المَبحَثُ الثَّالِثُ: نشأةُ القَولِ البِدْعِيِّ في شَأنِ القَدَرِ
بيَّن الكِتابُ والسُّنَّةُ مفهومَ القَدَرِ بوُضوحٍ تامٍّ، وكان هذا المفهومُ الصَّحيحُ للقَدَرِ سائِدًا في حياةِ النِّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبعد وفاتِه وفي عهد الخُلَفاءِ الرَّاشدين رضي اللهُ عنهم، ثم نشأت انحرافاتٌ فرديةٌ وجماعيةٌ في بابِ القَدَرِ، أحدثت بدَورِها نتائِجَ خطيرةً(
يُنظر: ((الإيمان بالقضاء والقدر)) لعمر الأشقر (ص: 15-19)، ((القضاء والقدر)) لعبد الرحمن المحمود (ص: 177-120). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (لم يكُنْ على عَهدِ الخُلَفاءِ الرَّاشدين أحدٌ يُنكِرُ القَدَرَ)(
يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/ 385). .
وقد ورد أنَّ
أبا عُبَيدةَ عامِرَ بنَ الجَرَّاحِ رَضِيَ اللهُ عنه اعترض على رجوعِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه بالنَّاسِ عن دُخولِ الشَّامِ عندما انتشر بها الطاعونُ، وقال لعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ: (أفِرارًا من قَدَرِ اللهِ؟ فقال عُمَرُ: لو غيرُك قالها يا
أبا عُبَيدةَ! وكان عُمَرُ يَكرَهُ خِلافَه. نَعَمْ، نَفِرُّ مِن قَدَرِ اللهِ إلى قَدَرِ اللهِ. أرأيتَ لو كانت لك إبِلٌ فهَبَطَت واديًا له عُدْوَتانِ
[5314] قال ابنُ الأثيرِ: (العُدْوةُ -بالضَّمِّ والكَسرِ-: جانِبُ الوادي). ((النهاية)) (3/ 194). ، إحداهما خِصبةٌ والأُخرى جَدْبةٌ، أليس إن رعَيْتَ الخِصبةَ رعَيْتَها بقَدَرِ اللهِ، وإنْ رَعَيت الجَدْبةَ رَعَيْتَها بقَدَرِ اللهِ؟!)(
رواه مُطَوَّلًا: البخاري (5729)، ومسلم (2219) واللَّفظُ له من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وقد اختلفت الآراءُ حول نشأةِ القَولِ بالقَدَرِ في الإسلامِ، وعلى يدِ من نشأ القَولُ به، وذلك على أقوالٍ، من أهمِّها:
أنَّ أوَّلَ من قال بالقَدَر هو: مَعبدٌ الجُهَنيُّ بالبصرةِ في أواخِرِ عَهدِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم(
يُنظر: ((التاريخ الأوسط)) للبخاري (2/ 1077)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (4/185). .
عن يحيى بن يَعمَرَ قال: (كان أوَّلَ من قال في القَدَرِ بالبصرةِ مَعبدٌ الجُهَنيُّ، فانطلقتُ أنا وحُمَيدُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ الحِمْيَريُّ حاجَّينِ أو معتَمِرَينِ، فقلنا: لو لَقِينا أحدًا من أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسألناه عمَّا يقولُ هؤلاء في القَدَرِ، فوُفِّق لنا
عبدُ اللهِ بن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ داخلًا المسجِدَ، فاكتنَفْتُه أنا وصاحبي، أحَدُنا عن يمينِه والآخَرُ عن شمالِه، فظننتُ أنَّ صاحبي سيَكِلُ الأمرَ إليَّ، فقُلتُ: أبا عبدِ الرَّحمنِ، إنَّه قد ظهر قِبَلَنا ناسٌ يقرؤون القرآنَ ويتقَفَّرون العِلمَ (وذكر من شأنهم) وأنَّهم يزعُمون أنْ لا قَدَرَ، وأنَّ الأمَرَ أُنُفٌ(
قال النووي: (أي: مستأنَف لم يَسبِقْ به قَدَرٌ ولا عِلمٌ من اللهِ تعالى، وإنما يعلَمُه بعد وقوعِه). ((شرح مسلم)) (1/ 156). ...)(
رواه مسلم (8) مُطَوَّلًا. .
