الفَرعُ الثَّالِثُ: سَعَةُ أبوابِ الجَنَّةِ
عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عَنه قال: وُضِعَت بينَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَصعةٌ مِن ثَريدٍ ولَحمٍ، فتَناولَ الذِّراعَ، وكانَت أحَبَّ الشَّاةِ إليه، فنَهَسَ نَهسةً
[4502] قال العيني: (من النَّهسِ، وهو أخذُ اللَّحمِ بأطرافِ الأسنانِ، والنَّهشُ بالمُعجَمةِ: الأخذُ بجَمِيعِها) ((عمدة القاري)) (19/ 28). ، فقال:
((أنا سيِّدُ النَّاسِ يَومَ القيامةِ، ثُمَّ نَهسَ أُخرى، فقال: أنا سيِّدُ النَّاسِ يَومَ القيامةِ)) ، فلَمَّا رَأى أصحابَه لا يَسألُونَه قال:
((ألَّا تَقُولُونَ: كيفَهْ؟)) قالُوا: كيفَهْ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قال:
((يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العالَمينَ... والَّذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيدِه إنَّ ما بينَ المِصراعينِ [4503] قال الخليل: (المِصراعان من الأبوابِ بابان منصوبان ينضمَّان جميعًا مدخَلُهما في الوَسَطِ) ((العين)) (1/299). وقال ابن دريد: (المصاريع: الأبوابُ، واحِدُها مِصراعٌ، ولا يكونُ البابُ مِصراعًا حتى يكونَ اثنين، ومن ذلك قيل: مصراعُ الشِّعرِ؛ لأنَّه نِصفُ بَيتٍ فشُبِّه مِصراعُ البابِ به): ((جمهرة اللغة)) (2/ 738). من مصاريعِ الجنَّةِ إلى عِضادَتَي [4504] قال الجوهري: (عِضادتا الباب، وهما خَشَبتاه من جانِبَيه) ((الصحاح)) (2/ 509). البابِ لَكَمَا بين مكَّةَ وهَجَر [4505] قال النووي: (هَجَر: بفتح الهاء والجيم، وهي مدينةٌ عظيمةٌ هي قاعدةُ بلادِ البحرينِ، قال الجوهري في صحاحِه: هَجَر اسمُ بَلَدٍ مُذكَّر مَصروف، قال: والنسبة إليه هاجِريٌّ، وقال أبو القاسِمِ الزَّجَّاجيُّ في الجُمَل: هَجَر يُذَكَّر ويُؤنَّث، قُلتُ: وهَجَر هذه غيرُ هَجَر المذكورة في حديثِ: إذا بلغ الماءُ قُلَّتين بقِلالِ هَجَرَ، تلك قريةٌ من قرى المدينةِ، كانت القِلالُ تُصنَعُ بها، وهي غيرُ مصروفةٍ) ((شرح مسلم)) (3/ 69). ، أو هَجَر ومكَّة)) . قال: لا أَدري أيَّ ذَلِكَ قال
[4506] أخرجه مسلم (194). . وفي رِوايةٍ
((إن ما بينَ المِصراعينِ مِن مَصاريعِ الجَنةِ كَما بينَ مَكَّةَ وحِمْيَرٍ - أو كَما بينَ مَكَّةَ وبُصْرى [4507] قال العيني: (قولُه: (وحِمْيَر، بكسر الحاء المهملة وسكون الميم وفتح الياء آخر الحروف: هو باليمن، (وبُصْرى) بضم الباءِ، مدينةٌ بالشَّامِ) ((عمدة القاري)) (19/ 28). ) [4508] أخرجها البخاري (4712) مطولًا. .
قال أبُو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (قَولُه:
((لَكَما بينَ مَكَّةَ وهَجَر، أو كَما بينَ مَكَّةَ وبُصْرى)) يُحتَمَلُ أن يَكُونَ شَكًّا مِن بَعضِ الرُّواةِ، ويُحتَمَلُ أن يَكُونَ تَنويعًا، كَأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قال: إذا رَأى ما بينَهما قَدَّرَه راءٍ بكَذا، وقَدَّرَه آخَرُ بكَذا، ويَصِحُّ أن يُقال: سَلكٌ بها مَسلَكَ التَّخييرِ، فكَأنَّه قال: قَدِّرُوها إنْ شِئتُم بكَذا، وإنْ شِئتُم بكَذا، وإنْ شِئتُم بكَذا)
[4509] يُنظر: ((المفهم)) (1/ 438). .
