المطلبُ الثاني: لَعْنُ الكُفَّارِ وبعضِ الفاسِقِين
قال اللهُ تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة: 161] .
قال
ابنُ جريرٍ: (يعني: فأولئك الذين كَفَروا وماتوا وهم كُفَّار،ٌ عليهم لعنةُ اللهِ، يقولُ: أبعَدَهم اللهُ وأسحَقَهم من رحمتِه
وَالْمَلَائِكَةِ يعني: ولعَنَهم المَلائِكةُ والنَّاسُ أجمعون. ولعنةُ المَلائِكةِ والنَّاسِ إيَّاهم قَولُهم: عليهم لعنةُ اللهِ)
[4159] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/ 741). .
وقال المراغي: (والسِّرُّ في التعبيرِ بلَعْنِ المَلائِكةِ والنَّاسِ، مع أنَّ لَعْنَ اللهِ وَحْدَه يكفي في خِزْيِه: الدَّلالةُ على أنَّ جميعَ من يَعلَمُ أحوالَه من العوالمِ العُلويَّةِ والسُّفليَّةِ يراه أهلًا لِلَعْنِ اللهِ ومَقْتِه، فلا يشفَعُ له شافِعٌ ولا يرحمُه راحِمٌ، فهو قد استحَقَّ اللَّعنَ لدى جميعِ من يعقِلُ ويَعلَمُ، ومن استحَقَّ النَّكالَ مِنَ الرَّبِّ الرَّؤوفِ الرَّحيمِ، فماذا يرجو مِن سِواه مِن عبادِه؟)
[4160] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (2/ 32). .
ولا تَلعَنُ المَلائِكةُ الكَفَرةَ فحَسْبُ، بل قد تلعَنُ من فعلوا ذُنوبًا مُعَيَّنةً، ومن ذلك:1- لَعْنُ كاتِمِ الحَقِّ:قال اللهُ تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 159، 160].
قال
ابنُ الجوزي: (في اللَّاعِنينَ أربَعةُ أقوالٍ:
أحَدُها: أنَّ المرادَ بهم: دوابُّ الأرضِ... والثَّاني: أنَّهم المُؤمِنون... والثَّالثُ: أنَّهم المَلائِكةُ والمُؤمِنون... والرابعُ: أنَّهم
الجِنُّ والإنسُ وكُلُّ دابَّةٍ)
[4161] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (1/ 127). .
وقال
ابنُ كثير: (قد جاء في الحديثِ أنَّ العالِمَ يَستغفِرُ له كُلُّ شَيءٍ، حتى الحيتانُ، وجاء في هذه الآيةِ: أنَّ كاتمَ العِلمِ يَلعَنُه اللهُ والمَلائِكةُ والنَّاسُ أجمعون، واللاعنون أيضًا، وهم كُلُّ فَصيحٍ وأعجَمِيٌّ إمَّا بلسانِ المقالِ، أو الحالِ، أو لو كان له عَقلٌ، أو يومَ القيامةِ. واللهُ أعلَمُ)
[4162] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 473). .
وقال
السَّعْديُّ: (
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ وهم جميعُ الخَليقةِ، فتقَعُ عليهم اللعنةُ من جميعِ الخليقةِ؛ لسَعْيِهم في غِشِّ الخَلقِ وفَسادِ أديانهم، وإبعادِهم من رحمةِ اللهِ، فجُوزوا من جنسِ عَمَلِهم، كما أنَّ مُعَلِّمَ النَّاسِ الخيرَ يُصَلِّي اللهُ عليه ومَلائِكتُه، حتى الحوتُ في جوفِ الماءِ؛ لسَعْيِه في مصلحةِ الخَلقِ، وإصلاحِ أديانِهم، وقُربِهم من رحمةِ اللهِ، فجُوزي من جِنسِ عَمَلِه، فالكاتمُ لِما أنزل اللهُ مُضادٌّ لأمرِ اللهِ، مُشاقٌّ لله، يُبَيِّنُ اللهُ الآياتِ للنَّاسِ ويُوَضِّحُها، وهذا يطمِسُها، فهذا عليه هذا الوعيدُ الشَّديدُ)
[4163] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 77). .
2- لَعْنُ المَلائِكةِ المَرأةَ التي لا تستجيبُ لِزَوجِها:عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأتَهُ إلى فِرَاشِهِ فأبَتْ، فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا؛ لَعَنَتْهَا المَلَائِكَةُ حتَّى تُصْبِحَ )) [4164] رواه البخاري (3237) واللَّفظُ له، ومسلم (1436). . وفي رواية:
((حتى ترجِعَ)) [4165] رواه البخاري (5194)، ومسلم (1436). .
قال
علي القاري: (
((فأبَتْ)): أي: امتنعت من غيرِ عُذرٍ شَرعيٍّ...
((لعنَتْها المَلائِكةُ)): لأنها كانت مأمورةً إلى طاعةِ زَوجِها في غيرِ مَعصيةٍ. قيل: و
الحَيضُ: ليس بعُذرٍ في الامتناعِ؛ لأنَّ له حَقًّا في الاستمتاعِ بما فوقَ الإزارِ عند الجُمهورِ، وبما عدا الفَرجَ عند جماعةٍ.