وقيل: أوَّلُ من ابتدع القَولَ بالقَدَرِ رجُلٌ من أهلِ البَصرةِ من المجوسِ اسمُه (سِيسَوَيه)(
يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (4/ 297)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (3/ 591). .
وقال
الأوزاعيُّ: (أوَّلُ من نطق بالقَدَر رجلٌ من أهلِ العِراقِ يقالُ له: «سوسن»، وكان نصرانيًّا فأسلم ثم تنصَّر، فأخذ عنه مَعبدٌ الجُهَنيُّ، وأخذ غَيلانُ عن مَعبدٍ)(
رواه الآجري في ((الشريعة)) (2/ 959)، وابن بطة في ((الإبانة الكبرى)) (2/298). .
وقال يونُسُ بنُ عُبَيدٍ: (أدركتُ البَصرةَ وما بها قَدَريٌّ إلَّا سِنسَويه، ومَعبدٌ الجُهَنيُّ، وآخَرُ ملعونٌ في بني عوافةَ)(
يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) لابن بطة (4/ 299)، ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (4/ 826). .
ومن الملاحَظ أن اسم (سِيسَوَيه) و(سَوسَن) متقاربان، فلعلَّهما شخصٌ واحِدٌ.
وقد أخذ عن مَعبدٍ الجُهَنيِّ قَولَه بنَفيِ القَدَرِ: غيلانُ الدِّمَشقيُّ، فهو يعدُّ ثانيَ من تكلَّم بالقَدَرِ.
فهؤلاء هم القَدَريةُ الأوائِلُ الذين أنكروا القَدَرَ، وأنكروا عِلْمَ اللهِ السَّابِقَ بالأمورِ، وهؤلاء تبَرَّأ منهم من سمع بهم من الصَّحابةِ، ك
عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، وأبي هُرَيرةَ، و
ابنِ عَبَّاسٍ، و
أنَسِ بنِ مالكٍ، وعبدِ اللهِ بنِ أبي أوفى، وعُقبةَ بنِ عامرٍ الجُهَنيِّ، وواثِلةَ بنِ الأسقَعِ، وغيرِهم رَضِيَ اللهُ عنهم(
يُنظر: ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 14)، ((مجموع الفتاوى)) (7/ 384). ، وهؤلاء أيضًا هم الذين قال فيهم الأئمَّةُ، ك
مالكٍ و
الشافعيِّ و
أحمد وغيرهم: إنَّ المنكِرينَ لعِلمِ اللهِ، القَدَريَّةَ، يَكفُرونَ(
يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (4/ 781)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 385). .
وقيل: أوَّلُ ما حدث القَولُ بالقَدَرِ في الحجازِ قبل مَعبدٍ الجُهَنيِّ، وذلك لما احترقت الكعبةُ وكان
عبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عنه محصورًا بمكَّةَ، فقال أناسٌ: احترقت بقَدَرِ اللهِ تعالى، وقال أُناسٌ: لم تحتَرِقْ بقَدَرِ اللهِ(
يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (4/ 825)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/ 384). .
تلك أهمُّ الأقوالِ في أوَّلِ من قال بالقَدَرِ، لكِنَّ الذي اشتهر به القَولُ بالقَدَرِ، وكان له رجالٌ كانوا سببًا في نَشْرِه فيما بَعدُ، هو مَعبدٌ الجُهَنيُّ.
