المَبحَثُ الرَّابعُ: الدُّنيا دارُ عُبورٍ والآخِرةُ دارُ القَرارِ
عَن
عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهما قال: أخَذَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمَنكِبي فقال:
((كُنْ في الدُّنيا كأنَّكَ غَريبٌ أو عابرُ سَبيلٍ))، وكانَ
ابنُ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنهما يَقولُ:
((إذا أمسيتَ فلا تَنتَظِرِ الصَّباحَ، وإذا أصبَحْتَ فلا تَنتَظِرِ المَساءَ. وخُذْ من صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، ومن حَياتِكَ لِمَوتِكَ )) [1343] أخرجه البخاري (6416). قال
ابنُ رَجَبٍ: (هَذا الحَديثُ أصلٌ في قِصَرِ الأمَلِ في الدُّنيا، وأنَّ المُؤمِنَ لا يَنبَغي لَه أن يَتَّخِذَ الدُّنيا وطنًا ومَسكَنًا، فيَطمَئِنَّ فيها، ولَكِن يَنبَغي أن يَكونَ فيها كأنَّه على جَناحِ سَفرٍ؛ يُهَيِّئُ جَهازَه لِلرَّحيلِ. وقَدِ اتَّفقَت على ذلك وصايا الأنبياءِ وأتباعِهم، قال تعالى حاكيًا عَن مُؤمِنِ آلِ فرعونَ أنَّه قال:
يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر: 39] . وكانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((ما لي ولِلدُّنيا إنَّما مَثَلي ومَثَلُ الدُّنيا كَمَثَلِ راكِبٍ قالَ في ظِلِّ شَجَرةٍ، ثُمَّ راحَ وتَركَها )) [1344] أخرجه الترمذي (2377)، وابن ماجه (4109)، وأحمد (3709) باختلاف يسير من حَديثِ عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه الترمذي، وابن القيم في ((عدة الصابرين)) (1/299)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4109)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (3709)، وصحَّح إسنادَه ابن تيمية في ((الجواب الصحيح)) (5/480)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (5/264). ....
وأمَّا وصيَّةُ
ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهما، فهيَ مأخوذةٌ من هَذا الحَديثِ الَّذي أخرجه، وهيَ مُتَضَمِّنةٌ لنِهايةِ قِصَرِ الأمَلِ، وأنَّ الإنسانَ إذا أمسَى لَم يَنتَظِرِ الصَّباحَ، وإذا أصبَحَ لَم يَنتَظِرِ المَساءَ، بَل يَظُنُّ أنَّ أجلَه يُدرِكُه قَبلَ ذلك، وبهَذا فسَّرَ غَيرُ واحِدٍ مِنَ العُلَماءِ الزُّهْدَ في الدُّنيا، قال المَروزيُّ: قُلتُ لِ
أبي عَبدِ اللهِ -يعني
أحمَدَ- أيُّ شَيءٍ الزُّهدُ في الدُّنيا؟ قال: قِصَرُ الأمَلِ من إذا أصبَحَ قال: لا أُمْسِي، قال: وهَكَذا قال سُفيانُ...
قَولُه:
((وخُذْ من صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ، ومن حَياتِكَ لِمَوتِكَ )) يعني: اغتَنِمِ الأعمالَ الصَّالِحةَ في الصِّحَّةِ قَبلَ أن يَحولَ بَينَكَ وبَينَها السَّقَمُ، وفي الحَياةِ قَبلَ أن يَحولَ بَينَكَ وبَينَها المَوتُ،... وعَنِ
ابنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((نِعْمَتانِ مَغبونٌ فيهما كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ )) [1345] أخرجه البخاري (6412). . وفي صَحيحِ
الحاكِمِ عَنِ
ابنِ عِباسِ أنَّ رَسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لِرَجُلٍ وهو يَعِظُه:
((اغتَنِم خَمسًا قَبلَ خَمسٍ: شَبابَكَ قَبلَ هَرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قَبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قَبلَ فَقرِكَ، وفَراغَكَ قَبلَ شُغلِكَ، وحَياتَكَ قَبلَ مَوتِكَ )) [1346] أخرجه ابن أبي الدنيا في ((قصر الأمل)) (111)، والحاكم (7846)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (10248). صَحَّحه الحاكم على شرط الشيخين، والألباني في ((صحيح الجامع)) (1077)، وحسَّن إسنادَه العراقي في ((تخريج الإحياء)) (5/204)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((رياض الصالحين)) (1/204). [1347] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 377-387). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (أعطَى اللهُ نَبيَّه جَوامِعَ الكَلِمِ، هاتانِ الكَلِمَتانِ يُمكِنُ أن تَكونا نِبراسًا يَسيرُ الإنسانُ عليه في حَياتِه
((كُنْ في الدُّنيا كأنَّكَ غَريبٌ أو عابِرُ سَبيلٍ )).