وقال القُرطُبيُّ: (أمَّا ما جاءَ مِن سَعةِ أبوابِ الجَنَّةِ فيُحتَمَلُ أن يَكُونَ بَعضُها سَعَتُه كَذا، وبَعضُها سَعَتُه كَذا، كَما ورَدَ في الأخبارِ، فلا تَعارُضَ والحَمدُ لِلهِ)
[4510] يُنظر: ((التذكرة)) (2/ 172). .
وقَد جاءَ أنَّ ما بينَ المِصراعينِ مِن مَصاريعِ الجَنَّةِ مَسيرةَ أربَعينَ سَنةً عَن خالِدِ بنِ عُمَيرٍ العَدويِّ قال: خَطَبَنا عُتْبةُ بنُ غَزوانَ، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، ثُمَّ قال:... ولَقَد ذُكِرَ لَنا أنَّ (ما بينَ مِصراعينِ مِن مَصاريعِ الجَنَّةِ مَسيرةَ أربَعينَ سَنةً، وليَأتينَّ عليها يَومٌ وهو كَظيظٌ مِنَ الزِّحامِ)
[4511] أخرجه مسلم (2967) مطولًا. !
قال
ابنُ القيِّمِ : (فهذا مَوقُوفٌ، والَّذي قَبلَه مَرفُوعٌ، فإن كانَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو الذَّاكِرَ لَه كانَ هذا ما بينَ بابٍ مِن أبوابِها، ولَعَلَّه البابُ الأعظَمُ، وإن كانَ الذَّاكِرُ لَهم ذَلِكَ غيرَ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يُقَدَّمْ على حَديثِ أبي هريرةَ المُتقَدِّمِ)
[4512] يُنظر: ((حادي الأرواح)) (ص: 58). .
وقال أيضًا: (لَمَّا كانَتِ الجَنَّاتُ دَرَجاتٍ بَعضُها فوقَ بَعضٍ، كانَت أبوابُها كَذَلِكَ، وبابُ الجَنَّةِ العاليةِ فوقَ بابِ الجَنةِ الَّتي تَحتَها، وكُلَّما عَلَتِ الجَنَّةُ اتَّسَعَت؛ فعاليها أوسَعُ مِمَّا دُونَه، وسَعةُ البابِ بحَسَبِ وُسعِ الجَنَّةِ، ولَعَلَّ هذا وجهُ الِاختِلافِ الَّذي جاءَ في مَسافةِ ما بينَ مِصراعَيِ البابِ؛ فإنَّ أبوابَها بَعضُها أعلى مِن بَعضٍ)
[4513] يُنظر: ((حادي الأرواح)) (ص: 62). .
وقال
المُناويُّ : (ما تَقَرَّرَ في هذا الخَبَرِ يُعارِضُه خَبَرُ أبي هُرَيرةَ المُتَّفَقُ عليه أنَّ ما بينَ المِصراعينِ مِن مَصاريعِ الجَنةِ كَما بينَ مَكَّةَ وهَجَر، وفي لَفظٍ: كَما بينَ مَكَّةَ وبُصْرى، وبينَ الخَبَرِ كَما تَرى بَونٌ عَظيمٌ إلَّا أنَّ البَعضَ حاوَلَ التَّوفيقَ بأنَّ المَذكُورَ في هذا الخَبَرِ أوسَعُ الأبوابِ، وهو البابُ الأعظَمُ، وما عَداه هو المُرادُ في خَبرِ أبي هريرةَ، وبأنَّ الجِنانَ دَرَجاتٌ بَعضُها فوقَ بَعضٍ، فأبوابُها كَذَلِكَ؛ فبابُ الجَنَّةِ العاليةِ فوقَ بابِ الجَنَّةِ الَّتي تَحتَها، وكُلَّما عَلَتِ الجَنَّةُ اتَّسَعَت؛ فعاليها أوسَعُ مِمَّا دُونَه، وسَعةُ البابِ بحَسَبِ وُسعِ الجَنَّةِ، فاختِلافُ الأخبارِ لِاختِلافِ الأبوابِ)
[4514] يُنظر: ((فيض القدير)) (5/ 434). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش