الفَرعُ الأوَّلُ: القُرآنُ
قد تحدَّى اللهُ سُبحانَه بالإتيانِ بمِثلِ هذا القُرآنِ أو بشيءٍ منه أفصحَ الأُمَمِ وأبلغَها بيانًا وأجزَلَها عبارةً.
قال
ابنُ تَيمِيَّةَ: (القُرآنُ كلامُ اللهِ، وفيه الدَّعوةُ والحُجَّةُ، فله به اختصاصٌ على غيرِه، كما ثبت عنه في الصَّحيحِ أنَّه قال:
((ما من نَبيٍّ من الأنبياء إلَّا وقد أوتِيَ من الآياتِ ما آمن على مِثْلِه البَشَرُ، وإنما كان الذي أوتيتُه وَحيًا أوحاه اللهُ إليَّ، فأرجو أنْ أكونَ أكثَرَهم تابعًا يومَ القيامةِ )) [933] أخرجه البخاري (4981)، ومسلم (152) باختلافٍ يسيرٍ مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
والقُرآنُ يَظهَرُ كونُه آيةً وبرهانًا له من وجوهٍ: جملةً وتفصيلًا؛ أما الجملةُ فإنَّه قد عَلِمَت الخاصَّةُ والعامَّةُ من عامَّةِ الأُمَمِ عِلمًا متواترًا أنَّه هو الذي أتى بهذا القُرآنِ، وتواترت بذلك الأخبارُ أعظَمَ من تواترِها بخبر كُلِّ أحدٍ من الأنبياءِ والملوكِ والفلاسفةِ، وغيرِهم.
والقُرآنُ نَفْسُه فيه تحدِّي الأُمَمِ بالمعارَضةِ، والتحَدِّي هو أن يَحدُوَهم: أي يَدعُوَهم فيَبعَثَهم إلى أن يعارِضُوه، فيقال فيه: حداني على هذا الأمرِ: أي: بَعَثني عليه، ومنه سمِّي حادي العِيسِ؛ لأنَّه بحُداه يبعَثُها على السَّيرِ.
وقد يريدُ بعضُ النَّاسِ بالتحَدِّي دعوى النُّبُوَّةِ، ولكِنَّه أصلُه الأوَّلُ، قال تعالى في سورةِ الطُّورِ:
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ [الطور: 33].
فهنا قال:
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ في أنَّه تقوَّله، فإنَّه إذا كان مُحَمَّدٌ قادِرًا على أن يتقَوَّلَه كما يَقدِرُ الإنسانُ على أن يتكَلَّمَ بما يتكَلَّمُ به من نَظمٍ ونَثرٍ، كان هذا ممكِنًا للنَّاسِ الذين هم من جِنْسِه، فأمكن النَّاسَ أن يأتوا بمِثْلِه.
ثم إنَّه تحدَّاهم بعَشرِ سُوَرٍ مِثْلِه، فقال تعالى:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [هود: 13] .
ثم تحَدَّاهم بسورةٍ واحدةٍ منه، فقال تعالى:
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 37، 38].
فطلب منهم أن يأتوا بعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِه مُفتَرَياتٍ هم وكُلُّ من استطاعوا من دونِ اللهِ، ثُمَّ تحدَّاهم بسورةٍ واحدةٍ هم ومن استطاعوا، قال:
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [هود: 14] .
وهذا أصلُ دَعْوَتِه، وهو الشَّهادةُ بأنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ، والشَّهادةُ بأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ.
وقال تعالى:
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [هود: 14] .
كما قال:
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ [النساء: 166] .
أي: هو يَعْلَم أنَّه مُنَزَّلٌ، لا يَعْلَمُ أنَّه مُفترًى، كما قال:
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ [يونس: 37] . أي: ما كان لأنْ يفترى، يقولُ: ما كان لِيَفعَلَ هذا. فلم يَنْفِ مجرَّدَ فِعْلِه، بل نفى احتِمالَ فِعْلِه، وأخبر بأنَّ مِثلَ هذا لا يقَعُ، بل يمتنعُ وُقوعُه، فيَكونُ المعنى: ما يمكِنُ ولا يحتَمِلُ ولا يجوزُ أن يُفتَرَى هذا القُرآنُ من دونِ اللهِ؛ فإنَّ الذي يفتريه من دونِ اللهِ مخلوقٌ، والمخلوقُ لا يَقْدِرُ على ذلك.
وهذا التحَدِّي كان بمكَّةَ، فإنَّ هذه السُّوَرَ مَكِّيَّةٌ؛ سورةُ يونُسَ، وهودٍ، والطِّورِ.
ثم أعاد التحَدِّي في المدينةِ بعد الهِجرةِ، فقال في «البقرة» وهي سورةٌ مدَنِيَّةٌ:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 23] ، ثُمَّ قال:
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة: 24] .
