المَطلَب الأولُ: الشَّفاعةُ في دُخُولِ الجَنَّةِ
قال اللهُ تعالى:
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر: 73] .
قال
السَّعْديُّ: (قال عَن أهلِ الجَنَّةِ:
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بتَوحيدِه والعَمَلِ بطاعَتِه، سَوقَ إكرامٍ وإعزازٍ، يُحشَرُونَ وفدًا على النَّجائِبِ
إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا فَرِحينَ مُستَبشِرينَ، كُلُّ زُمْرةٍ مَعَ الزُّمْرةِ الَّتي تُناسِبُ عَمَلَها وتُشاكِلُه.
حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا أي: وصَلُوا لِتِلكَ الرِّحابِ الرَّحيبةِ والمَنازِلِ الأنيقةِ، وهَّبَ عليهم ريحُها ونَسيمُها، وآنَ خُلُودُها ونُعيمُها.
وَفُتِحَتْ لَهم
أَبْوَابُهَا فتحَ إكرامٍ، لِكِرامِ الخَلقِ، ليُكرَمُوا فيها
وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا تَهنِئةً لَهم وتَرحيبًا:
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أي: سَلامٌ مِن كُلِّ آفةٍ وشَرِّ حالٍ. عَليكم
طِبْتُمْ أي: طابت قُلُوبُكم بمَعرِفةِ الله ومَحَبَّتِه وخَشيَتِه، وألسِنَتُكم بذِكرِه، وجَوارحُكم بطاعَتِه.
فـ بسَبَب طِيبِكم
ادْخُلُوهَا خَالِدِينَ؛ لِأنَّها الدَّارُ الطَّيِّبةُ، ولا يَليقُ بها إلَّا الطَّيبُونَ. وقال في النَّارِ
فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وفي الجَنةِ
وَفُتِحَتْ بالواوِ، إشارةً إلى أنَّ أهلَ النَّارِ بمُجَرَّدِ وُصُولِهم إليها فُتِحَتْ لَهم أبوابُها مِن غيرِ إنظارٍ ولا إمهالٍ، وليَكُونَ فتحُها في وُجُوهِهم وعلى وُصُولِهم أعظَمَ لَحرِّها، وأشَدَّ لِعَذابِها. وأمَّا الجَنَّةُ فإنَّها الدَّارُ العاليةُ الغاليةُ الَّتي لا يُوصَلُ إليها ولا يَنالُها كُلُّ أحَدٍ إلَّا مَن أتى بالوسائِلِ المُوصِلةِ إليها، ومَعَ ذَلِكَ فيَحتاجُونَ لِدُخُولِها لِشَفاعةِ أَكرَمِ الشُّفعاءِ عليه، فلَم تُفتَحْ لَهم بمُجَرَّدِ ما وصَلُوا إليها، بَل يَستَشفِعُونَ إلى الله بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حَتَّى يَشفَعَ، فيُشفِّعَه اللهُ تعالى)
[4289] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 730). .