ثم أخذ هذا المذهَبَ عن مَعبدٍ أئمَّةُ مَذهَبِ الاعتزالِ؛ ك
واصِلِ بنِ عَطاءٍ، و
عمرِو بنِ عبيدٍ، وغيلان الدِّمَشقيُّ. فأمَّا
واصِلُ بنُ عَطاءٍ رأسُ الاعتزالِ، فقد زعم أنَّ الشَّرَّ لا يجوز إضافتُه إلى اللهِ؛ لأنَّ اللهَ حكيمٌ، ولا يجوزُ أن يريدَ من العبادِ خِلافَ ما يأمُرُ، ويحتِّمُ عليهم شيئًا، ثم يجازيهم عليه. وقرَّر أنَّ العبدَ هو الفاعِلُ للخَيرِ والشَّرِّ، والإيمانِ والكُفرِ، والطَّاعةِ والمعصيةِ، وهو المجازى على فِعْلِه، والربُّ تعالى أقدَرَه على ذلك كُلِّه(
يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 47). . وذهب النَّظَّامُ من
المعتزلةِ إلى أنَّ اللهَ لا يوصَفُ بالقُدْرةِ على الشُّرورِ والمعاصي، وليست هي مقدورةً للهِ(
يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 54). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (لَمَّا ابتدع هؤلاء التكذيبَ بالقَدَرِ ردَّه عليهم من بقي من الصَّحابة؛ ك
عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ، و
عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ، وواثِلةَ بنِ الأسقَعِ، وكان أكثَرُه بالبصرةِ والشَّامِ وقليلٌ منه بالحجازِ)(
يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/ 385). .
وهذه الفِرقةُ هي التي أطلق عليها أهلُ العِلمِ اسمَ القَدَريَّةِ، وسُمُّوا بذلك لأنهم أثبتوا للعبدِ قُدرةً توجِدُ الفِعلَ بانفرادِها واستقلالِها دونَ اللهِ تعالى، ونَفَوا أن تكونَ الأشياءُ بقَدَرِ اللهِ وقضائِه، وهؤلاء رغم ضلالِهم يُضيفون هذا الاسمَ إلى مخالفيهم من أهلِ الهُدى، فيقولون: أنتم القَدَريَّةُ حين تجعلون الأشياءَ جاريةً بقَدَرٍ من اللهِ، وإنَّكم أَولى بهذا الاسمِ مِنَّا(
يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (10/ 128). .
قال النوويُّ: (وقد حكى
أبو محمَّدٍ بنُ قُتَيبةَ في كتابه «غريب الحديث»(
يُنظر: ((غريب الحديث)) (1/ 254). وأبو المعالي إمامُ الحَرَمينِ في كتابِه «الإرشاد في أصول الدين»(
يُنظر: ((الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد)) (ص: 275). أنَّ بَعضَ القَدَريَّةِ، قال: لَسْنا بقَدَريَّةٍ، بل أنتم القَدَريةُ؛ لاعتقادِكم إثباتَ القَدَرِ.
قال
ابنُ قُتَيبةَ والإمامُ: هذا تمويهٌ من هؤلاء الجَهَلةِ ومُباهَتةٌ وتواقُحٌ؛ فإنَّ أهلَ الحَقِّ يُفَوِّضون أمورَهم إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى، ويُضيفون القَدَرَ والأفعالَ إلى اللهِ سُبحانَه وتعالى، وهؤلاء الجَهَلةُ يضيفونه إلى أنفُسِهم، ومُدَّعِي الشَّيءِ لِنَفسِه ومضيفُه إليها أَولى بأن يُنسَبَ إليه ممن يعتَقِدُه لغيره وينفيه عن نَفْسِه)(
يُنظر: ((شرح مسلم)) (1/ 154). .
والقَدَريَّةُ هم مجوسُ هذه الأمَّةِ؛ لأنَّ مَذهَبَهم يضاهي مَذهَبَ المجوسِ في قَولهم بالأصلَينِ: النُّورِ والظُّلمةِ، فهم يزعمون أنَّ الخيرَ مِن فِعلِ النُّورِ، والشَّرَّ مِن فِعلِ الظُّلمةِ، فصاروا ثَنَوِيَّة، وكذلك القَدَريةُ يضيفون الخيرَ إلى اللهِ تعالى، والشَّرَّ إلى غيرِه، واللهُ سُبحانَه وتعالى خالِقُ الخيرِ والشَّرِّ جميعًا، لا يكونُ شيءٌ منهما إلَّا بمشيئتِه، فهما مضافان إليه سُبحانَه وتعالى خَلْقًا وإيجادًا، وإلى الفاعِلينَ لهما من عبادِه فِعلًا واكتِسابًا(
يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (1/ 154). .