فذكر أمرَينِ: أحَدُهما قَولُه:
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ [البقرة: 24] .
يقولُ: إذا لم تفعَلوا فقد عَلِمْتُم أنَّه حَقٌّ، فخافوا اللهَ أن تُكَذِّبوه، فيَحيقَ بكم العذابُ الذي وعد به المكَذِّبين، وهذا دعاءٌ إلى سبيلِ رِبِّه بالموعِظةِ الحَسَنةِ، بعد أن دعاهم بالحِكْمةِ، وهو جدالُهم بالتي هي أحسَنُ.
والثَّاني قَولُه:
وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: 24] .
و«لن» لنَفيِ المُستقبَلِ، فثبت الخبرُ أنَّهم فيما يُستقبَلُ مِنَ الزَّمانِ لا يأتون بسورةٍ مِن مِثْلِه كما أخبر قبل ذلك، وأمَرَه أن يقولَ في سورةِ «سُبحان»، وهي سورةٌ مَكِّيَّةٌ، افتتحها بذِكرِ الإسراءِ، وهو كان بمكَّةَ بنَصِّ القُرآنِ والخبرِ المتواتِرِ، وذكر فيها من مخاطبَتِه للكُفَّارِ بمكَّةَ ما يُبَيِّنُ ذلك، بقَولِه:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88] .
فعَمَّ بالخَبَرِ جميعَ الخلقِ مُعَجِّزًا لهم، قاطعًا بأنَّهم إذا اجتمعوا كُلُّهم لا يأتون بمِثْلِ هذا القُرآنِ، ولو تظاهروا وتعاونوا على ذلك، وهذا التحَدِّي والدُّعاءُ هو لجميعِ الخَلْقِ، وهذا قد سمعه كُلُّ من سمع القُرآنَ، وعرَفَه الخاصُّ والعامُّ، وعَلِمَ مع ذلك أنَّهم لم يُعارِضوه، ولا أتَوا بسُورةٍ مِثْلِه، ومن حينِ بُعِثَ وإلى اليومِ الأمرُ على ذلك)
[934] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) (5/ 422). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (كِتابُ دلائِلِ النُّبُوَّةِ.
وهي معنويَّةٌ وحِسِّيَّةٌ؛ فمن المعنويَّةِ: إنزالُ القُرآنِ العظيمِ عليه، وهو أعظَمُ المُعْجِزاتِ، وأبهَرُ الآياتِ، وأبيَنُ الحُجَجِ الواضِحاتِ؛ لِما اشتمل عليه من التركيبِ المُعْجِزِ الذي تحدَّى به الإنسَ والجِنَّ أن يأتوا بمِثْلِه، فعجزوا عن ذلك، مع توافُرِ دواعي أعدائِه على معارضتِه وفصاحتِهم وبلاغتِهم. ثُمَّ تحدَّاهم بعَشرِ سُوَرٍ مِثلِه، فعَجزوا، ثُمَّ تنازل إلى التحَدِّي بسورةٍ من مثلِه، فعَجَزوا عنه، وهم يَعْلَمون عَجْزَهم وتقصيرَهم عن ذلك، وأنَّ هذا ما لا سبيلَ لأحدٍ إليه أبدًا؛ قال اللهُ تعالى:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88] ، وهذه الآيةُ مكِّيَّةٌ، وقال في سورةِ الطُّورِ، وهي مَكِّيَّةٌ:
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ [الطور: 33، 34]، أي: إن كنتُم صادِقين في أنَّه قاله من عندِه، فهو بَشَرٌ مِثْلُكم، فأْتُوا بمِثْلِ ما جاء به فإنَّكم بَشَرٌ مِثْلُه. وقال تعالى في سورةِ البقَرةِ، وهي مدنيَّةٌ، مُعيدًا للتحدِّي:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 23، 24].
وقال تعالى:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود: 13، 14].
وقال تعالى:
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتاب لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [يونس: 37 - 39].
