ
وقال آخر:
وسَمْعَك صُنْ عن سَماعِ القَبيحِ
كصَونِ اللِّسانِ عن القَولِ بِهْ
فإنَّك عِندَ استماعِ القَبيحِ
شريكٌ لقائِلِهِ فانتَبِهْ
[5661] ((روضة العقلاء)) لابن حبان البستي (1/170). وقال
أبو حامِدٍ الغَزاليُّ: (وأمَّا الأذُنُ فاحفَظْها عن أن تُصغيَ بها إلى البِدعةِ أو الغِيبةِ، أو الفُحشِ، أو الخَوضِ في الباطِلِ، أو ذِكرِ مَساوئِ النَّاسِ؛ فإنَّما خُلِقَت لك لتَسمَعَ بها كلامَ اللهِ تعالى، وسُنَّةَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحِكمةَ أوليائِه، وتتوصَّلَ باستفادةِ العِلمِ بها إلى المُلكِ المُقيمِ والنَّعيمِ الدَّائمِ في جوارِ رَبِّ العالَمين. فإذا أصغَيتَ بها إلى شيءٍ من المكارِهِ صار ما كان لك عليك، وانقلَب ما كان سبَبَ فوزِك سَبَبَ هلاكِك، وهذا غايةُ الخُسرانِ. ولا تظُنَّ أنَّ الإثمَ يختَصُّ به القائِلُ دونَ المُستَمِعِ؛ فالمستَمِعُ شريكُ القائِلِ، وهو أحَدُ المُغتابين)
[5662] يُنظَر: ((بداية الهداية)) (ص: 52). .
وينبغي للمُسلِمِ أن يَذُبَّ عن عِرضِ أخيه؛ فعن عِتبانَ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وهو ممَّن شَهِد بدرًا، قال:
((كنتُ أُصَلِّي لقومي بني سالمٍ، وكان يحولُ بيني وبَيْنَهم وادٍ إذا جاءت الأمطارُ، فيَشُقُّ عَليَّ اجتيازُه قِبَلَ مَسجِدِهم، فجِئتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقُلتُ له: إنِّي أنكَرْتُ بصري، وإنَّ الوادي الذي بَيني وبَينَ قومي يسيلُ إذا جاءت الأمطارُ، فيَشُقُّ عَلَيَّ اجتيازُه، فوَدِدْتُ أنَّك تأتي فتُصَلِّي من بيتي مكانًا أتَّخِذُه مُصَلًّى، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: سأفعَلُ. فغدا عليَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه بعدَ ما اشتدَّ النَّهارُ، فاستأذن رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأذِنتُ له، فلم يجلِسْ حتَّى قال: أين تحِبُّ أن أصلِّيَ من بيتِك، فأشَرْتُ له إلى المكانِ الذي أحِبُّ أن أصَلِّيَ فيه، فقام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فكَبَّرَ وصَفَفْنا وراءَه فصَلَّى ركعتينِ، ثمَّ سَلَّم وسَلَّمْنا حينَ سَلَّم، فحبَسْتُه على خزيرٍ يَصنَعُ له، فسَمِع أهلُ الدَّارِ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بيتي، فثاب رجالٌ منهم حتَّى كَثُر الرِّجالُ في البيتِ، فقال رجُلٌ: ما فعل مالِكٌ؟ لا أراه! فقال: رجُلٌ منهم: ذاك مُنافِقٌ لا يحِبُّ اللهَ ورسولَه. فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَقُلْ ذاك، ألا تراه قال لا إلهَ إلَّا اللهُ يبتغي بذلك وَجهَ اللهِ؟ فقال: اللهُ ورَسولُه أعلَمُ. أمَّا نحن فواللهِ ما نرى وُدَّه ولا حديثَه إلَّا إلى المُنافِقين. قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فإنَّ اللهَ قد حَرَّم على النَّارِ مَن قال لا إلهَ إلَّا اللهُ يبتغي بذلك وَجهَ اللهِ)) [5663] رواه البخاري (1186) واللفظ له، ومسلم (33). .
