الفرعُ الثالثُ: من شفاعاتِ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شفاعتُه لمَن سَكَنَ في مَدينةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومات بها
عن أبي سَعيدٍ مولى المَهريِّ أنَّه جاءَ أبا سَعيدٍ الخُدْريَّ لياليَ الحَرَّةِ فاستَشارَه في الجَلاءِ عن المَدينةِ، وشَكا إليه أسعارَها وكَثرةَ عيالِه، وأخبَرُه ألَّا صَبْرَ له على جَهدِ المَدينةِ ولَأْوائِها. فقال له: ويحَكَ لا آمُرُك بذلك: إنِّي سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((لا يَصبِرُ أحَدٌ على لَأْوائِها فيَموتُ إلَّا كُنتُ له شَفيعًا أو شَهيدًا يَومَ القيامةِ إذا كان مُسلِمًا)) [3388] أخرجه مسلم (1374). .
وعن يُحنَّسَ مولى الزُّبَيرِ أخبَرَه أنَّه كان جالِسًا عِندَ
عَبدِ اللهِ بنِ عُمرَ في الفِتنةِ، فأتَتْه مولاةٌ له تُسَلِّمُ عليه، فقالت: إنِّي أرَدتُ الخُروجَ يا أبا عَبدِ الرَّحْمَنِ، اشتَدَّ علينا الزَّمانُ، فقال لها
عَبدُ اللهِ: اقعُدِي لَكَاعِ؛ فإنِّي سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((لا يَصبِرُ على لَأْوائِها وشِدَّتِها أحَدٌ إلَّا كُنتُ له شَهيدًا أو شَفيعًا يَومَ القيامةِ إذا كان مُسلِمًا)) [3389] أخرجه مسلم (1377). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا يَصبِرُ على لَأْواءِ المَدينةِ وشِدَّتِها أحَدٌ من أمَّتي إلَّا كُنتُ له شَفيعًا يَومَ القيامةِ أو شَهيدًا )) [3390] أخرجه مسلم (1378). .
قال
النَّوَويُّ: (قال أهلُ اللُّغةِ: اللَّأواءُ -بالمَدِّ- الشِّدَّةُ والجوعُ. وأمَّا الجَهدُ فهو المَشَقَّةُ، وهو بفَتحِ الجيمِ، وفي لُغةٍ قَليلةٍ بضَمِّها، وأمَّا الجُهدُ بمَعنى الطَّاقةِ فبِضَمِّها على المَشهورِ، وحُكِيَ فَتْحُها)
[3391] يُنظر: ((شرح مسلم)) (9/ 136). .
وقال عِياضٌ: (قَولُه:
((إلَّا كُنتُ له شَهيدًا أو شَفيعًا يَومَ القيامةِ)): سُئِلْنا قَديمًا عن مَعنى هذا ولَم خَصَّصَ عليه السَّلامُ ساكِنَ المَدينةِ بهذا من شفاعتِه، ومَعَ ما يَثبُتُ من ادِّخارِه إيَّاها لجَميعِ أمَّتِه، وهَل
((أو)) هنا للشَّكِّ أو لغَيرِه؟ ولَنا على هذا جَوابٌ شافِعٌ مُقنِعٌ في أوراقٍ اعتَرَفَ بصَوابِه كُلُّ من وقَفَ عليه، نَذكُرُ منه هنا لمَعنًى تَليقُ بالمَوضِعِ: والأظهَرُ أنَّ
((أو)) هنا ليست للشَّكِّ، خِلافَ من ذَهَبَ من شُيوخِنا إلى ذلك؛ إذ قد رَوى هذا الحَديثَ
جابِرٌ، وأبو هُريرةَ، وابنُ عَمرٍو، وأبو سَعيدٍ، و
سَعدُ بنُ أبى وقَّاصٍ، وأسماءُ بنتُ عُمَيسٍ، وصَفيَّةُ بنتُ أبى عُبَيدٍ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذا اللَّفظِ، وبَعيدٌ اتِّفاقُ جَميعِهم أو رُواتِهم على الشَّكِّ ووُقوعُه من جَميعِهم وتَطابُقُهم فيه على صيغةٍ واحِدةٍ، بَلِ الأظهَرُ أنَّه كذا قاله النَّبيُّ عليه السَّلامُ؛ فإمَّا أن يَكونَ أعلَمَ عليه السَّلامُ بهذه الجُملةِ هَكَذا، أو تَكونَ أو للتَّقسيمِ، ويَكونَ أهلُ المَدينةِ صِنفينِ؛ شَهيدًا لبَعضِهم، وشَفيعًا لآخَرينَ، إمَّا شَفيعًا للعاصينَ، وشَهيدًا للمُطيعينَ، أو شَهيدًا لِمَن مات في حَياتِه، وشَفيعًا لِمَن مات بَعدَه، أو غَيرَ ذلك مِمَّا اللهُ أعلَمُ به، وهذه خاصِّيَّةٌ زائِدةٌ على الشَّفاعةِ للمُذنِبينَ أو للعالَمينَ في القيامةِ، وعلى شَهادَتِه على جَميعِ الأمَّةِ، وقد قال عليه السَّلامُ في شُهداءِ أحُدٍ:
((أنا شَهيدٌ على هؤلاء)) [3392] أخرجه البخاري (1343) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلي أحدهما قدمه في اللحد وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة) وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. ، فيَكونُ لتَخصيصِهم بهذا كُلِّه زيادةُ مَنزِلةٍ وغِبطةٌ وحُظوةٌ.