فبَيَّن تعالى أنَّ الخَلقَ عاجزون عن معارضةِ هذا القُرآنِ، بل عن عَشرِ سُوَرٍ مِثْلِه، بل عن سورةٍ منه، وأنَّهم لا يستطيعون ذلك أبدًا، كما قال تعالى:
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: 24] أي: فإن لم تفعلوا في الماضي ولن تستطيعوا ذلك في المستقبَلِ، وهذا تحدٍّ ثانٍ، وهو أنَّه لا يمكِنُ معارضتُهم له لا في الحالِ ولا في المآلِ، ومِثلُ هذا التحدِّي إنما يصدُرُ عن واثقٍ بأنَّ ما جاء به لا يمكِنُ البَشَرَ معارضتُه ولا الإتيانُ بمِثْلِه، ولو كان من متقَوِّلٍ من عند نفسِه لخاف أن يعارَضَ، فيُفتَضَحَ ويعودَ عليه نقيضُ ما قصَدَه من متابعةِ النَّاسِ له، ومعلومٌ لكُلِّ ذي لُبٍّ أنَّ مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أعقَلِ خَلقِ اللهِ، بل أعقَلُهم وأكمَلُهم على الإطلاقِ في نفسِ الأمرِ، فما كان ليُقدِمَ على هذا إلَّا وهو عالمٌ بأنَّه لا يمكِنُ معارضتُه، وهكذا وقع، فإنَّ مِن لَدُنْ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإلى زمانِنا هذا لم يستطِعْ أحدٌ أن يأتيَ بنظيرِه ولا نظيرِ سُورةٍ منه، وهذا لا سبيلَ إليه أبدًا، فإنَّه كلامُ رَبِّ العالَمِينَ الذي لا يُشبِهُه شيءٌ من خَلْقِه؛ لا في ذاتِه، ولا في صِفاتِه، ولا في أفعالِه، فأنَّى يُشبِهُ كلامُ المخلوقين كلامَ الخالِقِ؟!)
[935] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (8/ 539-541). .
وقال أيضًا: (مُحَمَّدٌ صَلَواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعليهم أجمعين، بُعِثَ في زمَنِ الفُصَحاءِ البُلَغاءِ، فأنزل اللهُ عليه القُرآنَ العظيمَ، الذي لا يأتيه الباطِلُ من بينِ يديه ولا مِن خَلْفِه، تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ، فلَفظُه مُعْجِزٌ تحدَّى به الإنسَ والجِنَّ أن يأتوا بمِثْلِه أو بعَشرِ سُوَرٍ مِن مِثْلِه، أو بسورةٍ، وقطع عليهم بأنَّهم لا يَقدِرون لا في الحالِ ولا في الاستقبالِ
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا وما ذاك إلَّا لأنَّه كلامُ الخالِقِ، عَزَّ وجَلَّ، واللهُ تعالى لا يُشبِهُه شيءٌ لا في ذاتِه ولا في صِفاتِه ولا في أفعالِه)
[936] يُنظر: ((البداية والنهاية)) (2/ 486). .
وقال
حافِظٌ الحَكَميُّ: (لَمَّا أراد مُسيلِمةُ الكَذَّابُ معُارضَتَه مُكابرةً ومُباهاةً مع عِلْمِه أنَّه لا يقدِرُ على شيءٍ البتَّةَ، فلما فعل ذلك جعل اللهُ تعالى كلامَه أسمَجَ ما يُسمَعُ وأركَّ ما يُنطَق به، وصار أضحوكةً للصِّبيانِ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ، حتى إنَّه لا يُشبِهُ كلامَ العُقلاءِ ولا المجانينِ ولا النِّساءِ ولا المخَنَّثينَ، وصار كَذِبُه معلومًا عند كُلِّ أحدٍ، ووسمه اللهُ عَزَّ وجَلَّ على لسانِ نبيِّه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باسمِ الكَذَّابِ، فلا يسمَّى إلَّا به، ولا يُعرَفُ إلَّا به، حتى صار أشهَرَ عليه مِن العَلَمِ، بل لا عَلَمَ له غيرُه أبدًا، ويُروى أنَّ أصحابَ الفيلسوفِ الكِنديِّ قالوا له: أيُّها الحكيمُ، اعمَلْ لنا مِثلَ هذا القُرآنِ، فقال: نعَمْ، أعمَلُ مِثْلَ بَعْضِه، فاحتجب أيامًا كثيرةً ثُمَّ خرج فقال: واللهِ ما أقدِرُ ولا يطيقُ هذا أحدٌ! إني فتحتُ المصحَفَ فخرَجَت سورةُ المائدةِ، فنظَرْتُ فإذا هو قد نطق بالوفاءِ ونهى عن النَّكْثِ وحَلَّل تحليلًا عامًّا، ثُمَّ استثنى بعد استثناءٍ، ثُمَّ أخبر عن قُدرتِه وحِكْمتِه في سَطرَينِ، ولا يَقدِرُ أحدٌ أن يأتيَ بهذا! قلتُ: وهذا الذي قاله الفيلسوفُ مِقدارُ فَهْمِه ومَبلَغُ عِلْمِه، وإلَّا فبلاغةُ القُرآنِ فوق ما يصِفُ الواصفون، وكيف يَقدِرُ البَشَرُ أن يَصِفوا صِفاتِ من ليس كمِثْلِه شَيءٌ وهو السَّميعُ البصيرُ)
[937] يُنظر: ((معارج القبول)) (3/ 1100). .