ب- من السُّنَّةِ النَّبويَّةِ
- عن
عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((لا يَدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ، قال رجلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يحِبُّ أن يكونَ ثوبُه حَسَنًا ونَعلُه حَسَنةً! قال: إنَّ اللهَ جميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ. الكِبْرُ: بَطَرُ الحَقِّ وغَمطُ النَّاسِ)) [5889] رواه مسلم (91). .
قال
النَّوويُّ في شرحِ الحديثِ: (قد اختُلِف في تأويلِه؛ فذكر
الخطَّابيُّ فيه وجهين:
أحدُهما: أنَّ المرادَ التَّكبُّرُ عن الإيمانِ، فصاحبُه لا يدخُلُ الجنَّةَ أصلًا إذا مات عليه.
والثَّاني: أنَّه لا يكونُ في قَلِبه كِبرٌ حالَ دُخولِه الجنَّةَ، كما قال اللهُ تعالى:
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الأعراف: 43] .
وهذان التَّأويلان فيهما بُعدٌ؛ فإنَّ هذا الحديثَ ورد في سياقِ النَّهيِ عن الكِبْرِ المعروفِ، وهو الارتفاعُ على النَّاسِ، واحتقارُهم، ودفعُ الحَقِّ، فلا ينبغي أن يُحمَلَ على هذين التَّأويلين المخرِجين له عن المطلوبِ. بل الظَّاهِرُ ما اختاره القاضي عياضٌ وغيرُه من المحَقِّقين، أنَّه لا يدخُلُ الجنَّةَ دونَ مجازاةٍ إن جازاه. وقيل: هذا جزاؤه لو جازاه، وقد يتكرَّمُ بأنَّه لا يجازيه، بل لا بُدَّ أن يدخُلَ كُلُّ الموحِّدين الجنَّةَ؛ إمَّا أوَّلًا، وإمَّا ثانيًا بعد تعذيبِ بعضِ أصحابِ الكبائرِ الذين ماتوا مُصِرِّين عليها. وقيل: لا يدخُلُ مع المتَّقين أوَّلَ وهلةٍ)
[5890] ((شرح النووي على مسلم)) (2/91). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (فسَّر النَّبيُّ الكِبْرَ بضِدِّه فقال: الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وغَمْصُ
[5891] كَلِمةُ غَمْص: روايةٌ في الحديثِ، وهي بمعنى كَلِمةِ غَمْط. يُنظَر: ((مشارق الأنوار)) (2/135). النَّاسِ. فبطَرُ الحقِّ: ردُّه وجَحدُه، والدَّفعُ في صَدرِه كدفعِ الصَّائلِ. وغَمصُ النَّاسِ: احتقارُهم وازدراؤهم. ومتى احتقرهم وازدراهم دفَع حقوقَهم وجحَدَها واستهان بها)
[5892] ((مدارج السالكين)) (2/318). .
- وعن حارثةَ بنِ وَهبٍ الخُزاعيِّ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ألا أخبرُكم بأهلِ الجنَّةِ؟ كُلُّ ضعيفٍ متضاعِفٍ لو أقسم على اللهِ لأبرَّه، ألا أخبِرُكم بأهلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ [5893] العُتُلُّ: الجافي الشَّديدُ الخصومةِ بالباطِلِ، وقيل: الجافي الفَظُّ الغليظُ. يُنظَر: ((شرح مسلم)) للنووي (17/188). جوَّاظٍ [5894] الجوَّاظُ: الجَموعُ المنوعُ، وقيل: كثيرُ اللَّحمِ المختالُ في مشيتِه، وقيل: القصيرُ البطينُ، وقيل: الفاجرُ. يُنظَر: ((شرح مسلم)) للنووي (17/188). مُستكبرٍ)) [5895] رواه البخاري (6071) واللفظ له، ومسلم (2853). .
- وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((احتجَّت النَّارُ والجنَّةُ، فقالت هذه: يدخُلُني الجبَّارون والمُتكَبِّرون! وقالت هذه: يدخُلنُي الضُّعَفاءُ والمساكينُ! فقال اللهُ عزَّ وجَلَّ لهذه: أنت عذابي أعذِّبُ بكِ من أشاء -وربَّما قال: أصيبُ بكِ من أشاءُ- وقال لهذه: أنت رحمتي أرحَمُ بكِ من أشاءُ، ولكُلِّ واحدةٍ منكما مِلؤها)) [5896] رواه البخاري (7449)، ومسلم (2846) واللفظ له. .
- و عن أبي هُرَيرةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ثلاثةٌ لا يُكَلِّمُهم اللهُ يومَ القيامةِ ولا يُزَكِّيهم ولا ينظُرُ إليهم ولهم عذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ، ومَلِكٌ كذَّابٌ، وعائِلٌ مُستكبِرٌ [5897] عائلٌ مُستكبِرٌ: أي: فقيرٌ متكَبِّرٌ. يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3190). ) [5898] رواه مسلم (107). .
يقولُ
ابنُ تَيميَّةَ: (فهؤلاء الثَّلاثةُ: اشتركوا في هذا الوعيدِ، واشتركوا في فِعلِ هذه الذُّنوبِ مع ضَعفِ دواعيهم؛ فإنَّ داعيةَ الزِّنا في الشَّيخِ ضعيفةٌ، وكذلك داعيةٌ الكَذِبِ في المَلِكِ ضعيفةٌ؛ لاستغنائه عنه، وكذلك داعيةُ الكِبْرِ في الفقيرِ، فإذا أتَوا بهذه الذُّنوبِ مع ضَعفِ الدَّاعي، دلَّ على أنَّ في نفوسِهم من الشَّرِّ الذي يستحقُّون به من الوعيدِ ما لا يستحقُّه غيرُهم)
[5899] ((مجموع الفتاوى)) (18/14). .
