الفَرعُ الأول: خصائِصُ نُوحٍ عليه السَّلامُ
1-
أوَّلُ رَسولٍ بُعِثَ إلى أهلِ الأرضِ بعد اختلافِهم على دينِهم، واجتيالِ الشَّيطانِ لهم.عن
أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يَجْتَمِعُ المُؤْمِنُونَ يَومَ القِيامَةِ، فيَقولونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنا إلى رَبِّنا، فَيَأْتُونَ آدَمَ فيَقولونَ: أنْتَ أبو النَّاسِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بيَدِهِ، وأَسْجَدَ لكَ مَلائِكَتَهُ، وعَلَّمَكَ أسْماءَ كُلِّ شيءٍ؛ فاشْفَعْ لنا عِنْدَ رَبِّكَ حتَّى يُرِيحَنا مِن مَكانِنا هذا، فيَقولُ: لَسْتُ هُناكُمْ، ويَذْكُرُ ذَنْبَهُ فَيَسْتَحِي، ائْتُوا نُوحًا؛ فإنَّه أوَّلُ رَسولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلى أهْلِ الأرْضِ، فَيَأْتُونَهُ...)) [536] أخرجه البخاري (4476) واللَّفظُ له، ومسلم (193). .
قال ابنُ بطَّالٍ: (فإن قال قائِلٌ: ما معنى قَولِ آدَمَ: ولكِنِ ائْتُوا نوحًا؛ فإنَّه أوَّلُ رَسولٍ بَعَثه اللهُ إلى أهلِ الأرضِ، وقد تقَدَّم آدَمُ قَبْلَه؟ فالجوابُ: أنَّ آدمَ لم يَكُنْ رسولًا؛ لأنَّ الرَّسولَ يقتضي مُرْسَلًا إليه في وقتِ الإرسالِ، وهو أُهبِطَ إلى الأرضِ وليس فيها أحدٌ. فإن قيل: لَمَّا تناسَلَ منه ولَدُه وَجَب أن يَكونَ رَسولًا إليهم؟ قيل: إنما أُهبِطَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الأرضِ وقد عَلَّمه اللهُ أمرَ دينِه وما يَلزَمُه مِن طاعةِ رَبِّه، فلمَّا حدث ولدُه بعده حمَلَهم على دينِه وما هو عليه من شريعةِ رَبِّه، كما أنَّ الواحِدَ منَّا إذا وُلِد له وَلَدٌ يَحمِلُه على سُنَّتِه وطريقتِه، ولا يستحِقُّ بذلك أن يُسَمَّى رَسولًا، وإنما سُمِّي نوحٌ رَسولًا لأنَّه بُعِث إلى قومٍ كُفَّارٍ لِيَدعوَهم إلى الإيمانِ)
[537] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (10/440). .
وقال عياضٌ: (قال الإمامُ يعني
المازريَّ مؤلِّفَ المُعْلِم بفوائد مُسلِم: «قد ذكر المؤرِّخون أن إدريسَ جَدُّ نوحٍ عليهما السَّلامُ، فإن قام الدليلُ على أنَّ إدريسَ بُعِث أيضًا لم يَصِحَّ قَولُ النَّسَّابِين: إنَّه قبل نوحٍ؛ لِما أخبر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من قولِ آدَمَ: إنَّ نوحًا أوَّلُ رَسولٍ بُعِثَ، وإنْ لم يقم دليلٌ جاز ما قالوا، وصَحَّ أن يُحمَلَ أنَّ إدريسَ كان نبيًّا غيرَ مُرْسَلٍ»).
ثم قال عياضٌ: (قد يُجمعُ بين هذا بأن يُقال: اختصَّ بَعثُ نوحٍ لأهلِ الأرضِ، كما قال في الحديثِ:
((كافَّةً)) [538] أخرجه البخاري (438) عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة، وأعطيت الشفاعة)). وأخرجه مسلم (523) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بى النبيون)). كنبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَكونُ إدريسُ لقَومِه كموسى وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ وغيرِهم، وقد استَدَلَّ بَعضُهم على هذا بقَولِه تعالى:
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ وقد قيل: إنَّ إلياسَ هو إدريسُ، وقد قرئ: «سلامٌ على إدرَاسِينَ» وكذلك إن قيل: إنَّ إدريسَ هو إلياسُ، وإنَّه كان نبيًّا من بني إسرائيلَ، كما جاء في بعضِ الأخبارِ مع يُوشَعَ بنِ نُونٍ، وإذا كان هذا فقد سقط الاعتراضُ.
