عاشِرًا: حُكمُ الكَذِبِ وما يُباحُ منه وحُكمُ المعاريضِ
حُكمُ الكَذِبِ وما يُباحُ منه:قال
النَّوويُّ: (قد تظاهرت نصوصُ الكِتابِ والسُّنَّةِ على تحريمِ الكَذِبِ في الجملةِ، وهو من قبائحِ الذُّنوبِ وفواحِشِ العُيوبِ. وإجماعُ الأمَّةِ مُنعَقِدٌ على تحريمِه مع النُّصوصِ المتظاهِرةِ...)
[6150] يُنظَر: ((الأذكار)) (ص: 377). .
ثمَّ قال: (وقد ضبط العُلَماءُ ما يباح منه. وأحسنُ ما رأيتُه في ضبطِه ما ذكره الإمامُ
أبو حامدٍ الغزاليُّ فقال: الكلامُ وسيلةٌ إلى المقاصِدِ؛ فكلُّ مقصودٍ محمودٍ يُمكنُ التوصُّلُ إليه بالصِّدقِ والكَذِبِ جميعًا، فالكَذِبُ فيه حرامٌ لعَدَمِ الحاجةِ إليه، وإن أمكنَ التوصُّلُ إليه بالكَذِبِ ولم يمكِنْ بالصِّدقِ فالكذبُ فيه مباحٌ إن كان تحصيلُ ذلك المقصودِ مباحًا، وواجبٌ إن كان المقصودُ واجبًا، فإذا اختفى مسلمٌ من ظالمٍ وسأل عنه، وجبَ الكَذِبُ بإخفائِه، وكذا لو كان عندَه أو عندَ غيرِه وديعةٌ وسأل عنها ظالمٌ يُريدُ أخذَها، وجبَ عليه الكَذِبُ بإخفائِها، حتى لو أخبرَه بوديعةٍ عندَه فأخذَها الظالمُ قهرًا، وجبَ ضمانُها على المُودَعِ المُخبِرِ، ولو استحلفَه عليها لزمَه أن يَحلِفَ ويُورِّيَ في يمينِه، فإن حلفَ ولم يُوَرِّ حنثَ على الأصحِّ، وقيل: لا يحنَثُ، وكذلك لو كان مقصودَ حَرْبٍ أو إصلاحِ ذاتِ البَينِ، أو استمالةِ قَلبِ المجنيِّ عليه في العَفوِ عن الجنايةِ لا يحصُلُ إلَّا بكَذِبٍ، فالكَذِبُ ليس بحَرامٍ، وهذا إذا لم يحصُلِ الغَرَضُ إلَّا بالكَذِبِ، والاحتياطُ في هذا كلِّه أن يُوَرِّيَ، ومعنى التَّوريةِ: أن يقصِدَ بعبارتِه مقصودًا صحيحًا ليس هو كاذبًا بالنِّسبةِ إليه، وإن كان كاذبًا في ظاهِرِ اللَّفظِ، ولو لم يقصِدْ هذا بل أطلَقَ عبارةَ الكَذِبِ فليس بحرامٍ في هذا الموضِعِ. قال
أبو حامِدٍ الغزاليُّ: وكذلك كُلُّ ما ارتبط به غرضٌ مقصودٌ صحيحٌ له أو لغيرِه؛ فالذي له مِثلُ أن يأخذَه ظالمٌ ويسألَه عن مالِه ليأخُذَه، فله أن يُنكِرَه، أو يسألَه السُّلطانُ عن فاحشةٍ بينَه وبينَ اللهِ تعالى ارتكَبَها فله أن يُنكِرَها ويقولَ: ما زنيتُ، أو ما شَرِبتُ مثَلًا.
