ب- من السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ
ذمَّت السُّنَّةُ الشَّريفةُ إنكارَ الجميلَ وكُفرانَ النِّعمِ من الإنسانِ تجاهَ الخالِقِ أو المخلوقِ، ورَغَّبَت في الوفاءِ وحُسنِ العهدِ، ودعَت إلى مقابلةِ الإحسانِ بالإحسانِ، والثَّناءِ على صاحِبِ المعروفِ، وشُكرِه على معروفِه بما يَقدِرُ عليه الإنسانُ.
- عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه: خرج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أضحى أو فِطرٍ إلى المُصَلَّى، ثمَّ انصَرَف، فوَعَظ النَّاسَ، وأمَرَهم بالصَّدَقةِ، فقال:
((أيُّها النَّاسُ، تصَدَّقوا، فمَرَّ على النِّساءِ، فقال: يا معشَرَ النِّساءِ، تصَدَّقْنَ؛ فإنِّي رأيتُكنَّ أكثَرَ أهلِ النَّارِ. فقُلنَ: وبمَ ذلك يا رسولَ اللَّهِ؟ قال: تُكثِرْنَ اللَّعنَ، وتَكْفُرنَ العَشيرَ، ما رأيتُ من ناقصاتِ عَقلٍ ودِينٍ أذهَبَ للُبِّ الرَّجُلِ الحازِمِ من إحداكُنَّ يا معشَرَ النِّساءِ!)) [6930] أخرجه البخاري (1462) واللَّفظُ له، ومسلم (80). .
وعن
عبدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((...يَكْفُرنَ العشيرَ، ويَكْفُرنَ الإحسانَ، لو أحسَنْتَ إلى إحداهنَّ الدَّهرَ كُلَّه، ثمَّ رأت منك شيئًا، قالت: ما رأيتُ منك خَيرًا قَطُّ!)) [6931] أخرجه البخاري (1052)، ومسلم (907). .
قال المُهَلَّبُ: (إنَّما استحَقَّ النِّساءُ النَّارَ بكُفرانِهنَّ العشيرَ؛ من أجلِ أنَّهنَّ يُكثِرْنَ ذلك الدَّهرَ كُلَّه، أَلا ترى أنَّ النَّبيَّ عليه السَّلامُ قد فسَّره، فقال: لو أحسَنْتَ إلى إحداهنَّ الدَّهرَ لجازت ذلك بالكُفرانِ الدَّهرَ كُلَّه، فغَلَب استيلاءُ الكُفرانِ على دَهْرِها، فكأنَّها مُصِرَّةٌ أبدًا على الكُفرِ، والإصرارُ من أكبَرِ أسبابِ النَّارِ)
[6932] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (7/319). .
و(الإنسانُ بطبيعتِه يحِبُّ أن يُحمَدَ على خيرٍ يَفعَلُه، ويَسعَدُ كثيرًا بشُكرِ مَن يَشكُرُه على جميلِه، وليس في ذلك إحباطٌ لأجرِ المعروفِ إذا لم يُطلَبْ، وما كان النِّساءُ أكثَرَ أهلِ النَّارِ إلَّا لأنَّهنَّ يجحَدْنَ المعروفَ ويُنكِرنَه، ولا يُكافِئْنَه ولا يعتَرِفْنَ به ولا يحمَدْنَ صاحِبَه، بل يَكفُرْنَ العشيرَ والإحسانَ؛ فالاعترافُ بالمعروفِ إحسانٌ إلى صاحِبِه)
[6933] ينظر ((فتح المنعم شرح صحيح مسلم)) لموسى لاشين (10/150). .
- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِع رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ:
((إنَّ ثلاثةً في بني إسرائيلَ أبرَصَ وأقرَعَ وأعمى، بدا للهِ أن يبتَلِيَهم فبعَث إليهم ملَكًا، فأتى الأبرَصَ فقال: أيُّ شيءٍ أحَبُّ إليك؟ قال: لونٌ حَسَنٌ وجِلدٌ حَسَنٌ، قد قَذِرَني النَّاسُ! قال: فمسَحه فذهَب عنه، فأُعطِيَ لونًا حَسَنًا وجِلدًا حَسَنًا، فقال: أيُّ المالِ أحَبُّ إليك؟ قال: الإبِلُ ، أو قال البَقَرُ -هو شَكَّ في ذلك: إنَّ الأبرَصَ والأقرَعَ قال أحَدُهما: الإبِلُ، وقال الآخَرُ: البَقَرُ- فأُعطِيَ ناقةً عُشَراءَ [6934] عُشَراءَ: أي: مضى لها عَشَرةُ أشهُرٍ. يُنظَر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (8/ 515). ، فقال: يُبارَكُ لك فيها، وأتى الأقرَعَ فقال: أيُّ شيءٍ أحَبُّ إليك؟ قال: شَعرٌ حَسَنٌ، ويَذهَبُ عنِّي هذا، قد قَذِرَني النَّاسُ! قال: فمسَحَه فذهَب، وأعطِيَ شَعرًا حَسَنًا، قال: فأيُّ المالِ أحَبُّ إليك؟ قال: البَقَرُ، قال: فأعطاه بَقَرةً حامِلًا وقال: يُبارَكُ لك فيها، وأتى الأعمى فقال: أيُّ شيءٍ أحَبُّ إليك؟ قال: يَرُدُّ اللهُ إليَّ بصري فأُبصِرُ به النَّاسَ، قال: فمسَحه فرَدَّ اللهُ إليه بَصَرَه، قال: فأيُّ المالِ أحَبُّ إليك؟ قال: الغَنَمُ، فأعطاه شاةً والدًا، فأُنتِجَ هذان، ووَلَّد هذا [6935] فأُنتِجَ: رباعيٌّ، وهي لغةٌ قليلةُ الاستعمالِ، والمشهورُ: نُتِج، الثُّلاثيُّ، ومعناه: تولَّى الولادةَ، وهي النَّتجُ والإنتاجُ، ومعنى (ولَّد هذا) بتشديدِ اللَّامِ معنى أُنتِجَ، والنَّاتجُ للإبِلِ، والمُوَلِّدُ للغَنَمِ وغيرِها، هو كالقابِلةِ للنِّساءِ. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/ 98). ، فكان لهذا وادٍ من إبِلٍ، ولهذا وادٍ من بَقَرٍ، ولهذا وادٍ من الغَنَمِ، ثمَّ إنَّه أتى الأبرَصَ في صورتِه وهيئتِه فقال: رجُلٌ مِسكينٌ تقَطَّعَت بي الحبالُ في سفري، فلا بلاغَ اليومَ إلَّا باللهِ ثمَّ بك، أسألُك بالذي أعطاك اللَّونَ الحَسَنَ والجِلدَ الحَسَنَ والمالَ، بعيرًا أتبلَّغُ عليه في سفري، فقال له: إنَّ الحقوقَ كثيرةٌ، فقال له: كأنِّي أعرِفُك، ألم تكُنْ أبرَصَ يَقذَرُك النَّاسُ، فقيرًا فأعطاك اللهُ؟! فقال: لقد وَرِثتُ لكابِرٍ عن كابِرٍ! فقال: إنْ كُنتَ كاذِبًا فصَيَّرك اللهُ إلى ما كنتَ! وأتى الأقرعَ في صورتِه وهيئتِه، فقال له مِثلَ ما قال لهذا، فرَدَّ عليه مِثلَ ما ردَّ عليه هذا، فقال: إنْ كُنتَ كاذِبًا فصَيَّرك اللهُ إلى ما كنتَ! وأتى الأعمى في صورتِه، فقال: رجلٌ مِسكينٌ وابنُ سبيلٍ وتقَطَّعَت بي الحبالُ في سَفَري، فلا بلاغَ اليومَ إلَّا باللهِ ثمَّ بك، أسألُك بالذي ردَّ عليك بصَرَك شاةً أتبلَّغُ بها في سَفَري، فقال: قد كُنتُ أعمى فرَدَّ اللهُ بصري، وفقيرًا فقد أغناني؛ فخُذْ ما شِئتَ، فواللهِ لا أجهَدُك [6936] أجهَدُك: أي: لا أبلُغُ منك جَهدًا أو مشقَّةً في منعِك شيئًا أخَذْتَه للهِ. يُنظَر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (8/ 517). اليومَ بشَيءٍ أخَذْتَه للهِ، فقال: أمسِكْ مالَك؛ فإنَّما ابتُليتُم، فقد رَضِيَ اللهُ عنك، وسَخِطَ على صاحِبَيك!)) [6937] أخرجه البخاري (3464) واللَّفظُ له، ومسلم (2964). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هذا الحديثِ مِن الفِقهِ: أنَّ اللهَ تعالى جعَل هؤلاء الثَّلاثةَ آيةً من آياتِه؛ ليُذَكِّرَ بكُلٍّ منهم أصحابَ البلاءِ من جِنسِه، وليُخَوِّفَ النَّاسيَ فَضلَ اللهِ سُبحانَه، والجاحِدَ نِعمتَه؛ ولِيُعلَمَ أنَّ البلاءَ في الغالبِ يكونُ بعُرضةٍ أن يزولَ إلى خيرٍ، وأنَّ النِّعمةَ في الغالِبِ تكونُ بعُرضةٍ أن تزولَ إلى هلاكٍ، إلَّا القليلَ؛ لأنَّ هؤلاء إنَّما نجا منهم واحِدٌ وهلك اثنانِ في حالةِ الغِنى)
[6938] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (6/ 262). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (فيه التَّحذيرُ مِن كُفرانِ النِّعَمِ، والتَّرغيبُ في شُكرِها والاعترافِ بها وحَمدِ اللهِ عليها)
[6939] ((فتح الباري)) (6/305). .