والفرقُ بَينَهما أنَّ عابرَ السَّبيلِ ماشٍ يَمُرُّ بالقَريَةِ وهو ماشٍ مِنها. وأمَّا الغَريبُ فهو مُقيمٌ فيها حَتَّى يَرتَحِلَ عَنها، يُقيمُ فيها يَومَينِ أو ثَلاثةً أو عَشَرةً أو شَهرًا، وكُلٌّ مِنهما لا عابرُ السَّبيلِ ولا الغَريبُ، كُلٌّ مِنهما لَم يَتَّخِذِ القَريَةَ الَّتي هو فيها، لَم يَتَّخِذْها وطَنًا وسَكَنًا وقَرارًا.
فيَقولُ الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: كُنْ في الدُّنيا كَهَذا الرَّجُلِ؛ إمَّا غَريبٌ، أو عابرُ سَبيلٍ)
[1348] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (3/ 458). .
وعَن
عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: خَطَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَطًّا مُرَبَّعًا، وخَطَّ خَطًّا في الوسَطِ خارِجًا مِنه، وخَطَّ خُطَطًا صِغارًا إلَى هَذا الَّذي في الوسَطِ من جانِبِه الَّذي في الوسَطِ، وقال:
((هَذا الإنسانُ، وهَذا أجَلُه مُحيطٌ به، أو قَد أحاطُ به، وهَذا الَّذي هو خارِجٌ أمَلُه، وهَذِه الخُطَطُ الصِّغارُ الأعراضُ، فإنْ أخطَأَه هَذا نَهشَه هَذا، وإنْ أخطَأَه هَذا نَهشَه هَذا )) [1349] أخرجه البخاري (6417). .
وعَن
أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: خَطَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خُطوطًا، فقال:
((هَذا الأمَلُ، وهَذا أجَلُه، فبَينَما هو كَذلك إذ جاءَه الخَطُّ الأقرَبُ )) [1350] أخرجه البخاري (6418). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (الإشارةُ بقَولِه:
((هَذا الإنسانُ)) إلَى النُّقطةِ الدَّاخِلةِ، وبقَولِه:
((وهَذا أجلُه مُحيطٌ به)) إلَى المُرَبَّعِ، وبقَولِه:
((وهَذا الَّذي هو خارِجٌ أمَلُه)) إلَى الخَطِّ المُستَطيلِ المُنفرِدِ، وبقَولِه:
((وهَذِه)) إلَى الخُطوطِ، وهيَ مَذكورةٌ على سَبيلِ المِثالِ لا أنَّ المُرادَ انحِصارُها في عَدَدٍ مُعَيَّنٍ... إنَّ لِلخَطِّ الدَّاخِلِ اعتِبارَينِ، فالمِقدارُ الدَّاخِلُ مِنه هو الإنسانُ، والخارِجُ أملُه، والمُرادُ بالأعراضِ: الآفاتُ العارِضةُ لَه، فإنْ سَلِمَ من هَذا لَم يَسلَمْ من هَذا، وإن سَلِمَ مِنَ الجَميعِ ولَم تُصِبه آفةٌ من مَرَضٍ أو فَقْدِ مالٍ أو غَيرِ ذلك، بغَتَه الأجَلُ. والحاصِلُ أنَّ مَن لَم يَمُتْ بالسَّبَبِ مات بالأجَلِ. وفي الحَديثِ إشارةٌ إلَى الحَضِّ على قِصَرِ الأمَلِ والاستِعدادِ لِبَغتةِ الأجَلِ، وعَبَّرَ بالنَّهْشِ -وهو لَدْغُ ذاتُ السُّمِّ- مُبالَغةً في الإصابةِ والإهلاكِ)
[1351] يُنظر: ((فتح الباري)) (11/ 238). .