وقد اشتَهَرتِ الأحاديثُ بتلقينِ الذين أقرُّوا بالحدودِ الرُّجوعَ عن الإِقرارِ. وأمَّا غَرَضُ غيرِه، فمِثلُ أن يُسأَلَ عن سرِّ أخيه فيُنكِرَه، ونحوِ ذلك، وينبغي أن يُقابِلَ بين مَفسدةِ الكَذِبِ والمفسدةِ المترتِّبةِ على الصِّدقِ؛ فإن كانت المفسدةُ في الصِّدقِ أشدَّ ضَررًا فله الكَذِبُ، وإن كان عكسُه أو شكَّ، حَرُمَ عليه الكَذِبُ؛ ومتى جازَ الكَذِبُ فإن كان المبيحُ غَرَضًا يتعلَّقُ بنفسِه فيُستحَبُّ ألَّا يَكذِبَ، ومتى كان متعَلِّقًا بغيرِه لم تَجُزِ المسامحةُ بحقِّ غيرِه، والحَزمُ تركُه في كُلِّ موضعٍ أُبيحَ إلَّا إذا كان واجِبًا)
[6151] يُنظَر: ((الأذكار)) (ص: 377، 378). ويُنظر أيضًا: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/137). .
بعضُ الحالاتِ التي يباحُ فيها الكَذِبُ، وهي:1- في الحَربِ؛ لأنَّ الحَربَ خَدعةٌ، ومقتضياتُها تستدعي التَّمويهَ على الأعداءِ، وإيهامَهم بأشياءَ قد لا تكونُ موجودةً، واستعمالَ أساليبِ الحَربِ النَّفسيَّةِ ما أمكَن، ولكِنْ بصورةٍ ذَكيَّةٍ لَبِقةٍ.
عن حُذَيفةَ بنِ اليمانِ رَضِيَ اللهُ عنهما: (ما منَعَني أن أشهَدَ بَدرًا إلَّا أني خرَجتُ أنا وأبي حُسَيلٍ، قال: فأخَذَنا كُفَّارُ قُرَيشٍ، قالوا: إنَّكم تريدون محمَّدًا، فقُلْنا: ما نريدُه، ما نريدُ إلَّا المدينةَ، فأخذوا منا عَهدَ اللهِ وميثاقَه لننصَرِفَنَّ إلى المدينةِ، ولا نقاتِلُ معه، فأتينا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَرْناه الخبرَ، فقال: انصَرِفا، نَفِي لهم بعَهْدِهم، ونستعينُ اللهَ عليهم!)
[6152] أخرجه مسلم (1787). .
قال
النَّوويُّ: (في هذا الحديثِ جَوازُ الكَذِبِ في الحَربِ)
[6153] ((شرح النووي على مسلم)) (12/ 144). .
2- في الصُّلحِ بَيْنَ المتخاصِمَينِ؛ حيث إنَّ ذلك يستدعي أحيانًا أن يحاوِلَ المُصلِحُ تبريرَ أعمالِ كُلِّ طَرَفٍ وأقوالِه بما يحَقِّقُ التَّقارُبَ ويزيلُ أسبابَ الشِّقاقِ، وأحيانًا يَنسُبُ إلى كُلٍّ من الأقوالِ الحَسَنةِ في حَقِّ صاحِبِه ما لم يَقُلْه، وينفي عنه بعضَ ما قاله، وهو ما يَعوقُ الصُّلحَ ويزيدُ شُقَّةَ الخِلافِ والخِصامِ.
3- في الحياةِ الزَّوجيَّةِ؛ حيثُ يحتاجُ الأمرُ أحيانًا إلى أن تكذِبَ الزَّوجةُ على زوجِها، أو يكذِبَ الزَّوجُ على زوجتِه، ويخفيَ كُلٌّ منهما عن الآخَرِ ما من شأنِه أن يُوغِرَ الصُّدورَ، أو يولِّدُ النُّفورَ، أو يثيرَ الفِتَنَ والنِّزاعَ والشِّقاقَ بَيْنَ الزَّوجينِ، كما يجوزُ أن يَزُفَّ كُلٌّ منهما للآخَرِ من معسولِ القولِ ما يزيدُ الحُبَّ، ويَسُرُّ النَّفسَ، ويُجَمِّلُ الحياةَ بَيْنَهما، وإن كان ما يُقالُ كَذِبًا؛ لأنَّ هذا الرِّباطَ الخطيرَ يَستحِقُّ أن يُهتَمَّ به غايةَ الاهتمامِ، وأن يُبذَلَ الجُهدُ الكافي ليظَلَّ قوِيًّا جميلًا مثمِرًا
[6154] يُنظَر: ((الرائد دروس في التربية والدعوة)) لمازن الفريح (3/264). .