- وعن أبي هُرَيرةَ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا يَشكُرُ اللهَ مَن لا يَشكُرُ النَّاسَ)) [6940] أخرجه أبو داود (4811)، وأحمد (7939) واللَّفظُ لهما، والترمذي (1954) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه التِّرمذيُّ، وصحَّحه ابنُ حِبان في ((صحيحه)) (3407)، وابنُ دقيقِ العيدِ في ((الاقتراح)) (117). .
قال
ابنُ الأثيرِ: (معناه: أنَّ كُلَّ مَن كان مِن طَبعِه وعادتِه كُفرانُ نِعمةِ النَّاسِ، وتَرْكُ الشُّكرِ لهم، كان من عادتِه كُفرُ نِعمةِ اللَّهِ، وتَركُ الشُّكرِ له. وقيل: معناه: أنَّ اللهَ لا يقبَلُ شُكرَ العبدِ على إحسانِه إليه إذا كان العَبدُ لا يَشكُرُ إحسانَ النَّاسِ، ويَكفُرُ معروفَهم؛ لاتِّصالِ أحدِ الأمرَينِ بالآخَرِ)
[6941] ((جامع الأصول)) (2/ 559). .
- وعن
جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من أعطِيَ عطاءً فوَجَد، فلْيَجْزِ به [6942]) فوَجَد) أي: سَعةً ماليَّةً (فلْيَجْزِ) أي: فلْيُكافئْ (به) أي: بالعطاءِ. يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (5/2011). ، فإن لم يجِدْ فلْيُثنِ به، فمَن أثنى به فقد شكَرَه، ومَن كتَمَه فقد كفَرَه)) [6943] أخرجه أبو داود (4813) واللَّفظُ له، والترمذي (2034). صحَّحه ابنُ حِبان في ((صحيحه)) (3415)، وحَسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4813)، وحسَّنه لغيرِه شُعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4813)، وقال التِّرمذيُّ: حسَنٌ غريبٌ. .
(فمن أثنى به فقد شَكَره، أي: أدَّى شُكرَ عَطائِه)
[6944] ((بذل المجهود في حل سنن أبي داود)) للسهارنفوري (13/241). .
- وعن أبي هُرَيرةَ أنَّ أعرابيًّا أهدى لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَكْرةً
[6945] البَكْرُ -بالفَتحِ-: الفَتيُّ من الإبِلِ، بمنزلةِ الغلامِ من النَّاسِ، والأُنثى: بَكْرةٌ. يُنظَر: ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (7/ 2230). فعَوَّضَه منها سِتَّ بَكَراتٍ فتسَخَّطَها! فبلغ ذلك النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، ثمَّ قال:
((إنَّ فُلانًا أهدى إليَّ ناقةً فعَوَّضْتُه منها سِتَّ بَكَراتٍ، فظَلَّ ساخِطًا! لقد همَمْتُ ألَّا أقبَلَ هَدِيَّةً إلَّا مِن قُرَشيٍّ أو أنصاريٍّ أو ثَقَفيٍّ أو دَوسيٍّ)) [6946] أخرجه أبو داود (3537)، والترمذي (3945) واللَّفظُ له، والنسائي (3759). صحَّحه ابنُ حِبان في ((صحيحه)) (6383)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3945)، وحسَّنه التِّرمذُّي، وابنُ القَطَّان في ((الوهم والإيهام)) (5/399). .
قال
البَيضاويُّ: (لمَّا أعطى سِتَّ بكَراتٍ في مُقابلةِ ناقةٍ، ووَجَد المُهْديَ بَعدُ ساخِطًا، عَلِم أنَّ الباعِثَ له على الإهداءِ محضُ الطَّمَعِ؛ فكَرِهَ قَبولَ هَديَّةٍ إلَّا من هؤلاء؛ لعِلْمِه بكَرَمِهم، وصِدقِ نيَّتِهم، وسَخاوةِ أنفُسِهم)
[6947] ((تحفة الأبرار)) (2/312). .