تاسعًا: بماذا يكونُ التَّكبُّرُ
قال ابنُ قدامةَ المقدِسيُّ: (في الجملةِ، فكُلُّ ما يمكِنُ أن يُعتَقَدَ كمالًا -وإن لم يكُنْ كمالًا- أمكن أن يُتكبَّرَ به، حتى الفاسِقُ قد يفتَخِرُ بكثرةِ شُربِ الخمرِ والفُجورِ؛ لظنِّه أنَّ ذلك كمالٌ!)
[5970] ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 293). .
وقال
الغزاليُّ: (اعلَمْ أنَّه لا يتكبَّرُ إلَّا من استعظم نفسَه، ولا يستعظِمُها إلَّا وهو يعتقدُ لها صفةً من صفاتِ الكمالِ، وجماعُ ذلك يرجعُ إلى كمالٍ دينيٍّ أو دنيويٍّ؛ فالدِّينيُّ هو العلمُ والعَمَلُ، والدُّنيويُّ هو النَّسبُ والجمالُ والقُوَّةُ والمالُ وكثرةُ الأنصارِ، فهذه سبعةُ أسبابٍ:
الأوَّلُ: العِلمُ، وما أسرَعَ الكِبْرَ إلى العُلَماءِ...! فلا يلبثُ العالمُ أن يتعَزَّزَ بعزَّةِ العِلمِ، يستشعِرُ في نفسِه جمالَ العِلمِ وكمالَه، ويستعظِمُ نفسَه ويستحقِرُ النَّاسَ، وينظُرُ إليهم نظَرَه إلى البهائمِ، ويستجهِلُهم... هذا فيما يتعلَّقُ بالدُّنيا، أمَّا في أمرِ الآخرةِ فتكبُّرُه عليهم بأن يرى نفسَه عِندَ اللهِ تعالى أعلى وأفضَلَ منهم، فيخافُ عليهم أكثَرَ ممَّا يخافُ على نفسِه، ويرجو لنفسِه أكثَرَ ممَّا يرجو لهم... فإن قلتَ: فما بالُ بعضِ النَّاسِ يزدادُ بالعِلمِ كِبرًا وأمنًا؟ فاعلَمْ أنَّ لذلك سببينِ:
أحدُهما: أن يكونَ اشتغالُه بما يسمَّى علمًا، وليس علمًا حقيقيًّا، وإنما العلمُ الحقيقيُّ ما يَعرِفُ به العبدُ ربَّه ونفسَه، وخَطَر أمرِه في لقاءِ اللَّهِ، والحِجابِ منه، وهذا يورِثُ الخشيةَ والتَّواضُعَ، دونَ الكِبْرِ والأمنِ؛ قال اللهُ تعالى:
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] .
السَّبَبُ الثَّاني: أن يخوضَ العبدُ في العلمِ، وهو خبيثُ الدَّخلةِ، رديءُ النَّفسِ، سَيِّئُ الأخلاقِ.
الثَّاني: العَمَلُ والعبادةُ، وليس يخلو عن رذيلةِ العِزِّ والكِبْرِ، واستمالةِ قلوبِ النَّاسِ الزُّهَّادِ والعُبَّادِ، ويترشَّحُ الكِبْرُ منهم في الدِّينِ والدُّنيا؛ أمَّا في الدُّنيا فهو أنَّهم يرون غيَرهم بزيارتِهم أَولى منهم بزيارةِ غَيرِهم، ويتوقَّعون قيامَ النَّاسِ بقضاءِ حوائِجِهم وتوقيرِهم، والتَّوسُّعِ لهم في المجالِسِ، وذِكرِهم بالوَرَعِ والتَّقوى، وتقديمِهم على سائِرِ النَّاسِ في الحظوظِ... وأمَّا في الدِّينِ فهو أن يرى النَّاسَ هالكين، ويرى نفسَه ناجيًا، وهو الهالكُ تحقيقًا.
الثَّالثُ: التَّكبُّرُ بالحَسَبِ والنَّسَبِ؛ فالذي له نسَبٌ شريفٌ يستحقِرُ مَن ليس له ذلك النَّسَبُ، وإن كان أرفَعَ منه عملًا وعِلمًا، وقد يتكبَّرُ بعضهم، فيرى أنَّ النَّاسَ له أموالٌ وعبيدٌ، ويأنَفُ من مخالطتِهم ومجالستِهم.
الرَّابعُ: التَّفاخُرُ بالجمالِ، وذلك أكثَرُ ما يجري بَيْنَ النِّساءِ، ويدعو ذلك إلى التَّنقُّصِ والثَّلبِ والغِيبةِ، وذِكرِ عُيوبِ النَّاسِ.
الخامسُ: الكِبْرُ بالمالِ، وذلك يجري بَيْنَ الملوكِ في خزائنِهم، وبينَ التَّجَّارِ في بضائعِهم، وبين الدَّهاقينَ في أراضيهم، وبين المتجَمِّلين في لباسِهم وخيولِهم، ومراكبِهم، فيستحقرُ الغنيُّ الفقيرَ، ويتكَبَّرُ عليه.
السَّادِسُ: الكِبْرُ بالقوَّةِ وشِدَّةِ البَطشِ، والتَّكبُّرُ به على أهلِ الضَّعفِ.
السَّابعُ: التَّكبُّرُ بالأتباعِ والأنصارِ، والتَّلامذةِ والغِلمانِ، وبالعَشيرةِ والأقارِبِ والبنينَ، ويجري ذلك بَيْنَ الملوكِ في المكاثَرةِ بالجنودِ، وبين العُلَماءِ في المكاثَرةِ بالمستفيدين...
فهذه مجامِعُ ما يتكبَّرُ به العبادُ بعضُهم على بعضٍ، فيتكبَّرُ من يُدلي بشيءٍ منه على من لا يُدلي به، أو على من يُدلي بما هو دونه في اعتقادِه، وربَّما كان مثلَه أو فوقَه عِندَ اللهِ تعالى، كالعالمِ الذي يتكبَّرُ بعِلمِه على من هو أعلمُ منه؛ لظنِّه أنَّه هو الأعلَمُ، ولحُسنِ اعتقادِه في نفسِه)
[5971] ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/347-353) بتصرف. .