وعن القاسِمِ بنِ عبدِ الرَّحمنِ الشَّاميِّ قال: (سَمِعتُ ابنَ أمِّ عَبدٍ يقولُ: مَن اغتيبَ عندَه مُؤمِنٌ فنصَره، جزاه اللهُ بها خيرًا في الدُّنيا والآخرةِ، ومَن اغتيبَ عندَه مُؤمِنٌ فلم ينصُرْه، جزاه اللهُ بها في الدُّنيا والآخِرةِ شَرًّا، وما التَقَم أحدٌ لُقمةً شَرًّا من اغتيابِ مُؤمِنٍ؛ إن قال فيه ما يَعلَمُ فقد اغتابه، وإن قال فيه بما لا يَعلَمُ فقد بَهَتَه)
[5664] رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (734)، وابن وهب في ((الجامع)) (311). صحَّح إسنادَه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (563). .
موقِفُ السَّلَفِ والعُلَماءِ من المُغتابينَ:- عن يحيى بنِ الحُصَينِ عن طارِقِ بنِ شِهابٍ: (أنَّ خالِدَ بنَ الوليدِ كان بينَه وبينَ
سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ كلامٌ، فذُكِر خالدٌ عِندَ سعدٍ، فقال: مَهْ
[5665] أي: اكفُفْ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 300). ! فإنَّ ما بينَنا لم يبلُغْ دِينَنا)
[5666] رواه ابنُ أبي شيبة (26048)، والطبراني (4/106) (3810) واللفظ له، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/94). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/226): رجالُه رجالُ الصَّحيحِ. .
- ومرَّ
ابنُ سِيرينَ بقومٍ، فقام إليه رجُلٌ منهم، فقال:
أبا بكرٍ، إنَّا قد نِلْنا منك فحَلِّلْنا. فقال: (إنِّي لا أُحِلُّ لك ما حَرَّم اللهُ عليك، فأمَّا ما كان إليَّ فهو لكم)
[5667] رواه أبو بكر الدِّينَوَري في ((المجالسة وجواهر العلم)) (662)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (53/213). .
- و(قال مولًى لعَمرِو بنِ عُتبةَ بنِ أبي سُفيانَ: رآني عَمرُو بنُ عُتبةَ وأنا مع رجُلٍ، وهو يقَعُ في آخَرَ، فقال: لي: وَيْلَك -ولم يَقُلْها لي قَبْلَها ولا بَعْدَها- نَزِّه سَمْعَك عن استماعِ الخَنَا كما تُنَزِّهُ لسانَك عن القولِ به؛ فإنَّ المستَمِعَ شريكُ القائِلِ، وإنَّما نَظَر إلى شَرِّ ما في وعائِه فأفرَغَه في وعائِك، ولو ردَدْتَ كَلِمةَ سَفيهٍ في فيه لسَعِدَ بها رادُّها كما شَقِيَ بها قائِلُها)
[5668] رواه ابنُ أبي الدنيا في ((ذم الغيبة والنميمة)) (111)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (46/275). .
- وكان ميمونُ بنُ سِياهٍ لا يغتابُ، ولا يَدعُ أحَدًا يغتابُ، ينهاه، فإن انتهى وإلَّا قام
[5669] رواه ابنُ أبي الدنيا في ((ذم الغيبة والنميمة)) (113)، وأبو الشيخ في ((التوبيخ والتنبيه)) (181)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (3/107). .
- وقال الأصمَعيُّ: (اغتاب رجُلٌ رجُلًا عِندَ
قُتَيبةَ بنِ مُسلِمٍ، فقال له
قُتَيبةُ: أمسِكْ أيُّها الرَّجُلُ، فواللهِ لقد تلَمَّظْتَ
[5670] تلمَّظ: إذا تتَبَّع بلِسانِه بقيَّةَ الطَّعامِ في فَمِه، وأخرج لسانَه فمَسَح به شفَتَيه. انظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 285). بمُضغةٍ طالما لفَظَها الكِرامُ)
[5671]رواه أبو بكر الدِّينَوَري في ((المجالسة وجواهر العلم)) (2172). .
- وجرى ذِكرُ رَجُلٍ في مجلِسِ ابنِ قُتَيبةَ، فنال منه بعضُهم، فأقبَلَ عليه سَلْمٌ، فقال: (يا هذا، أوحَشْتنَا من نفسِك، وأيأَسْتَنا من مودَّتِك، ودلَلْتَنا على عَورتِك)
[5672] ((البصائر والذخائر)) لأبي حيان التوحيدي (4/ 61). .
