المَبحَثُ الخامِسُ: حُضورُ الشَّيطانِ عند المَوتِ
إذا حضر الموتُ كان
الشيطانُ حريصًا على الإنسانِ حتى لا يُفلِتَ منه.
قال اللهُ:
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون: 97، 98].
قال
ابنُ كَثيرٍ: (قَولُه:
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أي: في شَيءٍ من أمري؛ ولِهَذا أُمِرَ بذِكرِ اللَّه في ابتِداءِ الأُمورِ -وذلك مَطْرَدةٌ لِلشَّياطينِ- عِندَ الأكلِ والجِماعِ والذَّبحِ، وغَيرِ ذلك مِنَ الأمورِ)
[1410] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 492). .
وقال
الشِّنقيطيُّ: (الظَّاهِرُ في قَولِه:
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أنَّ المعنى: أعوذُ بك أن يحضُرَني
الشيطانُ في أمرٍ من أموري كائنًا ما كان، سواءٌ كان ذلك وقتَ تلاوةِ القُرآنِ، كما قال تعالى:
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، أو عند حضورِ الموتِ، أو غيرِ ذلك من جميعِ الشُّؤونِ في جميعِ الأوقاتِ. والعِلمُ عند اللهِ تعالى)
[1411] يُنظر: ((أضواء البيان)) (5/353). .
وعَن
جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ الشَّيطانَ يَحضُرُ أحَدَكُم عِندَ كُلِّ شَيءٍ من شأنِه )) [1412] أخرجه مسلم (2033). .
قال
النووي: (فيه التحذيرُ منه والتنبيهُ على ملازمَتِه للإنسانِ في تصَرُّفاتِه؛ فينبغي أن يتأهَّبَ ويحترِزَ منه، ولا يغتَرَّ بما يُزَيِّنُه له)
[1413] يُنظر: ((شرح مسلم)) (13/ 205). .
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: كانَ رَسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدعو:
((اللَّهمَّ إنِّي أَعوذُ بكَ من عَذابِ القَبرِ، ومن عَذابِ النَّارِ، ومن فتنةِ المَحيا والمَماتِ، ومن فتنةِ المُسيحِ الدَّجَّالِ )) [1414] أخرجه البخاري (1377) واللَّفظُ له، ومسلم (588). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه:
((ومن فتنةِ المَحيا والمَمَاتِ)) أيِ: الحَياةِ والمَوتِ، ويَحتَمِلُ: زَمانَ ذلك... ويُريدُ بذلك: مَحنةَ الدُّنيا وما بَعدَها. ويَحتَمِلُ أن يُريدَ بذلك: حالةَ
الاحتِضارِ، وحالةَ المُساءَلةِ في القَبرِ، فكأنَّه لَمَّا استَعاذَ من فتنةِ هَذينِ المَقامينِ، سألَ التَّثْبيتَ فيهما، كَما قال تعالى:
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، واللَّه أعلَمُ)
[1415] يُنظر: ((المفهم)) (2/ 208). .
وقال
ابنُ دَقيقِ العيدِ: (
((فِتنةُ المَحْيا)): ما يَتَعَرَّضُ لَه الإنسانُ مُدَّةُ حَياتِه مِنَ الافِتَتانِ بالدُّنيا والشَّهَواتِ والجَهالاتِ، وأشَدُّها وأعظَمُها والعياذُ باللهِ تعالى: أمرُ الخاتِمةِ عِندَ المَوتِ، و
((فتنةُ المَمَاتِ)) يَجوزُ أن يُرادَ بها الفتنةُ عِندَ المَوتِ. أضيفَت إلَى المَوتِ لِقُربِها مِنه. وتَكونُ فتنةُ المَحيا على هَذا ما يَقَعُ قَبلَ ذلك في مُدَّةِ حَياةِ الإنسانِ وتَصَرُّفِه في الدُّنيا؛ فإنَّ ما قارَبَ شَيئًا يُعطَى حُكمَه. فحالةُ المَوتِ تُشبَّهُ بالمَوتِ، ولا تُعَدُّ مِنَ الدُّنيا. ويَجوزُ أن يَكونَ المُرادُ بفِتنةِ المَمَاتِ:
فتنةَ القَبرِ)