عَن حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ وأبي هريرةَ رَضيَ اللهُ عَنهما قالا: قال رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يَجمَعُ اللهُ تَبارَكَ وتعالى النَّاسَ، فيَقومُ المُؤمِنونَ حَتَّى تُزلَفَ لهمُ الجَنةُ، فيَأتون آدَمَ فيَقولونَ: يا أبانا استَفتِحْ لَنا الجَنَّةَ، فيَقولُ: وهَل أخرَجَكم من الجَنَّةِ إلَّا خَطيئةُ أبيكم آدَم! لَستُ بصاحِبِ ذلك، اذهَبوا إلى ابني إبراهيمَ خَليلِ اللهِ، قال: فيَقولُ إبراهيمُ: لَستُ بصاحِبِ ذلك، إنَّما كُنتُ خَليلًا مِن وراءَ وراءَ، اعمدوا إلى موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الذي كلَّمُه اللهُ تَكليمًا، فيَأتونَ موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيَقولُ: لَستُ بصاحِبِ ذلك، اذهَبوا إلى عيسى كلِمةِ اللهِ ورُوحِه، فيَقولُ عيسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَستُ بصاحِبِ ذلك. فيَأتون مُحَمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَقومُ فيُؤذَنُ له وتُرسَلُ الأمانةُ والرَّحِمُ، فتَقومانِ جَنَبتَيِ الصِّراطِ يَمينًا وشِمالًا، فيَمُرُّ أوَّلُكم كالبَرقِ، قال: قُلتُ: بأبي أنتَ وأُمِّي، أيُّ شيءٍ كَمَرِّ البَرقِ؟ قال: ألَم تَرَوا إلى البَرْقِ كيفَ يَمُرُّ ويَرجِعُ في طَرفةِ عَينٍ؟ ثُمَّ كَمرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمرِّ الطَّيرِ، وشَدِّ الرِّجالِ، تَجري بهم أعمالُهم، ونَبيُّكم قائِمٌ على الصِّراطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعجِزَ أعمالُ العِبَادِ، حَتَّى يَجيءَ الرَّجُلُ فلا يَستَطيعُ السَّيرَ إلَّا زَحْفًا، قال: وفي حافَتيِ الصِّراطِ كَلاليبُ مُعَلَّقةٌ مَأمُورةٌ بأخذِ مَن أُمِرَت به، فمَخدُوشُ ناجٍ، ومَكدُوسٌ في النَّارِ. والَّذي نَفسُ أبي هريرةَ بيَدِه إنَّ قَعرَ جَهَنَّم لَسَبعُون خَريفًا! )) [4290] أخرجه مسلم (195). .
قال
ابنُ رَجَبٍ: (وأمَّا الشَّفاعةُ الَّتي اختَصَّ بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن بينِ الأنبياءِ، فليسَت هي الشَّفاعةَ في خُرُوجِ العُصاةِ مِنَ النَّارِ؛ فإنَّ هذه الشَّفاعةَ يُشارِكُ فيها الأنبياءُ والمُؤمِنونَ أيضًا، كَما تَواتَرتَ بذَلِكَ النُّصُوصُ، وإنَّما الشَّفاعةُ الَّتي يَختَصُّ بها مَن دُونَ الأنبياءِ أربَعةُ أنواعٍ:
أحَدُها: شَفاعتُه لِلخَلقِ في فصلِ القَضاءِ بينَهم.
والثَّاني: شَفاعتُه لِأهلِ الجَنةِ في دُخُولِ الجَنةِ.
والثَّالِثُ: شَفاعتُه في أهلِ الكَبائِرِ مِن أهلِ النَّارِ، فقَد قيلَ: إنَّ هذه يَختَصُّ هو بها.
والرَّابعُ: كَثرةُ مَن يَشفَعُ لَه مِن أمَّتِه؛ فإنَّه وفَّرَ شَفاعتَه وادَّخَرَها إلى يَومِ القيامةِ)
[4291] يُنظر: ((فتح الباري)) (2/ 22). .
قال
ابنُ باز: (النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له شفاعاتٌ، منها: شَيءٌ يَختَصُّ به، ومنها شَيءٌ يَشتَرِك مَعَه النَّاسُ فيه.
فأمَّا الشَّفاعةُ التي تَختَصُّ به فهيَ الشَّفاعةُ العُظمى لأهلِ المَوقِفِ يَشفَعُ لهم، يَسجُدُ عِندَ رَبِّه ويَحمَدُه مَحامِدَ عَظيمةً، ويَأذَنُ اللهُ له بالشَّفاعةِ، فيَشفَعُ لأهلِ المَوقِفِ حَتَّى يَقضيَ بينَهم، وهذه من خَصائِصِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ... وهناك شفاعاتٌ أخرى خاصَّةٌ به، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهيَ الشَّفاعةُ في أهلِ الجَنةِ ليَدخُلوا الجَنةَ؛ فإنَّهم لا يَدخُلونَ ولا تُفتَحُ لهم إلَّا بشفاعتِه، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، هذه خاصَّةٌ به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ)
[4292] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (2/ 103). .