الفَصلُ الثَّالِثُ: أهَمِّيَّةُ مَعرِفةِ عَلاماتِ السَّاعةِ
إنَّه مِن رَحمةِ الله تَبارَكَ وتعالى أنْ أطلَعَ عِبادَه على ما سَيَقَعُ بينَ يَدَيِ السَّاعةِ مِن أمورٍ وأحوالٍ وأهوالٍ هيَ بمَثابةِ عَلاماتٍ تَدُلُّنا على قُربِ وُقوعِ السَّاعةِ.
وفي ذلك تَحذيرٌ مِنَ اللهِ تعالى لِعِبادِه عَنِ الغَفلةِ والرُّكونِ إلَى المُلهِيَاتِ، وحَثٌّ لَهم على المُبادَرةِ إلَى التَّوبةِ وعَمَلِ الصَّالِحاتِ، وبشارةٌ وتَثبيتٌ لِلمُؤمِنينَ المُداوِمينَ على الطَّاعاتِ.
وقَد كانَ اهتِمامُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهَذا الأمرِ اهتِمامًا بالِغًا جِدًّا، وهَذا مِن شَفقَتِه ورأفتِه ورَحمَتِه بأمَّتِه.
فهناكَ خُطوبٌ مُدْلَهِمَّةٌ، وعَواصِفُ مِنَ الفتَنِ مُلِمَّةٌ، وهَذا العِلمُ يأتي بمَثابةِ نُورٍ في الظُّلُماتِ، وحَبلٌ يُستَمسَكُ به عِندَ وُقوعِ الأزماتِ.
ولَم يَسْلَمْ هَذا العِلمُ كَغَيرِه مِن وُقوعِ التَّشكيكِ في بَعضِ جَوانِبه، أوِ التَّقليلِ مِن أهَمِّيَّتِه، أو دُخولِ التَّحريفِ في بَعضِ مَضامِينِه.
ومِمَّا يَدُلُّ على أهَمِّيَّتِه اعتِبارُه عِلمًا قائِمًا بذاتِه حَتَّى في عَدَدٍ مِنَ الأديانِ والمَذاهبِ مِمَّا اصطُلِحَ على تَسميَتِه بعِلمِ آخِرِ الزَّمانِ (ESCHATOLOGY)؛ إذ يُتَعَرَّضُ فيه لِلأحداثِ النِّهائيَّةِ لِلتَّاريخِ، ومَصيرِ البَشَرِ في نِهايةِ العالَمِ.
ومَهما يَكُنْ مِنِ اهتِمامِ كُلِّ دينٍ أو مَذهَبٍ بذلك، فإنَّه لا يُشَكِّلُ شَيئًا حَقيقيًّا مَذكورًا بجانِب ما لَدَى الإسلامِ مِن ثَروةٍ مَعرِفيَّةٍ كَبيرةٍ، كَثيفةٍ، عَميقةٍ، وصَحيحةٍ في هَذا المَجالِ، وذلك عَبرَ استِمدادِه أصالةً مِنَ القُرآنِ الكِريمِ وصَحيحِ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ.
وقَدِ اهتَمَّ أهَلُ العِلمِ قَديمًا وحَديثًا بهَذا العِلمِ، وتَعَرَّضوا لَه كَثيرًا، سَواءٌ في أثناءِ تَفسيرِهم لِآياتٍ مِن كِتاب اللهِ عزَّ وجَلَّ، أو شَرحِ أحاديثَ مِن سُنَّةٍ نَبيِّنا مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو فيما عَقدوه مِن أبوابٍ في كُتُبِ الاعتِقادِ، كَما قامَ بَعضُهم بوضعِ مُصَنَّفاتٍ خاصَّةٍ ب
أشراطِ السَّاعةِ.
ومِن ذلك على سَبيلِ المِثالِ:1- كِتابُ الفتَنِ لِنَعيم بن حَمَّادٍ.
2- السُّنَنُ الوارِدةُ في الفتَنِ وغَوائِلِها والسَّاعةِ وأشراطِها لِلدَّارميِّ.
3- التَّذكِرةُ
لِلقُرطُبيِّ.
4- النِّهايةُ في الفتَنِ والمَلاحِمِ لِ
ابنِ كَثيرٍ.
5- القَناعةُ فيما يَحسُنُ الإحاطةُ به مِن
أشراطِ السَّاعةِ لِلسَّخاويِّ.
6- الإشاعةُ لِ
أشراطِ السَّاعةِ لِلبَرزنجيِّ.
7- إتحافُ الجَماعةِ بما جاءَ في الفتَنِ والمَلاحِمِ و
أشراطِ السَّاعةِ لِحُمُود التُّويجريِّ.
8-
أشراطُ السَّاعةِ لِعَبد الله الغفيليِّ.
9-
أشراطُ السَّاعةِ للوابلِ.
10- نِهايةُ العالَمِ لِلعريفيِّ.
11- الموسوعةُ في الفتَنِ والمَلاحِمِ و
أشراطِ السَّاعةِ لِمُحَمَّدِ أحمد المبيضِ.
وأخيرًا فإنَّه يَكفي لِبَيانِ أهَمِّيَّةِ عِلمِ دِراسةِ الأحداثِ الَّتي تَقَعُ بينَ يَدَيِ السَّاعةِ أنَّه مِنَ الأمورِ المُعِينةِ على تَدَبُّرِ القُرآنِ الكَريمِ وحُسنِ تَنزيلِ آياتِه ومَعانيها على واقِعِنا المَعاصِرِ دونَ شَطَطٍ وتَكَلُّفٍ، بحَيثُ يَفهَمُ المُسلِم مُجريَاتِ الأحداثِ وطَبيعةَ تَطَوُّراتِها وتَقَلُّباتِها، ومَعرِفةَ مَآلاتِها، مُستَشعِرًا مَعانيَ خِطاب الرَّبِّ سُبحانَه عَبرَ هَذا الكِتابِ المُنيرِ.
