المبحثُ الأولُ: من واجِبِ المُؤمِنين تُجاهَ المَلائِكةِ: تجَنُّبُ كُلِّ ما من شأنِه أن يُسِيءَ إليهم ويُؤذِيَهم
إنَّ أعظَمَ ما يؤذي المَلائِكةَ الكُفْرُ والشِّركُ، والذُّنوبُ والمعاصي؛ لذا فإنَّ المَلائِكةَ لا تدخُلُ الأماكِنَ والبيوتَ التي يُعصى فيها اللهُ تعالى، أو التي يُوجَدُ فيها ما يَكرَهُه اللهُ ويُبغِضُه؛ كالأنصابِ والتماثيلِ والصُّوَرِ، ولا تَقرَبُ من تَلبَّس بمعصيةٍ، كالسَّكرانِ.
فعن أبي طَلحةَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لَا تَدْخُلُ المَلَائِكَةُ بَيْتًا فيه كَلْبٌ ولَا صُورَةٌ )) [4177] أخرجه البخاري (3225)، ومسلم) (2106). .
وعن
عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (ثلاثةُ نَفَرٍ لا تَقْرَبُهم الملائِكةُ: الجُنُبُ، والسَّكْرانُ، والمتضَمِّخُ بالخَلُوقِ)
[4178] أخرجه البزار كما في ((الترغيب والترهيب)) للمنذري (1/90) صححه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2374)، وصحح إسناده المنذري، والبوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (6/99). .
قال
الخطَّابي: (قَولُه:
((لا تدخُلُ المَلائِكةُ بَيتًا)) يريدُ المَلائِكةُ الذين يَنزِلون بالبركةِ والرَّحمةِ دون المَلائِكةِ الذين هم الحَفَظةُ؛ فإنَّهم لا يفارِقونَ الجُنُبَ وغَيرَ الجُنُبِ... وأمَّا الكَلبُ فهو أن يقتَنِيَ كَلبًا ليس لزَرعٍ ولا ضَرعٍ أو صَيدٍ، فأمَّا إذا كان يرتَبِطُه للحاجةِ إليه في بعضِ هذه الأُمورِ، أو لحراسةِ دارِهِ إذا اضطرَّ إليه، فلا حرَجَ عليه.
وأمَّا الصُّورةُ فهي كُلُّ صُورةٍ مِن ذواتِ الأرواحِ كانت لها أشخاصٌ مُنتَصِبةٌ، أو كانت منقوشةً في سَقفٍ أو جدارٍ، أو مصنوعةً في نمطٍ، أو منسوجةً في ثوبٍ، أو ما كان؛ فإنَّ قَضِيَّةَ العُمومِ تأتي عليه، فلْيُجتَنَبْ. وباللهِ التوفيقُ)
[4179] يُنظر: ((معالم السنن)) (1/ 75). .
وقال الطِّيبي: (أمَّا امتِناعُهم عن البيتِ الذي فيه الصُّورةُ فلحُرمةِ الصُّورةِ، ومشابهةِ ذلك البيتِ بيوتَ الأصنامِ، وهذا اللفظُ عامٌّ، لكِنْ خُصَّ بما هو منبوذٌ يُوطَأُ ويُداسُ؛ فإنَّ الرُّخصةَ ورَدَت فيه. وأمَّا امتناعُهم عن البيتِ الذي فيه كَلبٌ، فلأنَّه نَجِسٌ... والمَلائِكةُ أشرَفُ خَلقِ اللهِ، وهم المكُرَمون المُمَكَّنون من أعلى مراتبِ الطَّهارةِ، وبينهما تضادٌّ، كما بين النُّورِ والظُّلمةِ، ومن ساوى نَفْسَه بالكلابِ فحقيقٌ أن يَنفِرَ عن بيتِه المَلائِكةُ، واستثنى عن عمومِه كَلْبَ الماشيةِ والزَّرعِ والصَّيدِ؛ لِمَسِيسِ الحاجةِ. وأمَّا امتناعُهم عن البيتِ الذي فيه الجُنُبُ، فلأنَّه ممنوعٌ عن مُعظَمِ العِباداتِ، والمرادُ به الجُنُبُ الذي يتهاوَنُ في الغُسلِ، ويُؤَخِّرُه حتى يمرَّ عليه وَقتُ الصَّلاةِ، ويجعَلُ ذلك دأبًا وعادةً له، فإنَّه مُستَخِفٌّ بالشَّرعِ، مُتساهِلٌ في الدِّينِ، لا أيَّ جنُبٍ كان؛ لِما ثبت من تأخيرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ غُسْلَ
الجنابةِ مِن مُوجِبِه زَمانًا، فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يطوفُ على نسائِه بغُسلٍ واحدٍ
[4180] أخرجه البخاري (284) باختلاف يسير، ومسلم (309) واللفظُ له، من حديثِ أنسِ بنِ مالك رَضِيَ اللهُ عنه. ، وكان ينامُ باللَّيلِ وهو جُنُبٌ
[4181] أخرجه البخاري (1925، 1926) من حديثِ عائشةَ وأمِّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، ولفظُه: ((أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يدرِكُه الفَجرُ وهو جُنُبٌ من أهلِه، ثم يغتَسِلُ ويصومُ)). .
وأقولُ: لعَلَّ الاقترانَ في المذكورِ لعِلَّةِ النَّجاسةِ عَينًا أو حُكمًا؛ فإنَّ الشِّركَ نجاسةٌ
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ؛ حيث جَعَلوا الأصنامَ شُرَكاءَ للهِ، والمصَوِّرُ يَجعَلُ نَفْسَه شَريكًا للهِ في التصويرِ، ومن امتنع من عبادةِ اللهِ تعالى وتقاعد عنها وتكاسل فيها، فهو مُلحَقٌ بمن عبَدَ غيرَ اللهِ تعالى تغليظًا؛ لأنَّ الخَلْقَ إنما خُلِقوا لعبادةِ اللهِ،
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونَ، وقُرِن بالكَلْبِ لخِسَّتِه، وأنَّه مال إلى الطبيعةِ والعالَمِ السُّفليِّ، ولم يرتَفِعْ إلى العالَمِ العُلويِّ ليشابِهَ المَلائِكةَ المقَرَّبينَ،
وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ)
[4182] يُنظر: ((شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن)) (3/ 821). .
وفي روايةٍ عن أبي طَلحةَ مَرفوعًا:
((لا تدخُلُ المَلائِكةُ بيتًا فيه كَلبٌ ولا تماثيلُ )) [4183] أخرجه مسلم (2106). ، وفي روايةٍ عن أبي هُرَيرةَ قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تَصحَبُ المَلائِكةُ رُفقةً فيها كَلبٌ ولا جَرَسٌ )) [4184] رواه مسلم (2113). .
قال أبو العَّباسِ القُرطبيُّ: (و
((الجَرَسُ)): ما يُعَلَّقُ في أعناقِ الإبِلِ مِمَّا له صَلْصَلةٌ، والذي يُضرَبُ به... وفيه ما يَدُلُّ على كراهةِ اتخاذِ الأجراسِ في الأسفارِ، وهو قَولُ
مالكٍ وغَيرِه. قلتُ: وينبغي ألَّا تُقصَرَ الكراهةُ على الأسفارِ، بل هي مكروهةٌ في الحَضَرِ أيضًا)
[4185] يُنظر: ((المفهم)) (5/ 434). .
وكذلك تتأذَّى المَلائِكةُ مِمَّا يتأذَّى منه بنو آدمَ مِن الرَّوائحِ الكريهةِ والأقذارِ والأوساخِ.
عن
جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((من أكَلَ البَصَلَ والثُّومَ والكُرَّاثَ، فلا يَقَرَبَنَّ مَسجِدَنا؛ فإنَّ المَلائِكةَ تتأذَّى ممَّا يتأذَّى منه بنو آدمَ )) [4186] أخرجه مسلم (564). وأخرجه البخاري (854) النهي عن أكل الثوم. .
قال
الخطَّابيُّ: (كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَكرَهُ أن يُوجَدَ منه شَيءٌ من الأطعمةِ والأشرِبَةِ، وكان يتوقَّاها لأجْلِ من يناجي من المَلائِكةِ، وقال: (إنَّ المَلائِكةَ تتأذَّى ممَّا يتأذَّى منه بنو آدَمَ) )
[4187] يُنظر: ((أعلام الحديث)) (3/ 2033). .
ونهى الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن البُصاقِ عن اليمينِ في أثناءِ الصَّلاةِ؛ لأنَّ المصَلِّيَ إذا قام يصَلِّي يَقِفُ عن يمينِه مَلَكٌ، فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إذا قام أحَدُكم إلى الصَّلاةِ، فلا يَبصُقْ أمامه، فإنما يُناجي اللهَ ما دام في مُصَلَّاه، ولا عن يمينِه؛ فإنَّ عن يمينِه مَلَكًا، ولْيَبصُقْ عن يسارِه، أو تحتَ قَدَمِه فيَدفِنُها )) [4188] رواه البخاري (416). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه
((فإنَّ عن يمينِه مَلَكًا)) تقدَّم أنَّ ظاهِرَه اختِصاصُه بحالةِ الصَّلاةِ. فإنْ قلنا: المرادُ بالمَلَكِ الكاتِبُ، فقد استُشكِلَ اختصاصُه بالمنعِ مع أنَّ عن يسارِه مَلَكًا آخَرَ. وأُجيبَ باحتمالِ اختِصاصِ ذلك بمَلَكِ اليَمينِ تشريفًا له وتكريمًا. هكذا قاله جماعةٌ من القُدَماءِ، ولا يخفى ما فيه، وأجاب بعضُ المتأخِّرين بأنَّ الصَّلاةَ أُمُّ الحَسَناتِ البَدَنيَّةِ، فلا دَخْلَ لكاتِبِ السَّيِّئاتِ فيها)
[4189] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/ 513). .