- وأتى رجُلٌ عَمرَو بنَ مَرثَدٍ فسأله أن يُكَلِّمَ له أميرَ المُؤمِنين، فوَعَده أن يفعَلَ، فلمَّا قام قال بعضُ مَن حَضَر: إنَّه ليس مُستَحِقًّا لِما وعَدْتَه. فقال عَمرٌو: (إنْ كنتَ صَدَقْتَ في وَصفِك إيَّاه فقد كذَبْتَ في ادِّعائِك مودَّتَنا؛ لأنَّه إن كان مُستَحِقًّا كانت اليَدُ مَوضِعَها، وإن لم يكُنْ مستَحِقًّا فما زِدْتَ على أن أعلَمْتَنا أنَّ لنا بمَغيبِنا عنك مِثلَ الذي حضَرْتَ به مَن غاب من إخوانِنا!)
[5673] رواه أبو بكر الدينوري في ((المجالسة وجواهر العلم)) (665). .
- واغتاب رَجُلٌ عِندَ معروفٍ الكَرْخيِّ، فقال له: (اذكُرِ القُطنَ إذا وضَعوه على عَينَيك!)
[5674] رواه ابنُ حمكان في ((الفوائد والأخبار)) (87)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (8/ 364). .
- ورُوِيَ عن
الحَسَنِ البَصريِّ أنَّ رَجُلًا قال: إنَّ فُلانًا قد اغتابك، فبعَث إليه طبقًا من الرُّطَبِ، وقال: (بلغني أنَّك أهدَيْتَ إليَّ حَسَناتِك، فأرَدْتُ أن أكافِئَك عليها، فاعذُرْني؛ فإنِّي لا أقدِرُ أن أكافِئَك بها على التَّمامِ!)
[5675] ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 164)، ((سنن الصالحين)) للباجي (ص: 586). .
- وقيل: (دُعِيَ إبراهيمُ بنُ أدهَمٍ إلى دَعوةٍ، فحَضَر، فذَكَروا رَجُلًا لم يأتِهِم، فقالوا: إنَّه ثقيلٌ. فقال إبراهيمُ: إنَّما فَعَل بي هذا نفسي؛ حيثُ حَضَرْتُ موضِعًا يُغتابُ فيه النَّاسُ! فخرج، ولم يأكُلْ ثلاثةَ أيَّامٍ)
[5676] ((الرسالة القشيرية)) لعبد الكريم القشيري (ص: 194). .
- وعن سُفيانَ بنِ حُسَينٍ قال: كنتُ عِندَ إياسِ بنِ مُعاويةَ وعِندَه رَجُلٌ تخوَّفْتُ إن قمتُ مِن عِندِه أن يَقَعَ فيَّ، فجَلَسْتُ حتَّى قام، فلمَّا قام ذكَرْتُه لإياسٍ. قال: فجَعَل ينظُرُ في وجهي فلا يقولُ لي شيئًا حتَّى فرَغْتُ، فقال لي: أغزَوتَ الدَّيلَمَ؟ قُلتُ: لا. قال: غزوتَ السِّندَ؟ قُلتُ: لا. قال: غزَوتَ الهِندَ؟ قُلتُ: لا. قال: غزَوتَ الرُّومَ؟ قُلتُ: لا. قال: فسَلِمَ منك الدَّيلَمُ والسِّندُ والهِندُ والرُّومُ، وليس يَسلَمُ منك أخوك هذا؟! فلم يَعُدْ سُفيانُ إلى ذلك
[5677] ((المعرفة والتاريخ)) ليعقوب بن سفيان (2/ 95)، ((شعب الإيمان)) للبيهقي (9/ 117، 118). .
- و(عاب رجُلٌ رجُلًا عِندَ بعضِ أهلِ العِلمِ، فقال له: قد استدلَلْتَ على كثرةِ عُيوبِك بما تكثِرُ من عُيوبِ النَّاسِ؛ لأنَّ الطَّالِبَ للعُيوبِ إنَّما يَطلُبُها بقَدْرِ ما فيه منها!)
[5678] رواه أبو بكر الدِّينَوَري في ((المجالسة وجواهر العلم)) (664). .