الفَرعُ الثَّالِثُ: زَمْهَريرُها
عَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((قالتِ النَّارُ: ربِّ أَكَلَ بَعضي بَعضًا، فأْذَنْ لي أتَنَفَّسْ، فأَذِنَ لَها بنَفَسينِ، نَفَسٍ في الشِّتاءِ، ونَفَسٍ في الصَّيفِ، فما وجَدْتُم مِن بَردٍ أو زَمْهَريرٍ فمِن نَفَسِ جَهَنَّم، وما وجَدْتُم مِن حَرٍّ أو حَرُورٍ فمِن نَفَسِ جَهَنَّمَ )) [5074] أخرجه البخاري (537)، ومسلم (617) واللَّفظُ له. .
قال
ابنُ الأثيرُ: (الزَّمْهريرُ: شِدَّةُ البَردِ، وهو الَّذي أعَدَّه اللهُ عَذابًا لِلكُفَّارِ في الدَّارِ الآخِرةِ)
[5075] يُنظر: ((النهاية)) (2/ 314). .
وقال ابنُ الملكِ الرُّوميُّ عَنِ الزَّمْهَريرِ: (هو البَردُ الشَّديدُ مِن زَمْهريرِها، فعُلِمَ مِنه أنَّ في النَّارِ شِدَّةَ الحَرِّ وشِدَّةَ البَردِ. قيلَ: كُلٌّ مِنهما طَبَقةٌ مِن طَبَقاتِ الجَحيمِ)
[5076] يُنظر: ((شرح المصابيح)) (1/ 372). .
وقال المَظهَريُّ: (هذا شيءٌ إيمانيٌّ يَجِبُ الإيمانُ به وإن لَم يُعرَفْ كيفيَّتُه... فإنْ قيلَ: إذا نُفِّسَتْ جَهَنَّمُ في الصَّيفِ نَفَسًا وفي الشِّتاءِ نَفَسًا، لَم يَختَلِف حَرُّ الصَّيفِ وبَردُ الشِّتاءِ، وفي بَعضِ الأيَّامِ يَكُونُ الحَرُّ أشَدَّ مِن بَعضٍ، وكَذا البَردُ؟
قُلنا: لَعَلَّ اللهَ تعالى يَأمُرُ بأن تُحفَظَ الحَرارةُ الحاصِلةُ مِن نَفَسِ جَهَنَّم في مَوضِعٍ، ثُمَّ تُرسَلُ إلى أهلِ الأرضِ قَليلًا قَليلًا، حَتَّى يَعتادُوا بالحَرارةِ حينًا بَعدَ حينٍ، وحَتَّى لا تَحتَرِقَ الأشجارُ والنَّباتُ والحيَواناتُ بإرسالِ تِلكَ الحَرارةِ دَفعةً واحِدةً، وكَذَلِكَ البَردُ، وكُلُّ ذَلِكَ إيمانيٌّ يَجِبُ أن نَقُولَ: إنَّ اللهَ على كُلِّ شيءٍ قَديرٌ)
[5077] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (2/ 22). .
قال
ابنُ تيميَّةَ في الحَضِّ على جِهادِ التَّتارِ: (قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا يَجتَمِعُ غُبارٌ في سَبيلِ الله ودُخانُ جَهَنَّم في وجهِ عَبدٍ أبَدًا )) [5078] لفظ الحديث: عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يجتَمِعُ غُبارٌ في سبيلِ اللهِ ودخانُ جَهنَّمَ في وَجهِ رَجُلٍ أبدًا، ولا يجتَمِعُ الشُّحُّ والإيمانُ في قَلبِ عَبدٍ أبدًا)). أخرجه النسائي (3111) واللَّفظُ له، وأحمد (8512). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (3251)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (3111)، وشعيب الأرناؤوط بطرقه وشواهده في تخريج ((مسند أحمد)) (8512)، وصحَّح إسنادَه الطبري في ((مسند عمر)) (1/102). ، وقال:
((مَنِ اغبَرَّتْ قَدَماه في سَبيلِ اللهِ حَرَّمَهما اللهُ على النَّارِ )) [5079] أخرجه البخاري (907) باختلافٍ يسيرٍ من حديث أبي عبس رَضِيَ اللهُ عنه. ، فهذا في الغُبارِ الَّذي يُصيبُ الوجهَ والرِّجْلَ فكيفَ بما هو أشَقُّ مِنه؛ كالثَّلجِ والبَردِ والوحْلِ. ولِهذا عابَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ المُنافِقينَ الَّذينَ يَتَعَلَّلُونَ بالعَوائِقِ كالحَرِّ والبَردِ. فقال سُبحانَه وتعالى:
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ وهَكَذا الَّذينَ يَقُولُونَ: لا تَنفِرُوا في البَردِ فيُقالُ: نارُ جَهَنَّم أشَدُّ بَرْدًا. كَما أَخرَجاه في الصَّحيحينِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((اشتَكتِ النَّارُ إلى رَبِّها فقالت: رَبِّي أكَلَ بَعضي بَعضًا، فأَذِنَ لَها بنَفسينِ: نَفَسٍ في الشِّتاءِ، ونَفسٍ في الصَّيفِ... ))، فالمُؤمِنُ يَدفَعُ بصِبرِه على الحَرِّ والبَردِ في سَبيلِ اللهِ حَرَّ جَهَنَّمَ وبَرْدَها، والمُنافِقُ يَفِرُّ مِن حَرِّ الدُّنيا وبَردِها حَتَّى يَقَعَ في حَرِّ جَهَنَّم وزَمْهَريرِها)
[5080] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (28/ 419). .
