المَطلَبُ الثَّالِثُ: صِفةُ نُزولِه
عَنِ النَّواسِ بنِ سَمعانَ رَضِيَ الله عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في حَديثٍ طَويلٍ عَنِ
الْمَسيحِ الدَّجَّالِ:
((فبينَما هو كذلك إذ بَعَثَ الله الْمَسيحَ ابنَ مَريَمَ، فيَنزِلُ عِندَ الْمَنارةِ البَيضاءِ شَرقيَّ دِمشْقَ، بينَ مَهرودَتينِ، واضِعًا كفَّيه على أجنِحةِ مَلَكينِ، إذا طَأطَأ رَأسَه قَطرَ، وإذا رَفَعَه تَحدَّرَ مِنه جُمانٌ كاللُّؤْلُؤِ، فلا يَحِلُّ لكافِرٍ يَجِدُ ريحَ نَفَسِه إلَّا مات، ونَفَسُه يَنتَهي حَيثُ يَنتَهي طَرْفُه، فيَطلُبُه حَتَّى يُدرِكَه ببابِ لُدٍّ، فيَقتُلُه، ثُمَّ يَأتي عيسى بنَ مَريَمَ قَومٌ قَد عَصَمَهم اللهُ مِنه، فيَمسَحُ عَن وُجوهِهم ويُحدِّثُهم بدَرَجاتِهم في الجَنَّةِ )) [2781] أخرجه مسلم (2937) مُطَولًا. .
قال أبو العَبَّاس القُرطُبيُّ: (قَولُه:
((بينَ مَهرودَتينِ))... هَرَدْتُ الثَّوبَ: شَقَقْتُه، والهِرْدى على وزنِ فِعْلى، بكَسرِ الهاءِ: نَبتٌ يُصبَغُ به، وثوبٌ مَهرودٌ، أي: صِبغٌ أصفَرُ. ولَمَّا كان هذا هو الْمَعروفَ في اللُّغةِ اختَلَفَ الشَّارِحونَ لهذا اللَّفظِ في هذا الحَديثِ؛ فقيلَ: إنَّ عيسى عليه السَّلامُ يَنزِلُ في شقَّتي ثوبٍ، والشقَّةُ نِصفُ الْملاءةِ، أو في حُلَّتين، مَأخوذٌ مِنَ الهَردِ، وهو القَطْعُ والشَّقُّ. وقال أكثَرُهم: في ثوبينِ مَصبوغينِ بالصُّفرةِ، وكَأنَّه الذي صُبِغَ بالهِرْدى... والأصَحُّ: قَولُ الأكثَرِ، ويَشهَدُ لَه ما قَد وقَعَ في بَعضِ الرِّواياتِ بَدَلَ مَهرودَتينِ: مُمصَّرَتين والمُمصَّرةِ مِنَ الثِّيابِ هيَ الْمَصبوغةُ بالصُّفرةِ. واللهُ تعالى أعلَمُ. وقَولُه:
((إذا طَأطَأ رَأسَه قَطرَ)) أي: إذا خَفَضَ رَأسَه سالَ مِنه ما يَعني به العَرَقَ. وهذا نَحوٌ ممَّا قال في الحَديثِ الذي تَقَدَّم: يَقْطُرُ رَأسُه ماءً، كأنَّما خَرَجَ من ديماسٍ، يَعني: الحَمَّامَ. وقَولُه:
((إذا رَفَعَه تَحدَّرَ مِنه جُمانٌ كاللُّؤُلؤِ)) الجُمانُ: ما استَدارَ مِنَ اللُّؤلؤِ والدُّرِّ، ويُستَعارُ لكُلِّ ما استَدارَ مِنَ الحُلِيِّ... شَبَّه قَطَراتِ العَرَقِ بمُستَديرِ الجَوهَرِ، وهو تَشبيهٌ واقِعٌ. وقَولُه:
((فلا يَحِلُّ لكافِرٍ يَجِدُ ريحَ نَفَسِه إلَّا مات)) الرِّوايةُ: لا يَحِلُّ، بكَسرِ الحاءِ، مَعناه: يَحِقُّ ويَجِبُ، وهو من نَحوِ قَولِه تعالى:
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أي: واجِبٌ ذلك ولازِمٌ، وقيلَ: مَعناه: لا يُمكِنُ، وفي بَعضِ الرِّواياتِ عَنِ ابنِ الحذاءِ: فلا يَحِلُّ لكافِرٍ يَجِدُ نَفَسَ ريحِه، ووَجهُه بَيِّنٌ، وأمَّا من أخرجه يَحُلُّ -بضَمِّ الحاءِ- فلَيسَ بشَيءٍ، إلَّا أن يَكونَ بَعدَه: بكافِرٍ، بالباءِ، فيَكونَ لَه وَجهٌ. وقَولُه:
((ونَفَسُه يَنتَهي حَيثُ يَنتَهي طَرْفُه)) نَفَسُه: بفَتحِ الفاءِ، وطَرْفُه -بسُكونِ الرَّاءِ- وهو عَينُه، ويَعني بذلك أنَّ الله تعالى قوَّى نَفَسَ عيسى عليه السَّلامُ حَتَّى يَصِلَ إلى الْمَحَلِّ الذي يَصِلُ إليه إدراكُ بَصَرِه، فمَعناه: أنَّ الكُفَّارَ لا يَقْرَبونَه، وإنَّما يَهلِكونَ عِندَ رُؤيَتِه ووُصولِ نَفَسِه إليهم، تَأييدٌ مِنَ الله لَه وعِصمةٌ، وإظهارُ كرامةٍ ونِعمةٍ. وقَولُه:
((فيَمسَحُ عَن وُجوهِهم))... أي: يُزيلُ عَن وُجوهِهم بمَسحِه ما أصابَها من غُبارِ سَفرِ الغَزوِ ووَعْثائِه؛ مُبالَغةً في إكرامِهم وفي اللطفِ بهم، والتَّحفِّي بهم. وقيلَ: مَعناه يَكشِفُ ما نَزَلَ بهم مِنَ الخَوفِ والمِشَقَّاتِ، والأولى: الحَقيقةُ، وهذا تَوَسُّعٌ)
[2782] يُنظر: ((المفهم)) (7/ 282-284). .
وقال
علي القاري: (
((واضِعًا كفَّيه على أجنِحةِ مَلَكينِ)): حالٌ لبَيانِ كيفيَّةِ إنزالِه، كما أنَّ ما قَبلَه حالٌ لبَيانِ كيفيَّةِ لُبسِه وجَمالِه، ثُمَّ بيَّنَ لَه حالةً أخرى بقَولِه:
((إذا طَأطَأ)) بهَمزَتين أي: خَفَضَ،
((رَأسَه قَطرَ)) أي: عَرقَ
((وإذا رَفَعَه)) أي: رَأسَه
((تَحَدَّرَ)): بتَشديدِ الدَّالِ، أي: نَزَلَ
((مِنه)) أي: من شَعرِه قَطَراتٌ نُورانيَّةٌ
((مِثلُ الجُمَانِ)): بضَمِّ الجيمِ وتَخفيفِ الْميمِ وتُشَدَّدُ: حَبٌّ يُتَّخَذُ مِنَ الفِضَّةِ،
((كاللُّؤلُؤِ)) أي: في الصَّفاءِ والبَياضِ)
[2783]يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (8/ 3462). .