المَطْلَب الثَّالِثُ: أولُ طَعامِ أهلِ الجَنَّةِ
عَن
أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ عَبدَ اللهِ بنَ سَلامٍ بَلَغَه مَقْدَمَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَدينةَ، فأتاه يَسألُه عَن أشياءَ، فقال: إنِّي سائِلُكَ عَن ثَلاثٍ لا يَعْلَمُهنَّ إلَّا نَبيٌّ، ما أوَّلُ
أشراطِ السَّاعةِ؟ وما أوَّلُ طَعامٍ يَأكُلُه أهلُ الجَنَّةِ؟ وما بالُ الولَدِ يَنزِعُ إلى أبيه أو إلى أُمِّه؟ قال:
((أخبَرني به جِبريلُ آنِفًا... وأمَّا أولُ طَعامٍ يَأكُلُه أهلُ الجَنَّةِ فزيادةُ كَبِدِ الحُوتِ )) [4803] أخرجه البخاري (3938) مطولًا. .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه:
((وأمَّا أولُ طَعامٍ يَأكُلُه أهلُ الجَنَّةِ فزيادةُ كَبدِ الحُوتِ)) الزِّيادةُ هي القِطعةُ المُنفَرِدةُ المُعَلَّقةُ في الكَبدِ، وهي في المَطعَمِ في غايةِ اللَّذَّةِ، ويُقالُ: إنَّها أهنَأُ طَعامٍ وأمرَأُه)
[4804] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/ 273). .
وعَن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: قال رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((تَكُونُ الأرضُ يَومَ القيامةِ خُبزةً واحِدةً يَتَكَفَّؤُها الجَبَّارُ بيَدِه كَما يَكفَأُ أحَدُكم خُبْزَتَه في السَّفَرِ؛ نُزُلًا لِأهلِ الجَنَّةِ. فأتى رَجُلٌ مِنَ اليُهودِ فقال: بارَكَ الرَّحمَنُ عَليكَ يا أبا القاسِمِ، ألا أُخبرُكَ بنُزُلِ أهلِ الجَنَّةِ يَومَ القيامةِ؟ قال: بلى. قال: تَكُونُ الأرضُ خُبزةً واحِدةً. كما قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فنَظَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلينا ثُمَّ ضَحِكَ حَتَّى بدت نَواجِذُه! ثُمَّ قال: ألا أُخبرُكَ بإدامِهم؟ قال: إدامُهم بالَامُ ونُونٌ، قالُوا: وما هذا؟ قال: ثَورٌ ونُونٌ، يَأكُلُ مِن زائِدةِ كَبِدِهما سَبعُونَ ألفًا )) [4805] أخرجه البخاري (6520)، ومسلم (2792). .
قال
النَّوويُّ: (أمَّا النُّزُلُ فبضَمِّ النُّونِ والزَّايِ، ويَجُوزُ إسكانُ الزَّايِ، وهو ما يُعَدُّ لِلضَّيفِ عِندَ نُزُولِه.
وأمَّا الخُبزةُ فبضمِّ الخاءِ، قال أهلُ اللُّغةِ هي الظلمةُ الَّتي تُوضَعُ في المَلَّةِ، ويَكفَأُها: بالهَمزةِ، ورُوِيَ في غيرِ
مُسلِمٍ يَتَكَفَّأُها بالهَمزِ أيضًا، وخُبزةُ المَسافِرِ هي الَّتي يَجعَلُها في المَلَّةِ، ويَتَكَفَّأُها بيديه، أي: يُميلُها مِن يَدٍ إلى يَدٍ حَتَّى تَجتَمِعَ وتَستَوي؛ لِأنَّها ليسَت مُنبَسِطةً كالرُّقاقةِ ونَحوِها... ومَعنى الحَديثِ: أنَّ اللهَ تعالى يَجعَلُ الأرضَ كالظُّلْمةِ والرَّغيفِ العَظيمِ، ويَكُونُ ذَلِكَ طَعامًا نُزُلًا لِأهلِ الجَنةِ، واللَّهُ على كُلِّ شيءٍ قَديرٌ! قَولُه:
((إدامُهم بالام ونُونٌ، قالُوا: وما هذا؟ قال: ثَورٌ ونُون يَأكُلُ مِن زائِدِ كَبدِهما سَبعُونَ ألفًا)) أمَّا النُّونُ فهو الحُوتُ باتِّفاقِ العُلَماءِ، وأمَّا بالامُ فبِباءٍ مُوحَّدةٍ مَفتُوحةٍ وبتَخفيفِ اللَّامِ وميمٍ مَرفُوعةٍ غيرِ مُنَوَّنةٍ، وفي مَعناها أقوالٌ مُضطَرَبةٌ، الصَّحيحُ مِنها الَّذي اختارَه القاضي وغيرُه مِنَ المُحَقِّقينَ أنَّها لَفظةٌ عَبرانيَّةٌ مَعناها بالعَبرانيَّةِ ثَورٌ... وأمَّا زائِدةُ الكَبدِ، وهي القِطعةُ المُنفَرِدةُ المُتَعَلِّقةُ في الكَبدِ، وهي أَطيَبُها. وأمَّا قَولُه: يَأكُلُ مِنها سَبعُونَ ألفًا، فقال القاضي: يُحتَمَلُ أنَّهمُ السَّبعُونَ ألفًا الَّذينَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ بلا حِسابٍ فخُصُّوا بأطيَبِ النُّزُلِ، ويُحتَمَلُ أنَّه عَبَّرَ بالسَّبعينَ ألفًا عَنِ العَدَدِ الكَثيرِ ولَم يُرِدِ الحَصرَ في ذَلِكَ القَدْرِ، وهذا مَعرُوفٌ في كَلامِ العَربِ، واللهُ أعلَمُ)
[4806] يُنظر: ((شرح مسلم)) (17/ 135). .