وقال
ابنُ رَجَبٍ: (قَولُه:
((فأشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وأشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَريرِ)) بمَعنى: أنَّه مِن تَنَفُّسِ جَهَنَّم. وقَد فسَّرَ ذَلِكَ الحَسَنُ بما يَحصُلُ مِنه لِلنَّاسِ أذًى مِنَ الحَرِّ والبَردِ... وقَد جَعَلَ اللهُ تعالى ما في الدُّنيا مِن شِدَّةِ الحَرِّ والبَردِ مُذكِّرًا بِحَرِّ جَهَنَّم وبَردِها، ودَليلًا عليها)
[5081] يُنظر: ((فتح الباري)) (3/ 71). .
وقال أيضًا: (عَنِ
ابنِ عَبَّاس، قال: يَستَغيِثُ أهلُ النَّارِ مِنَ الحَرِّ، فيُغاثُونَ بريحٍ بارِدةٍ، يَصدَعُ العِظامَ بَرْدُها، فيَسألُونَ الحَرَّ!
وعَن عَبدِ المَلِكِ بن عُمَيرٍ قال: بلغَني أنَّ أهلَ النَّارِ يَسألُونَ خازِنَها أن يُخرِجَهم إلى جانِبِها، فيُخرِجُهم، فيَقتُلُهمُ البَردُ والزَّمْهَريرُ، حَتَّى يَرجِعُوا إليها فيَدخُلُوها؛ مِمَّا وجَدُوا مِنَ البَردِ. ورَوى
أبُو نُعَيمٍ بإسنادِه عَنِ
ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ كَعبًا قال: في جَهَنَّم بَرْدٌ هو الزَّمْهَريرُ، يُسقِطُ اللَّحمَ حَتَّى يَستَغيثُوا بِحرِّ جَهَنَّم!)
[5082] يُنظر: ((التخويف من النار)) (ص: 96). .
وقال
السَّعْديُّ في أهلِ النَّارِ: (يَتَرَدَّدُونَ في عَذابهم بينَ لَهَبِ النَّارِ وحَرارَتِها الَّتي لا يُمكِنُ وصفُها، وبينَ بَردِ الزَّمْهَريرِ البارِدِ الَّذي يَكسِرُ العِظامَ مِن قُوةِ بَردِه، ويُجمَعُ لَهم بينَ جَميعِ ألوانِ العَذابِ، وبينَ عَذابِ الحِجابِ عَن رَبِّهم، وبينَ اليَأسِ مِن رَحمَتِه، وآخِرُ أمرِهمُ العَذابُ المُؤَبَّدُ والشَّقاءُ السَّرمَديُّ)
[5083] يُنظر: ((فتح الرحيم الملك العلام)) (ص: 93). .
وقال
ابنُ عاشُور في قَولِه تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا: (ضَميرُ
عَذَابِهَا عائِدٌ إلى جَهَنَّم ليَشمَلَ ما ورَدَ مِن أنَّ المُعَذَّبينَ يَعذَّبُونَ بالنَّارِ ويُعذَّبُونَ بالزَّمْهَريرِ، وهو شِدَّةُ البَردِ، وكُلُّ ذَلِكَ مِن عَذابِ جَهَنَّم)
[5084] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/ 318). .