فعن أمِّ كُلثومٍ بِنتِ عُقبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ، وكانت من المهاجِراتِ الأُوَلِ اللَّاتي بايَعْنَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبرته: أنَّها سمعتْ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يقولُ:
((ليس الكَذَّابُ الذي يُصلحُ بَيْنَ النَّاسِ، ويقولُ خَيرًا ويَنْمي [6155] نميتُ حديثَ فُلانٍ إلى فلانٍ: إذا بلَّغْتَه على وَجهِ الإصلاحِ وطَلَبِ الخيرِ. انظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (15/341). خيرًا)). قال
ابنُ شِهابٍ: ولم أسمَعْ يُرَخَّصُ في شيءٍ ممَّا يقولُ النَّاسُ كَذِبٌ، إلَّا في ثلاثٍ: الحَربُ، والإصلاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وحديثُ الرَّجُلِ امرأتَه، وحديثُ المرأةِ زَوجَها
[6156] أخرجه البخاري (2692)، ومسلم (2605) واللفظ له. .
قال
النَّوويُّ: (قال القاضي: لا خلافَ في جوازِ الكَذِبِ في هذه الصُّوَرِ، واختلفوا في المرادِ بالكَذِبِ المباحِ فيها ما هو؟ فقالت طائفةٌ: هو على إطلاقِه، وأجازوا قولَ ما لم يكُنْ في هذه المواضِعِ للمصلحةِ، وقالوا: الكَذِبُ المذمومُ ما فيه مضَرَّةٌ، قالوا: ولا خلافَ أنَّه لو قصَد ظالمٌ قَتْلَ رجُلٍ هو عندَه مختَفٍ، وجب عليه الكَذِبُ في أنَّه لا يَعلَمُ أين هو، وقال آخَرون -منهم
الطَّبريُّ-: لا يجوزُ الكَذِبُ في شيءٍ أصلًا، قالوا: وما جاء من الإباحةِ في هذا المرادُ به التَّوريةُ واستعمالُ المعاريضِ لا صريحُ الكَذِبِ، مِثلُ أن يَعِدَ زَوجتَه أن يحسِنَ إليها ويكسوَها كذا، وينويَ: إنْ قَدَّر اللهُ ذلك، وحاصِلُه: أن يأتيَ بكَلِماتٍ محتَمِلةٍ يفهَمُ المخاطَبُ منها ما يُطيِّبُ قَلبَه، وإذا سعى في الإصلاحِ نَقَل عن هؤلاء إلى هؤلاء كلامًا جميلًا، ومن هؤلاء إلى هؤلاء كذلك ووَرَّى، وكذا في الحَربِ بأن يقولَ لعَدُوِّه: مات إمامُكم الأعظَمُ، وينويَ إمامَهم في الأزمانِ الماضيةِ، أو غَدًا يأتينا مَدَدٌ، أي: طعامٌ ونَحوُه، هذا من المعاريضِ المباحةِ، فكُلُّ هذا جائزٌ)
[6157] ((شرح النووي على مسلم)) (16/ 158). ويُنظَر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (8/ 77). .
ثمَّ قال: (وأمَّا كَذِبُه لزوجتِه وكَذِبُها له فالمرادُ به في إظهارِ الوُدِّ والوَعدِ بما لا يلزَمُ، ونحوِ ذلك، فأمَّا المخادعةُ في منعِ ما عليه أو عليها أو أخذِ ما ليس له أو لها، فهو حرامٌ بإجماعِ المُسلِمين. واللهُ أعلَمُ)
[6158] ((شرح النووي على مسلم)) (16/ 158). .
وقال
ابنُ حزمٍ: (ولا بأسَ بكَذِبِ أحَدِ الزَّوجينِ للآخَرِ فيما يُستجلَبُ به المودَّةُ)
[6159] ((المحلى بالآثار)) (9/ 229). .
حُكمُ المعاريضِ ونماذِجُ منها:حُكمُ المعاريضِ: (
المعاريضُ: أن يريدَ الرَّجُلُ أن يتكَلَّمَ بالكلامِ الذي إن صرَّح به كان كَذِبًا، فيعارِضَه بكلامٍ آخَرَ يوافِقُ ذلك الكلامَ في اللَّفظِ ويخالفُه في المعنى، فيتوهَّمُ السَّامعُ أنَّه أراد ذلك)
[6160] يُنظَر: ((غريب الحديث)) لأبي عبيد (4/287). .
قال
النَّوويُّ: (اعلَمْ أنَّ هذا البابَ من أهمِّ الأبوابِ؛ فإنَّه ممَّا يَكثُرُ استعمالُه، وتعُمُّ به البلوى؛ فينبغي لنا أن نعتنيَ بتحقيقِه، وينبغي للواقِفِ عليه أن يتأمَّلَه ويعمَلَ به)
[6161] يُنظَر: ((الأذكار)) (ص: 380). .
وقال أيضًا: (واعلَمْ أنَّ التَّوريةَ والتَّعريضَ معناهما: أن تُطلِقَ لفظًا هو ظاهِرٌ في معنًى، وتريدَ به معنًى آخَرَ يتناوَلُه ذلك اللَّفظُ، لكِنَّه خلافُ ظاهِرِه، وهذا ضَربٌ من التَّغريرِ والخِداعِ.
قال العُلَماءُ: فإن دَعَت إلى ذلك مصلحةٌ شرعيَّةٌ راجحةٌ على خِداعِ المخاطَبِ، أو حاجةٌ لا مندوحةَ عنها إلَّا بالكَذِبِ، فلا بأسَ بالتَّعريضِ، وإن لم يكُنْ شَيءٌ من ذلك فهو مكروهٌ وليس بحرامٍ، إلَّا أن يتوصَّلَ به إلى أخذِ باطِلٍ أو دفعِ حَقٍّ، فيصيرَ حينئذٍ حرامًا، هذا ضابطُ البابِ)
[6162] يُنظَر: ((الأذكار)) (ص: 380). .
عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه قال: (إنَّ في المعاريضِ لمندوحةً عن الكَذِبِ)
[6163] رواه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (7/370)، والطبراني (18/106) (201)، والبيهقي (21363). صحَّحه الألباني في صحيح ((الأدب المفرد)) (662)، وصحَّح إسناده الطبري في ((مسند عمر)) (2/638)، ووثق رجاله ابن حجر في ((فتح الباري)) (10/610)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (7/370)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/133): (رجاله رجال الصحيح). .
وقال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه: (أمَا في المعاريضِ ما يُغني المُسلِمَ عن الكَذِبِ)
[6164] رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) (ص: 305) بلفظ: "ما يكفي المسلِمَ"، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (7/369) واللفظ له، والبيهقي (21362) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (680)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (7/369). .
وعن عَونُ بنُ عبدِ اللهِ قال: (كساني أبي حُلَّةً فخَرَجتُ فيها، فقال لي أصحابي: كساك هذه الأميرَ؟ فأحبَبْتُ أن يَرَوا أنَّ الأميرَ كسانيها، فقلتُ: جزى اللهُ الأميرَ خيرًا، كسا اللهُ الأميرَ من كِسوةِ الجنَّةِ، فذكَرْتُ ذلك لأبي، فقال: يا بُنَيَّ لا تَكذِبْ ولا تَشَبَّهْ بالكَذِبِ)
[6165] يُنظَر: ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص: 256). .
نماذِجُ من المعاريضِ:عن
أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
((أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رسولَ اللهِ، احمِلْني، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّا حاملوك على وَلَدِ ناقةٍ. قال: وما أصنعُ بوَلَدِ النَّاقةِ؟! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وهل تَلِدُ الإبِلَ إلَّا النُّوقُ!)) [6166] أخرجه أبو داود (4998) واللفظ له، والترمذي (1991)، وأحمد (13817). صحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4998)، وصحَّح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (21/ 323). ، والمعنى: أنَّ كُلَّ الإبِلِ هي من وَلدِ النَّاقةِ؛ فأراد النَّبيُّ ولدًا كبيرًا يطيقُ حَملَك، وفَهِم الرَّجُلُ وَلَدَ النَّاقةِ الذي لو حُمِل عليه الإنسانُ يَبرُكُ ولا يستطيعُ المشيَ، وهذا من جُملةِ مُزاحِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
[6167] يُنظَر: ((شرح المصابيح)) لابن الملك (5/ 261)، ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (6/ 392). ، ومن ملاطفتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للرَّجُلِ، وهو من بابِ المعاريضِ
[6168] يُنظَر: ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (1/ 43). ؛ ففي الحديثِ عن أبي هُرَيرةَ أنَّ بعضَ الصَّحابةِ قالوا:
((يا رسولَ اللهِ، إنَّك تُداعِبُنا! قال: إني لا أقولُ إلَّا حَقًّا)) [6169] أخرجه التِّرمذي (1990) واللفظ له، وأحمد (8723). صحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1990)، وحسَّنه البغوي في ((شرح السنة)) (6/547)، وحسَّن إسناده الهيثمي في ((مجمع الزَّوائد)) (9/20)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (8723)، وجوَّده ابن الملقن في ((شرح البخاري)) (24/607). .
ومن المعاريضِ ما استخدَمَتْه أمُّ سُلَيمٍ والِدةُ أنسِ بنِ مالكٍ مع زوجِها أبي طلحةَ حينما مات ابنُه الصَّغيرُ وهو غائبٌ عن البيتِ، فاستخدمت المعاريضَ في إخبارِه بموتِه حتى لا يُصدَمَ، ثمَّ أخبرَتْه بحقيقةِ موتِه صراحةً بعدَ أن هيَّأَتْه لتلقِّي الخبرِ؛ فروى
أنسُ بنُ مالكٍ رَضِيَ للهُ عنه:
((مات ابنٌ لأبي طلحةَ من أمِّ سُلَيمٍ، فقالت لأهلِها: لا تُحَدِّثوا أبا طلحةَ بابنِه حتَّى أكونَ أنا أحَدِّثُه، قال: فجاء فقَرَّبت إليه عشاءً، فأكل وشَرِب، فقال: ثمَّ تصَنَّعَت له أحسَنَ ما كان تَصنَّعُ قبلَ ذلك، فوَقَع بها، فلمَّا رأت أنَّه قد شَبِع وأصاب منها، قالت: يا أبا طلحةَ أرأيتَ لو أنَّ قومًا أعاروا عاريَّتَهم أهلَ بَيتٍ، فطَلَبوا عاريَّتَهم، ألهم أن يمنَعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتَسِبِ ابنَك، قال: فغَضِب، وقال: تركْتِني حتَّى تلطَّخْتُ، ثمَّ أخبَرْتِني بابني! فانطلق حتى أتى رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبره بما كان، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بارَك اللهُ لكما في غابِرِ ليلَتِكما. قال: فحَمَلت، قال: فكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سفَرٍ وهي معه، وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أتى المدينةَ من سَفَرٍ لا يطرُقُها طُروقًا، فدَنَوا من المدينةِ، فضرَبَها المخاضُ، فاحتَبَس عليها أبو طلحةَ، وانطلق رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: يقولُ أبو طلحةَ: إنَّك لتعلَمُ يا رَبِّ إنَّه يُعجِبُني أن أخرُجَ مع رسولِك إذا خرج، وأدخُلَ معه إذا دخَل، وقد احتُبِسْتُ بما ترى! قال: تقولُ أمُّ سُلَيمٍ: يا أبا طلحةَ، ما أجِدُ الذي كنتُ أجِدُ، انطَلِقْ، فانطلَقْنا، قال وضرَبَها المخاضُ حينَ قَدِما، فولَدَت غُلامًا، فقالت لي أمي: يا أنَسُ، لا يُرضِعُه أحدٌ حتى تغدوَ به على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا أصبح احتمَلْتُه فانطلَقْتُ به إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال فصادَفْتُه ومعه مِيسَمٌ، فلمَّا رآني قال: لعلَّ أمَّ سُلَيمٍ ولَدَت؟ قُلتُ: نعم، فوضَعَ الميسَمَ، قال: وجئتُ به فوضعْتُه في حِجرِه، ودعا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَجوةٍ من عجوةِ المدينةِ، فلاكها في فيه حتى ذابت، ثمَّ قذَفَها في في الصَّبيِّ، فجَعل الصَّبيُّ يتلمَّظُها، قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: انظُروا إلى حُبِّ الأنصارِ التَّمرَ! قال: فمَسَح وجهَه وسَمَّاه عبدَ اللهِ)) [6170] أخرجه مسلم (2144). ، ويؤخَذُ من هذا الحديثِ جوازُ استعمالِ المعاريضِ إذا دعت الحاجةُ إليها، وشرطُ جوازِها أن لا تُبطِلَ حَقًّا لمُسلِمٍ، وكان الحامِلُ لأمِّ سُلَيمٍ على ذلك المبالغةَ في الصَّبرِ، والتَّسليمَ لأمرِ اللهِ تعالى، ورجاءَ إخلافِه عليها ما فات منها، إذ لو أعلَمَت أبا طلحةَ بالأمرِ في أوَّلِ الحالِ تنكَّدَ عليه وقتُه، ولم تبلُغِ الغَرَضَ الذي أرادَتْه، فلمَّا عَلِم اللهُ صِدقَ نِيَّتِها بلَّغها مناها، وأصلَح لها ذُرِّيَّتَها
[6171] يُنظَر: ((إكمال المعلم)) للقاضي عياض (7/ 21)، ((عون المعبود)) للعظيم آبادي (13/ 200)، ((كوثر المعاني الدراري)) لمحمد الخضر الشنقيطي (11/ 439). .
وقال
النَّخَعيُّ: (إذا بلغ الرَّجُلَ عنك شيءٌ قُلتَه، فقُل: اللهُ يعلَمُ ما قلتُ من ذلك من شيءٍ. فيتوهَّمُ السَّامِعُ النَّفي، ومقصودُك: اللهُ يعلَمُ الذي قُلتُه)
[6172] يُنظَر: ((الأذكار)) للنووي (ص: 381). .
(وكان
النَّخَعيُّ إذا طلبه رجُلٌ قال للجاريةِ: قولي له: اطلُبْه في المسجِدِ.
وقال غيرُه: خرج أبي في وقتٍ قبلَ هذا.
وكان الشَّعبيُّ يخُطُّ دائرةً ويقولُ للجاريةِ: ضعي أصبَعَك فيها، وقولي: ليس هو هاهنا)
[6173] يُنظَر: ((الأذكار)) للنووي (ص: 381). .
و(ذُكِر عن حمَّادٍ أنَّه إذا أتاه من لا يريدُ الجلوسَ معه، قال متوجِّعًا: ضِرْسي، ضِرْسي! فيترُكُه الثَّقيلُ الذي ليس بصُحبتِه خَيرٌ!
وأُحضِر
سُفيانُ الثَّوريُّ إلى مجلِسِ الخليفةِ المهديِّ فاستحسَنَه، فأراد الخروجَ، فقال الخليفةُ: لا بدَّ أن تجلِسَ، فحلَف
الثَّوريُّ على أنَّه يعودُ، فخرج وترَك نَعلَه عِندَ البابِ، وبعدَ قليلٍ عاد فأخَذ نَعلَه وانصرَفَ، فسأل عنه الخليفةُ فقيل له: إنَّه حلَف أن يعودَ، فعاد وأخَذ نَعْلَه!)
[6174] يُنظَر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 383). .
و(عن إسحاقَ بنِ هانئٍ قال: كنَّا عِندَ
أحمدَ بنِ حنبَلٍ في منزِلِه، ومعه المرُّوذيُّ ومهنَّى، فدقَّ داقٌّ البابَ، وقال: المرُّوذيُّ هاهنا؟ فكأنَّ المرُّوذيَّ كَرِه أن يَعلَمَ مَوضِعَه، فوضَع مهنَّى أصبَعَه في راحتِه، وقال: ليس المرُّوذي هاهنا، وما يَصنَعُ المرُّوذي ها هنا! فضحك
أحمَدُ ولم يُنكِرْ)
[6175] يُنظَر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (11/ 319).