المَبحثُ الثَّاني: الأدِلَّةُ من السُّنَّةِ المُطَهَّرةِ
وردت أحاديثُ نَبَويَّةٌ كثيرةٌ تَدُلُّ على زيادةِ الإيمانِ ونُقصانِه؛ منها:
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا يزني الزَّاني حينَ يَزْني وهو مؤمِنٌ، ولا يَسرِقُ السَّارِقُ حين يَسرِقُ وهو مؤمِنٌ، ولا يَشرَبُ الخَمْرَ حينَ يَشرَبُها وهو مؤمِنٌ، ولا ينهَبُ نُهبةً ذاتَ شَرَفٍ يرفَعُ النَّاسُ إليه فيها بأبصارِهم حينَ يَنتَهِبُها وهو مؤمِنٌ )) [279] أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (75) باختِلافٍ يسيرٍ. .
فنفى عنه كمالَ الإيمانِ الواجِب بفِعلِ هذه الكبائِرِ، ممَّا دَلَّ على نقصِ الإيمانِ بفِعْلِها.
قال
النوويُّ: (القَولُ الصَّحيحُ الذي قاله المحقِّقون: أنَّ معناه لا يفعَلُ هذه المعاصيَ وهو كامِلُ الإيمانِ، وهذا من الألفاظِ التي تُطلَقُ على نَفيِ الشَّيءِ ويُرادُ نَفيُ كَمالِه ومُختارِه، كما يُقالُ: لا عِلْمَ إلَّا ما نفع، ولا مالَ إلَّا الإبِلُ، ولا عَيْشَ إلَّا عَيشُ الآخِرةِ). وقال بَعْدَه: (مع إجماعِ أهلِ الحَقِّ على أنَّ الزَّانيَ والسَّارِقَ والقاتِلَ وغَيرَهم من أصحابِ الكبائِرِ غيرِ الشِّركِ: لا يَكفُرون بذلك، بل هم مُؤمِنونَ ناقِصو الإيمانِ)
[280] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/41). .
وبوَّب
النوويُّ بابًا في صحيحِ
مُسلمٍ في كتابِ الإيمانِ، بعنوان (باب بيانِ نُقصانِ الإيمانِ بالمعاصي ونَفْيِه عن المتلَبِّسِ بالمعصيةِ، على إرادةِ نَفْيِ كَمالِه)
[281] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/41). .
2- عن أبي سَعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه أيضًا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((بَيْنا أنا نائِمٌ رأيتُ النَّاسَ يُعرَضونَ عليَّ وعليهم قُمُصٌ، منها ما يَبلُغُ الثُّدِيَّ، ومنها ما دونَ ذلك، وعُرِضَ عليَّ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وعليه قميصٌ يَجُرُّه! قالوا: فما أوَّلت ذلك يا رَسولَ اللهِ؟ قال: الدِّينُ )) [282] أخرجه البخاري (23) واللَّفظُ له، ومسلم (2390). .
ورُؤيا الأنبياءِ حَقٌّ؛ فدَلَّ على زيادةِ الإيمانِ في أقوامٍ، ونُقصانِه في آخَرِينَ.
3- عَقَد
البخاريُّ في صحيحِه في كتابِ الإيمانِ بابًا في تفاضُلِ أهلِ الإيمانِ في الأعمالِ، وذَكَر فيه:
حديثَ أبي سعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه مرفوعًا:
((يدخُلُ أهلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وأهلُ النَّارِ النَّارَ، ثمَّ يقولُ عزَّ وجَلَّ: أخرِجوا من كان في قَلْبِه مِثقالُ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ مِن إيمانٍ ...)) [283] أخرجه البخاري (22)، ومسلم (184) باختلافٍ يسيرٍ. .
ممَّا يدُلُّ على أنَّه أنقَصُ المؤمنينِ إيمانًا، ولو كان الإيمانُ لا يَزيدُ ولا يَنقُصُ لاستحَقَّ أهلُه كُلُّهم الجَّنةَ، وبدَرَجاتٍ مُتساويةٍ!