وعَن ثَوبانَ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: كُنتَ قائِمًا عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فجاءَ حَبرٌ مِن أحبارِ اليُهودِ فقال: السَّلامُ عَليكَ يا مُحَمَّدُ... جِئْتُ أسألُكَ، فقال لَه رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أينفَعُكَ شيءٌ إنْ حَدَّثْتُكَ؟)) قال: أسمَعُ بأُذُني، فنَكتَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعُودٍ مَعَه، فقال:
((سَلْ))، فقال اليَهوديُّ: أينَ يَكُونُ النَّاسُ يَومَ تُبَدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرضِ والسَّمَواتُ؟ فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((هم في الظُّلمةِ دُونَ الجِسْرِ))، قال: فمَن أوَّلُ النَّاسِ إجازةً؟ قال:
((فُقَراءُ المُهاجِرينَ))، قال اليَهوديُّ: فما تُحْفَتُهم حينَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ؟ قال:
((زيادةُ كَبِدِ النُّونِ))، قال: فما غِذاؤُهم على إثرِها؟ قال:
((يُنحَرُ لَهم ثَورُ الجَنَّةِ الَّذي كانَ يَأكُلُ مِن أطرافِها ))، قال: فما شَرابُهم عليه؟ قال:
((مِن عَينٍ فيها تُسَمَّى سَلْسَبيلًا ))، قال: صَدَقْتَ))
[4807] أخرجه مسلم (315). .
قال
النَّوويُّ: (قَولُه:
((فما تُحْفَتُهم)) هي بإسكانِ الحاءِ وفَتحِها لُغْتانِ، وهي ما يُهدى إلى الرَّجُلِ ويُخَصُّ به ويُلاطَفُ... قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((زيادةُ كَبدِ النُّونِ)) هو النُّونُ بنُونينِ الأُولى مَضمُومةٌ، وهو الحُوتُ وجَمعُه نينانٌ، وفي الرِّوايةِ الأُخرى:
((زائِدةُ كَبدِ النُّونِ)) والزِّيادةُ والزَّائِدةُ شيءٌ واحِدٌ، وهو طَرَفُ الكَبدِ، وهو أطيَبُها. قَولُه
((فما غِذاؤُهم)) رُويَ على وجهينِ؛ أحَدُهما بكَسرِ الغينِ وبالذَّالِ المُعجَمةِ، والثَّاني بفَتحِ الغينِ وبالدَّالِ المُهمَلةِ، قال القاضي عياضٌ: هذا الثَّاني هو الصَّحيحُ، وهو رِوايةُ الأكثَرينَ، قال: والأولُ ليسَ بشيءٍ، قُلْتُ: ولَه وجهٌ، وتَقديرُه: ما غِذاؤُهم في ذَلِكَ الوقتِ، وليسَ المُرادُ السُّؤالَ عَن غِذائِهم دائِمًا، واللهُ أعلَمُ. قَولُه
((على إثرِها)) بكَسرِ الهَمزةِ مَعَ إسكانِ الثَّاء،ِ وبفَتحِهما جَميعًا لُغَتانِ مَشهورَتانِ. قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مِن عينٍ فيها تُسَمَّى سَلْسَبيلًا)) قال جَماعةٌ مِن أهلِ اللُّغةِ والمُفَسِّرينَ: السَّلْسبيلُ اسمٌ لِلعينِ، وقال مُجاهِدٌ وغيرُه: هي شَديدةُ الجَريِ، وقيلَ: هي السَّلِسةُ اللَّيِّنةُ)
[4808] يُنظر: ((شرح مسلم)) (3/ 227). .