المَطْلَبُ الثَّاني: من صِفاتِ الجِنِّ أنَّهم يَأكُلونَ ويَشرَبون
قال
الرَّازي: (اتَّفَقوا على أنَّ المَلائِكةَ لا يَأكُلونَ ولا يَشرَبونَ ولا يَنكِحونَ، يُسَبِّحونَ اللَّيلَ والنَّهارَ لا يَفتُرونَ، وأمَّا
الجِنُّ والشَّياطينُ فإنَّهم يَأكُلونَ ويَشرَبونَ)
[4283] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (1/ 85). .
وقال يَحيى بنُ أبي بَكرِ العامِريُّ: (إنَّهم مُتَجَسِّمونَ مُحتاجونَ الى التَّغَذيةِ كالإنسِ خِلافًا لمَن أنكَرَه من كَفَرةِ الأطِبَّاءِ والفَلاسِفةِ)
[4284] يُنظر: ((بهجة المحافل وبغية الأماثل)) (1/ 124). .
ومِنَ الأدِلَّةِ على ذلك:ما جاءَ عَن
عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أتاني داعي الجِنِّ فذَهَبْتُ مَعَه فقَرَأتُ عليهمُ القُرآنَ، قال: فانطَلَقَ بنا فأرانا آثارَهم، وآثارَ نيرانِهم، وسَألوه الزَّادَ، فقال: لَكَم كُلُّ عَظمٍ ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عليهِ يَقَعُ في أيديكُم أوفَرَ ما يَكونُ لَحمًا، وكُلُّ بَعرةٍ عَلَفٌ لدَوابِّكُم. فقال رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فلا تَستَنجوا بها؛ فإنَّها طَعامُ إخوانِكُم )) [4285] رواه مسلم (450). .
قال ابن هُبَيرةَ: (في هَذا الحَديثِ ما يَدُلُّ عَلى لُطفِ اللَّهِ بالآدَميِّينَ؛ لأنَّه اختارَ لَهم لُبابَ الأشياءِ، وجَعلَ ما لَم يَختَرْه لَهم كالعِظامِ زادًا لإخوانِهم مِنَ
الجِنِّ. وفيه أيضًا مِنَ الفَقهِ أنَّه يَنبَغي للإنسانِ ألَّا يَطرَحَ عَظمًا مِمَّا يَأكُلُه، بَل يُنزِلُه ناويًا بهِ الصَّدَقةَ على
الجِنِّ، وأن يَذكُرَ اسمَ اللَّهِ عَزَّ وجَّلٌ عليهِ ليَستَطيبَه المُؤْمِنونَ مِنهم، ويَنبَغي أن لا يُضايِقَ
الجِنَّ فيه، ولا يَكسِرَ ولا يَثْلِمَه ليَجدوه أوفى ما يَكونُ لَحمًا، وكَذلك لُطْفُ اللَّهِ سُبْحانَه بالآدَميِّ، فجَعَلَ قُوتَهُ من جَوهَرِ البُرِّ الحِنطةِ والشَّعيرِ والحُبوبِ، وجَعلَ العَصفَ الَّذي لا يَصلُحُ للآدَميينَ قُوتًا لدَوابِّهم الَّتي حَملَهم عليها، وجَعلَ الرَّوثَ والبَعرَ قوتًا لعِبادِهِ
الجِنِّ؛ ليُعلِمَكَ أيُّها الآدَميُّ أنَّه لَيسَ في خَلقِهِ شَيءٌ يَضيعُ، وأنَّ الأشياءَ على كثرَتِها قد قُدِّرَ لَها مِنَ المُرتَزِقَين بإزائِها في كُلِّ شَيءٍ)
[4286] يُنظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (2/ 107). .
وقال يَحيى بن أبي بَكرٍ العامِريُّ: (
((ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ عليهِ)) قيلَ: هَذا خاصٌّ بمُؤْمِنيهم، وأمَّا غَيرُهم فإنَّما طَعامُهم فيما لَم يُذكَرِ اسمُ اللَّهِ عليهِ)
[4287] يُنظر: ((بهجة المحافل وبغية الأماثل)) (1/124). .
وعَن
جابِر بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما أنَّه سَمَعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((إذا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيتَه، فذَكَرَ اللَّهَ عِندَ دُخولِهِ وعِندَ طَعامِهِ، قال الشَّيطانُ: لا مَبيتَ لَكُم، ولا عَشاءَ، وإذا دَخَلَ فلَم يَذكُرِ اللَّهَ عِندَ دُخولِهِ، قال الشَّيطانُ: أدرَكتُمُ المَبيتَ، وإذا لَم يَذكُرِ اللَّهَ عِندَ طَعامِهِ، قال: أدرَكتُمُ المَبيتَ والعَشاءَ )) [4288] رواه مسلم (2018). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (فيه ما يَدُلُّ على مَشروعيَّةِ التَّسميةِ عِندَ الطَّعامِ والشَّرابِ، وعلى بركَتِها، وعلى أنَّ للشَّيطانِ يَدًا، وأنَّه يُصيبُ مِنَ الطَّعامِ إذا لَم يُذكَرِ اللَّهُ تعالى عليهِ)
[4289] يُنظر: ((المفهم)) (5/ 294). .
وعَن حُذَيفةَ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: كُنَّا إذا حَضَرنا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَعامًا لَم نَضَع أيديَنا حَتَّى يَبدَأَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيَضَعَ يَدَه، وإنَّا حَضَرنا مَعَه مَرَّةً طَعامًا، فجاءَت جاريةٌ كأنَّها تدفَعُ، فذَهَبَت لتَضَعَ يَدَها في الطَّعامِ، فأخذَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيدِها، ثُمَّ جاء أعرابيٌّ كأنَّما يُدفَعُ فأخذَ بيدِهِ، فقال رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ الشَّيطانَ يَستَحِلُّ الطَّعامَ ألَّا يُذكَرَ اسمُ اللَّهِ عليهِ، وإنَّه جاءَ بهذه الجاريةِ ليَستَحِلَّ بها فأخَذْتُ بَيدِها، فجاءَ بهَذا الأعرابيِّ ليَستَحِلَّ بهِ فأخَذْتُ بيدَه، والَّذي نَفسي بيدِه، إنَّ يَدَه في يَدي مَعَ يَدِها )) [4290] رواه مسلم (2017). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (فيه مِنَ الفِقهِ أنَّ التَّسميةَ على الطَّعامِ مُؤَكَّدةٌ، وأنَّ اللَّه سُبْحانَه وتعالى يُبارِكَ في الطَّعامِ إذا ذُكِرَ اسمُ اللَّهِ تعالى عليهِ لحِمايَتِهِ مِنَ
الشَّيطانِ؛ فإنَّ
الشَّيطانَ إنَّما يُمكِنُه أن يُشارِكَ الإنسانَ في طَعامِهِ إذا لَم يَذكُرِ اسمَ اللَّهِ تعالى عليهِ؛ لأنَّ اسمَ اللَّهِ تعالى هوَ نُورٌ، كما قال اللهُ تعالى:
اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، فإذا ذُكِرَ اسمُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ على طَعامٍ شَملَ نورُ الإسلامِ ذلك الطَّعامَ، فإذا مَدَّ إليهِ يَدَه آدَميٌّ ولَم يَذكُرِ اسمَ اللَّهِ تعالى عليهِ أوجَد للشَّيطانِ طَريقًا من جِهَتِهِ فجَعَلَ يَدَهُ مَعَ يَدِهِ، وإنَّ
الشَّيطانَ لَم يُمكِنْه أن يَقْرَبَه حَتَّى جاءَ بالمَرأةِ كأنَّها تُدفَعُ فأمسَكَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَها، ثُمَّ جاءَ بأعرابي كأنَّه يُدفَعُ، فأمسَكَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدَهِ؛ لأنَّهُما جاءا إلى طَعامٍ لَم يُدْعيا إليهِ على فجأةٍ، ولَم يَتَقدَّمْ لَهُما إذْنٌ، فكانَ مِمَّا عَمِلاه من مُخالَفةِ الحَقِّ في ذلك كُلِّهِ طَواعيةُ
الشَّيطانِ، فلَم يُمكِّنْهُما رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من ذلك؛ لئَلَّا يَنفُذَ حُكمُ
الشَّيطانِ على أحَدٍ في مَجْلِسِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعلى طَعامٍ هوَ حاضِرُه، ألا تَراه يَقولُ:
((إنَّ يَدَه في يَدي مَعَ يَدِها)). وفيه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذَكرَ استِظهارَهُ على
الشَّيطانِ وقَهْرَه لَه)
[4291] يُنظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (2/ 253). .
وعَن
عَبد اللهِ بن عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُما أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا يَأكُلَنَّ أحَدٌ مِنكُم بشِمالِهِ، ولا يَشرَبَنَّ بها؛ فإنَّ الشَّيطانَ يَأكُلُ بشِمالِهِ، ويَشرَبُ بها )) [4292] رواه مسلم (2020). .
قال
النَّوَويُّ: (فيه أنَّه يَنبَغي اجتِنابُ الأفعالِ الَّتي تُشبِهُ أفعالَ الشَّياطينِ، وأنَّ للشَّياطينِ يَدَينِ)
[4293] يُنظر: ((شرح مسلم)) (13/ 192). .
وقال الشِّبْليُّ: (القائِلونَ إنَّ
الجِنَّ لا تَأكُلُ ولا تَشرَبُ، إن أرادوا أنَّ جَميعَ
الجِنِّ لا يَأكُلونَ ولا يَشرَبونَ، فهَذا قَولٌ ساقِطٌ؛ لمُصادَمَتِهِ الأحاديثَ الصَّحيحةَ، وإن أرادوا أنَّ صِنفًا مِنهم لا يَأكُلونَ ولا يَشرَبونَ، فهوَ مُحتَمَلٌ، غَيرَ أنَّ العُموماتِ تَقتَضي أنَّ الكُلَّ يَأكُلونَ ويَشرَبونَ)
[4294] يُنظر: ((آكام المرجان في أحكام الجان)) (ص: 56). .