((حتى تُصبِحَ)): أي: المرأةُ أو المَلائِكةُ. قيل: إنما غَيَّا اللَّعنَ بالإصباحِ؛ لأنَّ الزَّوجَ يستغني عنها بحدوثِ المانعِ عن الاستمتاعِ فيه غالبًا، والأظهَرُ أنَّ حُكمَ النَّهارِ كذلك حتى يمسِيَ، فهو من بابِ الاكتفاءِ)
[4166] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (5/ 2121). .
وقال
ابنُ عثيمين: (لَعْنُ المَلائِكةِ، يعني: أنها تدعو على هذه المرأةِ باللَّعنةِ، واللَّعنةُ: هي الطَّردُ والإبعادُ عن رحمةِ اللهِ، فإذا دعاها إلى فراشهِ ليستمتِعَ بها بما أذِنَ اللهُ له فيه، فأبت أن تجيءَ؛ فإنَّها تلعَنُها المَلائِكةُ، والعياذُ باللهِ، أي: تدعو عليها باللَّعنةِ إلى أن تُصبِحَ)
[4167] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 141). .
3- لَعْنُ المَلائِكةِ من يشيرُ إلى أخيه بحَديدةٍ:عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال أبو القاسِمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من أشار إلى أخيه بحديدةٍ، فإنَّ المَلائِكةَ تلعَنُه، حتى يضَعَها وإن كان أخاه لأبيه وأمِّه )) [4168] رواه مسلم (2616). .
قال أبو العَّباسِ القُرطبيُّ: (لَعْنُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للمُشيرِ بالسِّلاحِ: دليلٌ على تحريمِ ذلك مُطلَقًا، جِدًّا كان أو هَزْلًا، ولا يخفى وَجهُ لَعْنِ من تعمَّد ذلك؛ لأنَّه يريدُ قَتْلَ المُسلِمِ أو جَرْحَه، وكِلاهما كبيرةٌ. وأمَّا إن كان هازِلًا، فلأنَّه ترويعُ مُسلِمٍ، ولا يحِلُّ ترويعُه، ولأنَّه ذريعةٌ إلى القَتلِ والجَرحِ المحَرَّمَينِ)
[4169] يُنظر: ((المفهم)) (6/ 601). .
وقال
علي القاري: (
((من أشار إلى أخيه)): أي المُسلِمِ
((بحديدةٍ)) أي: بما هو آلةُ القَتلِ
((فإنَّ المَلائِكةَ تلعَنُه)): أي: تدعوه بالبُعدِ عن الجَنَّةِ أوَّلَ الأمرِ
((حتى يَضَعَها)): أي الحديدة)
[4170] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (6/ 2300). .
4- لَعْنُ المَلائِكةِ من يُحدِثُ أو من يُؤْوِي مُحْدِثًا في المَدينةِ: عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((المدينةُ حَرَمٌ، فمن أحدث فيها حَدَثًا أو آوى مُحدِثًا، فعليه لعنةُ اللهِ والمَلائِكةِ والنَّاسِ أجمعين)) [4171] رواه مسلم (1371). .
قال
النوويُّ: (معناه أنَّ اللهَ تعالى يلعَنُه، وكذا يَلعَنُه المَلائِكةُ والنَّاسُ أجمعون، وهذا مبالغةٌ في إبعادِه عن رحمةِ اللهِ تعالى)
[4172] يُنظر: ((شرح مسلم)) (9/ 140). .
والحَدَثُ في المدينةِ النَّبَويَّةِ زيادةٌ في الإجرامِ.
عن عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((المدينةُ حَرَمٌ، ما بين عَيْرٍ إلى ثَورٍ، فمن أحدَثَ فيها حَدَثًا، أو آوى مُحدِثًا، فعليه لعنةُ اللهِ والمَلائِكةِ والنَّاسِ أجمعين، لا يَقبَلُ اللهُ منه يومَ القيامةِ صَرْفًا ولا عَدْلًا [4173] قال أبو العَبَّاسِ القُرطبيُّ: (الصَّرْفُ: التَّوبةُ، والعَدْلُ: الفِدْيةُ، قاله الأصمعيُّ. وقيل: الصَّرفُ: الفريضةُ، والعَدْلُ: التطَوُّعُ. وعَكَسَ ذلك الحَسَنُ. وقيل: الصَّرْفُ: الحِيلةُ والكَسْبُ، والعَدْلُ: المِثْلُ) ((المفهم)) (3/ 487). ) [4174] رواه البخاري (6755)، ومسلم (1370). .
قال عِياضٌ: (قَولُه:
((من أحدث حَدَثًا، أو آوى مُحدِثًا)): أي أتى إثمًا، أو آوى من أتاه وحماه وضَمَّه إليه... واللَّعنةُ معناها: الإبعادُ، ولا يكونُ هذا كلَعنةِ الكُفَّارِ الذين يَبعُدون عن رحمةِ اللهِ رأسًا)
[4175] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (4/ 486). .