4- عَقَد
البُخاريُّ في صَحيحِه في كتابِ الإيمانِ بابًا، فقال (بابُ زيادةِ الإيمانِ ونُقصانِه، وقَولِ اللهِ تعالى:
وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13] ،
وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر: 31] ، وقال:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فإذا تَرَك شيئًا من الكَمالِ فهو ناقِصٌ. ثمَّ روى بإسنادِه عن
أنَسٍ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَخرُجُ من النَّارِ من قال لا إلهَ إلَّا اللهُ، وفي قَلْبِه وَزنُ شَعيرةٍ مِن خَيرٍ، ويَخرُجُ مِن النَّارِ من قال لا إلهَ إلَّا اللهُ، وفي قَلْبِه وزنُ بُرَّةٍ مِن خيرٍ، ويَخرُجُ من النَّارِ من قال لا إلهَ إلَّا اللهُ، وفي قَلْبِه وَزنُ ذَرَّةٍ من خيرٍ» قال أبو عبدِ اللهِ: قال أبانٌ، حدَّثنا قتادةُ، حَدَّثنا
أنَسٌ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مِن إيمانٍ» مكانَ «مِن خيرٍ»
[284] أخرجه البخاري (44) واللَّفظُ له، ومسلم (193) [285] يُنظر: ((صحيح البخاري)) (1/17). .
قال
ابنُ رجب: (زيادةُ الإيمانِ ونُقصانُه قَولُ جُمهورِ العُلَماءِ. وقد رُوِيَ هذا الكلامُ عن طائفةٍ من الصَّحابةِ؛ كأبي الدَّرداءِ، وأبي هُرَيرةَ، و
ابنِ عَبَّاسٍ، وغَيرِهم من الصَّحابةِ. ورُوِيَ معناه عن عليٍّ، و
ابنِ مَسعودٍ أيضًا، وعن مجاهِدٍ، وغيرِه من التابعين. وتوقَّف بعضُهم في نَقْصِه، فقال: يزيدُ، ولا يقالُ: يَنقُصُ، ورُوِيَ ذلك عن مالكٍ، والمشهورُ عنه كقَولِ الجماعةِ. وعن
ابنِ المبارَكِ قال: الإيمانُ يتفاضَلُ، وهو معنى الزِّيادةِ والنَّقصِ. وقد تلا
البخاريُّ الآياتِ التي ذكَرَ فيها زيادةَ الإيمانِ، وقد استدَلَّ بها على زيادةِ الإيمانِ أئِمَّةُ السَّلَفِ قديمًا؛ منهم: عَطاءُ بنُ أبي رباحٍ فمَن بَعْدَه. وتلا
البخاريُّ أيضًا الآياتِ التي ذُكِر فيها زيادةُ الهدى؛ فإنَّ المرادَ بالهدى هنا: فِعلُ الطَّاعاتِ، كما قال تعالى بعد وَصْفِ المتَّقين بالإيمانِ بالغَيبِ، وإقامِ الصَّلاةِ، والإنفاقِ مِمَّا رزَقَهم، وبالإيمانِ بما أُنزِلَ إلى محمَّدٍ وإلى من قَبْلَه باليَقينِ بالآخِرةِ، ثمَّ قال:
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 5] ، فسَمَّى ذلك كُلَّه هُدًى، فمن زادت طاعتُه فقد زاد هُداه.
ولَمَّا كان الإيمانُ يدخُلُ فيه المعرفةُ بالقَلْبِ، والقَولُ والعَمَلُ كُلُّه، كانت زيادتُه بزيادةِ الأعمالِ، ونُقصانُه بنُقصانِها. وقد صَرَّح بذلك كثيٌر من السَّلَفِ فقالوا : يزيدُ بالطَّاعةِ ويَنقُصُ بالمعصيةِ)
[286] يُنظر: ((فتح الباري)) (1/7). .
5- حديثُ أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ما رأيتُ مِن ناقِصاتِ عَقلٍ ودينٍ أذهَبَ للُبِّ الرَّجُلِ الحازِمِ من إحداكُنَّ، قُلْنَ: وما نُقصانُ دِينِنا وعَقْلِنا يا رسولَ اللهِ؟ قال: أليس شهادةُ المرأةِ مِثلَ نِصفِ شَهادةِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بلى. قال: فذلك من نُقصانِ عَقْلِها. أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟ قُلْنَ: بلى. قال: فذلك من نُقصانِ دِينِها )) [287] أخرجه البخاري (304) واللَّفظُ له، ومسلم (80). .
قال
البَغَويُّ: (إنَّ الإيمانَ قَولٌ وعَمَلٌ وعَقيدةٌ، يزيدُ بالطَّاعةِ، ويَنقُصُ بالمَعصيةِ، على ما نَطَق به القُرآنُ في الزِّيادةِ، وجاء في الحديثِ بالنُّقصانِ في وَصفِ النِّساءِ)
[288] يُنظر: ((شرح السنة)) (1/39). .