[1416] يُنظر: ((إحكام الأحكام)) (1/ 311). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (أمَّا عَرْضُ الأديانِ على العَبدِ وقتَ المَوتِ فلَيسَ هو أمرًا عامًّا لِكُلِّ أحَدٍ، ولا هو أيضًا مُنتَفيًا عَن كُلِّ أحَدٍ، بَل مِنَ النَّاسِ من تُعْرَضُ عليه الأديانُ قَبلَ موتِه، ومِنهم من لا تُعرَضُ عليه، وقَد وقَعَ ذلك لِأقوامٍ، وهَذا كُلُّه من فتنةِ المَحيا والمَمَاتِ الَّتي أُمِرْنا أن نَستَعيذَ مِنها في صَلاتِنا... ولَكِنْ وقتَ المَوتِ أحرَصُ ما يَكونُ
الشَّيطانُ على إغواءِ بَني آدَمَ؛ لِأنَّه وقتُ الحاجةِ، وقَد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحَديثِ الصَّحيحِ:
((الأعمالُ بخَواتيمِها)) [1417] أخرجه البخاري (6493) من حَديثِ سهل بن سعد الساعدي رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّ العَبدَ ليَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ الجَنَّةِ حَتَّى ما يَكونُ بَينَه وبَينَها إلَّا ذِراعٌ فيَسبِقُ عليه الكِتابُ فيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ النَّارِ فيَدخُلُها، وإنَّ العَبدَ ليَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ النَّارِ حَتَّى ما يَكونُ بَينَه وبَينَها إلَّا ذِراعٌ فيَسبِقُ عليه الكِتابُ فيَعمَلُ بعَمَلِ أهلِ الجَنةِ فيَدخُلُها )) [1418] أخرجه البخاري (7454)، ومسلم (2643) باختلاف يسير من حَديثِ عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عنه. [1419] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (4/255). .
وقال
ابنُ الجَوزيِّ: (قَد يَعرِضُ
إبليسُ لِلمَريضِ والمُحتَضَرِ فيُؤَذيه في دينِه ودُنياه... وقَد يَستَولي على الإنسانِ حينَئِذٍ فيُضِلُّه في اعتِقادِه، ورُبَّما حالَ بَينَه وبَينَ التَّوبةِ... ورُبَّما جاءَ الاعتِراضُ على المُقَدَّرِ؛ فيَنبَغي لِلمُؤمِنِ أن يَعلَمَ أنَّ تِلكَ السَّاعةَ هيَ مَصدوقةٌ لِلحَربِ، وحينَ يَحمي الوطيسُ فيَنبَغي أن يَتَجَلَّدَ، ويَستَعينَ باللهِ على العَدُوِّ)
[1420] يُنظر: ((الثبات عند الممات)) (ص: 57). .
وعن
عبدالله بن أحمد بن حنبل يقول: (لما حضرت أبي الوفاة جلست عنده وبيدي الخرقة لأشد بها لحييه فجعل يعرق ثم يفيق ثم يفتح عينيه ويقول بيده هكذا لا بعد ففعل هذا مرة وثانية فلما كان في الثالثة قلت له يا أبة أي شيء هذا قد لهجت به في هذا الوقت تعرق حتى نقول قد قبضت ثم تعود فتقول لا لا بعد فقال لي يا بني ما تدري قلت لا قال
إبليس لعنه الله قائم حذائي عاض علي أنامله يقول لي يا أحمد فتني فأقول له لا بعد حتى أموت)
[1421] أخرجه ابن الجوزي في ((الثبات عند الممات)) (ص160) قال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (11/341): حكاية غريبة، تفرد بها ابن علم، وقال أيضاً في (15/544): حكايته عن عبد الله بن أحمد في قول أبيه، لا تعد منكرة. .
وقال القُرطُبيُّ: (سَمِعْتُ شَيخَنا الإمامَ أبا العَبَّاسِ أحمَدَ بْنَ عُمَرَ القُرطُبيَّ، يَقولُ: حَضَرْتُ أخَا شَيخِنا أبي جَعفَرٍ أحمَدَ بنِ مُحَمَّدٍ القُرطُبيِّ بقُرطُبةٍ، وقَدِ احتُضِرَ، فقيلَ لَه: قُلْ: لا إلَه إلَّا اللَّهُ، فكانَ يَقولُ: لا، لا، فلَمَّا أفاقَ، ذَكَرْنا لَه ذلك، فقال: أتاني شَيطانانِ عَن يَميني وعَن شِمالي، يَقولُ أحَدُهما: مُتْ يَهوديًّا؛ فإنَّه خَيرُ الأديانِ، والآخَرُ يَقولُ: مُتْ نَصرانيًّا فإنَّه خَيرُ الأديانِ، فكُنتُ أقولُ لَهما: لا، لا، إلَيَّ تَقولانِ هَذا؟!)
[1422] يُنظر: ((التذكرة)) (1/ 50). .