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((تحاجَّت الجنَّةُ والنَّارُ، فقالت النَّارُ: أُوثِرت بالمُتكَبِّرين والمتجَبِّرين...)) [5900] أخرجه البخاري (4850) ومسلم (2846). .
- وعن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((يُحشَرُ المتكَبِّرون يومَ القيامةِ أمثالَ الذَّرِّ في صورةِ الرِّجالِ، يغشاهم الذُّلُّ من كُلِّ مكانٍ، يُساقونَ إلى سِجنٍ في جهنَّمَ يُسمَّى بُولَسَ، تغشاهم نارُ الأنيارِ، يُسقَونَ من عُصارةِ أهلِ النَّارِ طينةَ الخَبالِ)) [5901] أخرجه الترمذي (2492) واللفظ له، وأحمد (6677). صحَّحه الترمذي، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2492)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/157)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6677)، وجوَّده ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/431). .
قولُه:
((بُولَس)) فُوعَلٌ من: الإبلاسِ، بمعنى: اليأسِ، ولعَلَّ هذا السِّجنَ يُسَمَّى به ليأسِ داخِلِه من الخلاصِ.
وقولُه:
((تعلوهم نارُ الأنيارِ)) جمعُ نارٍ، ومعنى
((نارُ الأنيارِ)): هو أنَّه كأنَّ هذه النَّارَ لفرطِ إحراقِها وشِدَّةِ حَرِّها تفعَلُ بسائِرِ النِّيرانِ فِعلَ النَّارِ بغَيرِها.
وقولُه:
((طينةَ الخَبالِ)): اسمُ عُصارةِ أهلِ النَّارِ، وهو ما يسيلُ منهم من الصَّديدِ والقَيحِ والدَّمِ
[5902] ((شرح المصابيح)) لابن الملك (5/ 353). .
- عن
ابنِ عُمَرَ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ:
((من تعظَّمَ في نفسِه، أو اختال في مِشيتِه، لقيَ اللهَ عزَّ وجَلَّ وهو عليه غضبانُ)) [5903] أخرجه أحمد (5995) واللفظ له، والطبراني (13/64) (13692)، والحاكم (201). صحَّحه الحاكمُ على شرط الشيخين، والألباني على شرط البخاري في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (543)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (718)، وقال الذهبي في ((الكبائر)) (196): على شرطِ مسلمٍ. .
قولُه:
((من تعظَّم في نفسِه)) اعتقد نفسَه عظيمةً تستحقُّ من غيرِه التَّبجيلَ والتَّكريمَ
[5904] ((التنوير شرح الجامع الصغير)) للصنعاني (10/ 181). .
قولُه:
((أو اختال في مِشيتِه)) أي: تبختر وأُعجِب بنفسِه فيها
[5905] ((السراج المنير شرح الجامع الصغير في حديث البشير النذير)) للعزيزي (4/ 284). ، ومشى مِشيةَ المُختالِ المفتَخِرِ، وهذا كِبرٌ ظاهرٌ، فقولُه:
((تعظَّم)) هذا الكِبْرِياءُ في القلبِ
((واختال في مِشيتِه)) هذا الكِبْرِياءُ في العمَلِ في الظَّاهِرِ،
((لقيَ اللَّهَ)) يعني: يومَ القيامةِ
((وهو)) أي: اللهُ عزَّ وجَلَّ
((عليه)) أي: على هذا المتعاظِمِ المختالِ
((غضبانُ)) الجملةُ في قولِه:
((وهو عليه غضبانُ)) حالٌ من لفظِ الجلالةِ، فيقولُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ التَّعاظُمَ في النَّفسِ والاختيالَ في المِشيةِ إذا اجتمعا استحقَّ فاعلُهما هذا الوعيدَ، وهو غَضَبُ اللهِ عزَّ وجَلَّ
[5906] ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) لابن عثيمين (6/ 409). .
- وعن ثوبانَ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن مات وهو بريءٌ من ثلاثٍ: الكِبْرِ، والغُلولِ، والدَّينِ، دَخَل الجنَّةَ)) [5907] أخرجه الترمذي (1572) واللفظ له، وابن ماجه (2412)، وأحمد (22390) بلفظ: "من فارق الرُّوحُ الجسَدَ وهو بريءٌ ...". صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (198)، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (2252)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1572)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1/161). .
- وعن مُصعَبِ بنِ سعدٍ رَضِيَ الله عنه قال: رأى سعدٌ رَضِيَ الله عنه أنَّ له فضلًا على من دونَه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((هل تنصُرون وتُرزَقون إلَّا بضُعفائِكم؟)) [5908]أخرجه البخاري (2896). .
قال الطِّيبيُّ في معنى الحديثِ: (فيه نهيٌ عن مخالطةِ الأغنياءِ، وتحذيرٌ من التَّكبُّرِ على الفقراءِ، والمحافظةُ على جَبرِ خواطِرِهم؛ ولهذا قال لقمانُ لابنه: لا تحقِرَنَّ أحدًا لخُلقانِ ثيابِه؛ فإنَّ ربَّك وربَّه واحدٌ.
وقال ابنُ معاذٍ: حُبُّك الفُقَراءَ من أخلاقِ المُرسَلين، وإيثارُك مجالستَهم من علاماتِ الصَّالحين، وفرارُك منهم من علاماتِ المُنافِقين)
[5909] ((فيض القدير)) للمناوي (1/109). .