وقد تَكونُ
((أو)) هنا هي التي بمَعنى الواوِ، فيَكونُ لأهلِ المَدينةِ شَهيدًا وشَفيعًا، وقد رُوي:
((إلَّا كُنتُ له شَهيدًا أو له شَفيعًا))، وإذا جَعَلناها للشَّكِّ -كما ذَهَبَ إليه المَشايخُ- فإن كانتِ اللفظةُ الصَّحيحةُ الشَّهادةَ اندَفَعَ الِاعتِراضُ؛ إذ هي زائِدةٌ على الشَّفاعةِ المُدَّخَرةِ المُجَرَّدةِ لغَيرِهم، وإن كانتِ اللَّفظةُ الصَّحيحةُ الشَّفاعةَ فاختِصاصُ أهلِ المَدينةِ بهذا، مَعَ ما جاءَ من عُمومِها وادِّخارِها لجَميعِ أمَّتِه، أنَّ هذه شفاعةٌ أخرى غَيرُ العامَّةِ التي هي لإخراجِ أمَّتِه من النَّارِ، ومُعافاةِ بَعضِهم منها بشفاعتِه في القيامةِ، وتَكونُ هذه الشَّفاعةُ لأهلِ المَدينةِ بزيادةِ الدَّرَجاتِ، أو تَخفيفِ الحِسابِ، أو ما شاءَ اللهُ من ذلك، أو بإكرامِهم يَومَ القيامةِ بأنواعٍ من الكَرامةِ والمَبَرَّةِ؛ من إيوائِهم في ظِلِّ عَرْشِ الرَّحْمَنِ، أو كونِهم في روحٍ وعلى مَنابِرَ، أوِ الإسراعِ بهم إلى الجَنةِ، أو غَيرِ ذلك من خُصوصِ المَبَرَّاتِ الوارِدةِ لبَعضٍ دونَ بَعضٍ في الآخِرةِ. واللهُ أعلَمُ.
وقَولُه:
((لا يَخرُجُ أحَدٌ رَغبةً عنها إلَّا أبدَلَ اللهُ فيها من هو خَيرٌ منه)): ذَهَبَ بَعضُهم أنَّ هذا خُصوصُ مُدَّةِ حَياتِه عليه السَّلامُ، وقال آخَرونَ: هو عُمومٌ أبَدًا، وهذا أظهَرُ؛ لقَولِه في الحَديثِ الآخَرِ أوَّلَ الكَلامِ:
((يَأتي على النَّاسِ زَمانٌ يَدعو الرَّجُلُ ابنَ عَمِّه وقَريبَه: هَلُمَّ إلى الرَّخاءِ، والمَدينةُ خَيرٌ لهم لَو كانوا يَعلَمونَ، والذي نَفسي بيَدِه لا يَخرُجُ أحَدٌ منها رَغبةً عنها إلَّا أخلَفَ اللهُ فيها من هو خَيرٌ منه )) الحَديث
[3393] أخرجه مسلم (1381) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وأنَّ كلامَه عليه السَّلامُ مِمَّن يَخرُجُ عنها مِمَّن كان مُستَوطِنًا بها)
[3394] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (4/ 482). .
قال المظهَريُّ: (مَعنى قَولِه:
((شَهيدًا)): أنَّه عليه السَّلامُ يَشهَدُ لذلك الصَّابِرِ على لَأْواءِ المَدينةِ أنَّه مُؤمِنٌ مُخلِصٌ مُحِبٌّ لرَسولِ الله عليه السَّلامُ؛ لأنَّه وافَقَه في تَوَطُّنِ المَدينةِ، وجَعْلِ المَدينةِ مَعمورةً؛ لأنَّ المَدينةَ مَدينةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه أضافَها إلى نَفسِه بقَولِه مِرارًا:
((مَدينَتُنا)). ومن جَعلَ مَدينةَ أحَدٍ ودارَه مَعمورةً، فقد أحَبَّه، فتوَطُّنُ المَدينةِ من مَحَبَّةِ رَسولِ اللهِ عليه السَّلامُ)
[3395] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (3/ 369). .