قال البَرزنجيُّ: (قَد قال تعالى:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ.
وقال تعالى:
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا.
وقال تعالى:
هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ.
وقال تعالى:
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا.
إلَى غَيرِ ذلك مِنَ الآياتِ. وأمَّا الأحاديثُ فلا تَكادُ تَنحَصِرُ...
ولَمَّا كانَتِ الدُّنيا لَم تُخلَقْ لِلبَقاءِ ولَم تَكُن دارَ إقامةٍ، وإنَّما هيَ مَنزِلٌ مِن مَنازِلِ الآخِرةِ، جُعِلَت لِلتَّزَوُّدِ مِنها إلَى الآخِرةِ، والتَّهَيُّؤِ لِلعَرضِ على الله ولَقائِه، وقَد آذَنتْ بالانصِرامِ ووَلَّت؛ لِذا كانَ حَقًّا على كُلِّ عالِمٍ أن يُشِيعَ أشراطَها، ويَبُثَّ الأحاديثَ والأخبارَ الوارِدةَ فيها بينَ الأنامِ، ويَسرُدَها مَرَّةً بَعدَ أخرَى على العَوامِّ؛ فعَسَى أن يَنتَهوا عَن بَعضِ الذُّنوبِ، ويَلِينَ مِنهم بَعضُ القُلوبِ، ويَنتَبهوا مِن سِنَةِ الغَفلةِ، ويَغتَنِموا المُهلةَ قَبلَ الوَهْلةِ)
[1806] يُنظر: ((الإشاعة لأشراط الساعة)) (ص: 26). .
وقال السَّفَارينيُّ: (لَمَّا كانَ أمرُ السَّاعةِ شَديدًا، وهَولُها مَزيدًا، وأمَدُها بَعيدًا، كانَ الاهتِمامُ بشأنِها أكثَرَ مِن غَيرِها، وضَيرُها أكبَرَ مِن خَيرِها، وأكثَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن بَيانِ أشراطِها وأماراتِها، وأخبَرَ عَمَّا بينَ يَدَيها مِنَ الفتَنِ القَريبةِ والبَعيدةِ، ونَبَّهَ أمَّتَه لِأجلِ الاعتِدادِ لِقَطعِ تِلكَ العَقَبةِ الشَّديدةِ؛ فيَنبَغي لِكُلِّ ذي لُبٍّ كامِلٍ ورأيٍ فاضِلٍ أن يَشتَغِلَ بالأعمالِ الصَّالِحةِ، ولا يَنهَمِكَ في نَيلِ الشَّهَواتِ الفاضِحةِ)
[1807] يُنظر: ((البحور الزاخرة في علوم الآخرة)) (2/ 433). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (إنَّ التَّقوى هيَ اتِّخاذُ ما يَقي مِن عَذابِ القَبرِ وعَذابِ الجَحيمِ، ولا يَكونُ ذلك إلَّا بفِعلِ الأوامِرِ واجتِنابِ النَّواهي والخَوفِ مِنَ الرَّبِّ العَظيمِ، ولا يَكونُ ذلك إلَّا بتَقديمِ العُدَّةِ والاستِعدادِ لِليَومِ الآخِرِ العَظيمِ، ذلك اليَومُ الَّذي تُحشَرونَ فيه إلَى اللهِ حافيةً أقدامُكم عاريةً أجسامُكم شاخِصةً أبصارُكُم ذاهِلةً عُقولُكُم، ولَمَّا كانَ هَذا اليَومُ عَظيمَ الأهوالِ شَديدَ الأحوالِ، قَدَّمَ اللهُ بينَ يَدَيه مِنَ العَلاماتِ والدَّلائِلِ ما يُبَيِّنُ به اقتِرابَه؛ ليُستَعَدَّ لَه ويُحذَرُ عَذابُه)
[1808] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (6/ 215). .
وقال صالِح آل الشَّيخِ: (
أشراطُ السَّاعةِ الصُّغرَى والكُبرَى أُلِّفَت فيها مُؤَلَّفاتٌ كَثيرةٌ في جَمعِها وجَمعِ الأحاديثِ الَّتي جاءَت في ذِكرِ
أشراطِ السَّاعةِ، وهيَ مِنَ العِلمِ النَّافِعِ الَّذي يَدُلُّ على صِدْقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما أخبَرَ به؛ لِأنَّه -ولا شَكَّ- أخبَرَ عَن أمرٍ غَيبيٍّ لَم يَحدُثْ، وكانَ خَبرُه صِدقًا ويَقينًا.
فهَذِه الأخبارُ الَّتي فيها أنَّه بينَ يَدَيِ السَّاعةِ يَكونُ كَذا، أو لا تَقومُ السَّاعةُ حَتَّى يَكونَ كَذا، أو مِن
أشراطِ السَّاعةِ كَذا، أو اعْدُدْ بينَ يَدَيِ السَّاعةِ كَذا، هَذِه كُلُّها تَدُلُّ:
- على صِدْقِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
- ثُمَّ أيضًا تَدُلُّ على أنَّ السَّاعةَ آتيةٌ لا ريبَ فيها؛ لِأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ بحُدوثِ هَذِه الأمورِ، وحُدوثُها حَصَلَ وكانَ حَقًّا كَما أخبَرَ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
لِهَذا كانَ التَّحديثُ ب
أشراطِ السَّاعةِ الصُّغرَى والكُبرَى وذِكرُها مِمَّا يُقَوِّي اليَقينَ ويُقَوِّي الإيمانَ، وهو مِن دَلائِلِ نُبوَّةٍ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[1809] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/915). .