وبمثلِ هذا أيضًا يسقُطُ الاعتراضُ بآدَمَ وشِيثٍ ورسالتِهما إلى من معهما وإن كانا رسولينِ، فإنَّ آدمَ إنما أرسِلَ لبنيه ولم يَكونُوا كفَّارًا، بل أُمِرَ بتعليمِهم الإيمانَ والتوحيدَ وطاعةَ الله، وكذلك خَلَفَهُ شيثٌ بعدَه فيهم، بخلافِ رسالةِ نوحٍ إلى كُفَّارِ أهلِ الأرضِ.)
[539] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (1/ 575). .
2- لَبِث في قومِه أَلْفَ سَنةٍ إلَّا خمسين عامًا، باذلًا وُسْعَه في الدَّعوةِ إلى اللهِ، وصابرًا على أذى قَومِه.
قال اللهُ تعالى:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ [العنكبوت: 14 - 15] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (هذه تسليةٌ مِنَ اللهِ تعالى لعَبْدِه ورسولِه مُحَمَّدٍ صَلَواتُ اللهِ وسلامُه عليه، يُخبِرُه عن نوحٍ عليه السَّلامُ أنَّه مكث في قَومِه هذه المدَّةَ يدعوهم إلى اللهِ ليلًا ونهارًا، وسِرًّا وجِهارًا، ومع هذا ما زادهم ذلك إلَّا فرارًا عن الحَقِّ، وإعراضًا عنه وتكذيبًا له، وما آمن معه منهم إلَّا قليلٌ؛ ولهذا قال:
فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [العنكبوت: 14] أي: بعد هذه المدَّةِ الطَّويلةِ ما نجَعَ فيهم البلاغُ والإنذارُ!)
[540] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 267). .
وقال اللهُ سُبحانَه في نوحٍ:
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح: 5 -10] .
قال
السَّعْديُّ: (لم يُجيبوا لدَعوتِه، ولا انقادوا لأمرِه، فقال شاكيًا لرَبِّه:
رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا [نوح: 5-6] أي: نُفورًا عن الحَقِّ وإعراضًا، فلم يَبْقَ لذلك فائدةٌ؛ لأنَّ فائِدةَ الدَّعوةِ أن يحصُلَ جميعُ المقصودِ أو بعضُه.
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ أي: لأجْلِ أن يستجيبوا، فإذا استجابوا غفرتَ لهم، فكان هذا مَحْضَ مَصلحتِهم، ولكِنَّهم أبَوْا إلَّا تماديًا على باطِلِهم، ونفورًا عن الحَقِّ،
جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ حَذَرَ سماعِ ما يقولُ لهم نبيُّهم نوحٌ عليه السَّلامُ،
وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ أي: تغَطَّوا بها غِطاءً يَغشاهم؛ بُعدًا عن الحَقِّ وبُغضًا له،
وَأَصَرُّوا على كُفرِهم وشَرِّهم
وَاسْتَكْبَرُوا على الحَقِّ
اسْتِكْبَارًا فشَرُّهم ازداد، وخيرُهم بَعُد!
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا أي: بمَسمَعٍ منهم كُلِّهم.
ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا كُلُّ هذا حِرصٌ ونُصحٌ، وإتيانُهم بكُلِّ بابٍ يُظَنُّ أن يحصُلَ منه المقصودُ.
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي: اترُكوا ما أنتم عليه من الذُّنوبِ، واستغفروا اللهَ منها.
إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا كثيرَ المغفرةِ لِمن تاب واستغفر؛ فرغَّبهم بمغفرةِ الذُّنوبِ، وما يترتَّبُ عليها من حُصولِ الثَّوابِ، واندفاعِ العِقابِ)
[541] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 888). .
3- سَمَّاه اللهُ تعالى عبدًا شَكُورًا.
قال اللهُ تعالى:
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء: 3] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال -كما في حديثِ الشَّفاعةِ الطَّويلِ-:
((فَيَأْتُونَ نُوحًا، فيَقولونَ: يا نُوحُ، أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إلى أَهْلِ الأرْضِ، وسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، أَما تَرَى إلى ما نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى إلى ما بَلَغَنَا، أَلَا تَشْفَعُ لَنَا إلى رَبِّكَ؟ )) [542] أخرجه البخاري (3340) واللَّفظُ له، ومسلم (194). .
قال
القُرطُبيُّ: (بيَّن أنَّ نوحًا كان عبدًا شَكُورًا يَشكُرُ اللهَ على نِعَمِه ولا يرى الخيرَ إلَّا من عِندِه)
[543] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/ 213). .