ثمَّ نشأ في آخِرِ عَهدِ بني أمَيَّةَ أقوامٌ يزعمون أنَّ العبدَ مجبورٌ على فِعْلِه، ليس له خيارٌ فيما يأخذُ أو يَدَعُ، وبعضُهم يُثبِتُ للعَبدِ قُدرةً غيرَ مُؤَثِّرةٍ، وأوَّلُ من ظهر عنه هذا القَولُ هو
الجَهمُ بنُ صفوانَ، وتفرَّع عن هذه
البدعةِ أقوالٌ شنيعةٌ، وضلالٌ كبيرٌ(
يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 85)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/ 460). .
وقد انتشر هذا القَولُ في الأمَّةِ الإسلاميَّةِ وتقَلَّدَه كثيرٌ من العُبَّادِ والزُّهَّادِ والمتصَوِّفةِ، وإذا كان الفريقُ الأوَّلُ أشبَهَ المجوسَ فإنَّ هذا الفريقَ الثَّانيَ قد أشبه المشركينَ الذين قالوا:
لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 148] . وهذا الفريقُ شرٌّ من الفريقِ الأوَّلِ؛ لأنَّ الأوَّلِينَ عَظَّموا الأمرَ والنَّهيَ ولم يُبطِلوهما، وأمَّا أصحابُ القَولِ الثَّاني فقد أثبتوا القَدَر، واحتجُّوا به على إبطالِ الأمرِ والنَّهيِ(
يُنظر: ((لوامع الأنوار البهية)) للسفاريني (1/ 306). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (المكَذِّبون بالقَدَرِ من
المعتَزِلةِ والشِّيعةِ وغيرِهم المعَظِّمون للأمرِ والنَّهيِ والوعدِ والوعيدِ، خيرٌ من الذين يَرَون القَدَرَ حُجَّةً لِمن ترك المأمورَ وفَعَل المحظورَ، كما يوجَدُ ذلك في كثيرٍ من المدَّعِين للحقيقةِ الذين يشهدون القَدَرَ، ويُعرِضون عن الأمرِ والنَّهيِ من الفُقَراءِ والصوفيَّةِ والعامَّةِ وغيرِهم، فلا عُذْرَ لأحَدٍ في تركِ مأمورٍ ولا فِعلِ محظورٍ بكونِ ذلك مقدَّرًا عليه، بل للهِ الحُجَّةُ البالِغةُ على خَلْقِه.
والقَدَريةُ المحتجُّون بالقَدَرِ على المعاصي شرٌّ من القَدَريَّةِ المكَذِّبين بالقَدَرِ، وهم أعداءُ المِلَلِ. وأكثَرُ ما أوقع النَّاسَ في التكذيبِ بالقَدَرِ احتجاجُ هؤلاء به)(
يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (3/ 24). .
وقال أيضًا: (وهذا المقامُ مقامٌّ وأيُّ مقامٍ! زلَّت فيه أقدامٌ، وضَلَّت فيه أفهامٌ، وبُدِّل فيه دينُ المسلمين، والتبس فيه أهلُ التوحيدِ بعُبَّادِ الأصنامِ على كثيرٍ ممَّن يَدَّعون نهايةَ التوحيدِ والتحقيقِ، والمعرفةَ والكَلامَ. ومعلومٌ عند كُلِّ من يؤمِنُ باللهِ ورسولِه أنَّ
المعتَزِلةَ والشِّيعةَ القَدَريَّة المُثبِتين للأمرِ والنَّهيِ والوَعدِ والوعيدِ خيرٌ ممَّن يُسَوِّي بين المؤمِنِ والكافِرِ، والبَرِّ والفاجِرِ، والنبيِّ الصَّادِقِ والمتنَبِّئِ الكاذِبِ، وأولياءِ اللهِ وأعدائِه، ويجعل هذا غايةَ التحقيقِ ونهايةَ التوحيدِ، وهؤلاء يدخلون في مسمَّى "القَدَريَّة" الذين ذمَّهم السَّلَفُ، بل هم أحَقُّ بالذَّمِّ من
المعتزلةِ ونحوِهم)(
يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/ 103). .