الفَصلُ الأوَّلُ: أصلُ الإيمانِ
أصلُ الإيمانِ: هو الحَدُّ الأدنى من الإيمانِ، فلا يوجَدُ الإيمانُ بدونِه، ويُطلَقُ عليه أيضًا: الإيمانُ المجمَلُ.
قال
ابنُ تيميَّةَ: (عامَّةُ النَّاسِ إذا أسلموا بعد كُفرٍ أو وُلِدوا على الإسلامِ والتَزَموا شرائِعَه، وكانوا من أهلِ الطَّاعةِ للهِ ورَسولِه؛ فهم مُسلِمون، ومعهم إيمانٌ مُجمَلٌ، ولكِنْ دُخولُ حقيقةِ الإيمانِ إلى قلوبِهم إنَّما يحصُلُ شيئًا فشيئًا إن أعطاهم اللهُ ذلك)
[627] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/271). .
ويُسَمَّى أيضًا بمُطلَقِ الإيمانِ؛ لأنَّ صاحِبَه داخِلٌ في مُسَمَّى الإيمانِ؛ لأنَّه قد ثبت له أصلُ الإيمانِ، فيُعَدُّ من أهلِه، ولكِنْ لا يُعطى له اسمُ الإيمانِ مُطلقًا؛ لأنَّ الإيمانَ إذا أُطلِقَ يرادُ به جميعُ الشَّرائِعِ الواجِبةِ والمستحَبَّةِ، واسمُ المُؤمِنِ إذا أُطلِقَ فيرادُ به من أتى بالإيمانِ الواجِبِ، ولكِنَّه يُعطى له مُطلَقُ الاسمِ؛ لصِحَّةِ نِسبةِ صاحِبِه إليه، ولو لم يأتِ بكَمالِه الواجِبِ، فهو مُؤمِنٌ ناقِصُ الإيمانِ بسَبَبِ تقصيرِه وتفريطِه في الواجِباتِ، وركوبِه المحارمَ، فهو مُؤمِنٌ بإيمانِه، فاسِقٌ بتفريطِه وارتكابِه الكبائِرَ.
ومرتبةُ أصلِ الإيمانِ يقابِلُها الكُفرُ، فهي مرتبةٌ لا تَقبَلُ النُّقصانَ؛ فإنَّ المخِلَّ بها لا تثبُتُ له قَدَمُ الإسلامِ، فكُلُّ من لم يأتِ بأصلِ الإيمانِ فهو كافِرٌ، ولَمَّا كان أصلُ الإيمانِ يقابِلُ الكُفرَ، والكُفرُ يُضادُّه، فإنَّ كُلَّ ذنبٍ مُكَفِّرٍ مِن قَولٍ أو فِعلٍ أو اعتقادٍ، يَهدِمُ أصلَ الإيمانِ.
ومن أتى بأصلِ الإيمانِ تَثبُتُ له في الدُّنيا جميعُ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ المترتِّبةِ على الإيمانِ.
وإن مات عليه فإنَّه ناجٍ من الخُلودِ في النَّارِ، وإن ارتكَب المعاصيَ وقَصَّر وفَرَّط فهو في مشيئةِ اللهِ، إن شاء عفا عنه فدخَلَ الجنَّةَ ابتداءً لشَرَفِ ما قام بقَلْبِه من توحيدٍ وإخلاصٍ، وأدركَتْه شفاعةُ الشَّافعين، وإن شاء عَذَّبه ثمَّ دخل الجنَّةَ بعد ذلك؛ لقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من لَقِيَ اللهَ لا يُشرِكُ باللهِ شيئًا، دخل الجنَّةَ )) [628] أخرجه البخاري (129)، ومسلم (93) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وكلُّ من نفى عنه الشَّارعُ اسمَ الإيمانِ من أهلِ المعاصي فإنَّهم من أهلِ هذه المرتبةِ، فإنَّ نفيَ الشَّارعِ يدُل ُّعلى تقصيرِه في الإيمانِ الواجِبِ، فإنَّ الشَّارعَ لا ينفي اسمَ الإيمانِ إلَّا لتَرْكِ واجبٍ أو فِعلٍ محرَّمٍ يُنافي الإيمانَ الواجِبَ، ولا يخرُجُ المرءُ من هذه المرتبةِ إلَّا بالكُفرِ والخُروجِ عن المِلَّةِ. والعياذُ باللهِ
[629] يُنظر: ((قواعد في بيان حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة)) لعادل الشيخاني (ص: 397). .
قال
محمَّدُ بنُ نَصرٍ المروزيُّ: (الكُفرُ ضِدٌّ لأصلِ الإيمانِ؛ لأنَّ للإيمانِ أصلًا وفرعًا، فلا يَثبُتُ الكُفرُ حتى يزولَ أصلُ الإيمانِ الذي هو ضِدُّ الكُفرِ)
[630] يُنظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 513). .
وقال
محمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ: (أصلُ الإسلامِ وقاعدتُه: شهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وهي أصلُ الإيمانِ باللهِ وَحْدَه، وهي أفضَلُ شُعَبِ الإيمانِ، وهذا الأصلُ لا بُدَّ فيه من العِلمِ والعَمَلِ والإقرارِ، بإجماعِ المُسلِمين، ومدلولُه: وجوبُ عبادةِ اللهِ وَحْدَه لا شريكَ له، والبراءةُ من عبادةِ ما سِواه، كائنًا من كان، وهذا هو الحكمةُ التي خُلِقَت لها
الجِنُّ والإنسُ، وأُرسِلَت لها الرُّسُلُ، وأُنزِلَت بها الكُتُبُ، وهي تتضَمَّنُ كَمالَ الذُّلِّ والحُبِّ، وتتضَمَّنُ كمالَ الطَّاعةِ والتعظيمِ، وهذا هو دينُ الإسلامِ، الذي لا يَقبَلُ اللهُ دينًا سِواه، لا من الأوَّلين ولا من الآخِرينَ)
[631] يُنظر: ((الدرر السنية)) (1/518). .
وقال عبدُ الرَّحمنِ بنُ حَسَن آل الشَّيخ: (مُطلَقُ الإيمانِ هو وَصفُ المُسلِمِ الذي معه أصلُ الإيمانِ الذي لا يتِمُّ إسلامُه إلَّا به، بل لا يَصِحُّ إلَّا به؛ فهذا في أدنى مراتِبِ الدِّينِ، إذا كان مُصِرًّا على ذَنبٍ أو تاركًا لِما وجب عليه مع القُدرةِ عليه)
[632] يُنظر: ((الإيمان والرد على أهل البدع)) ضمن (مجموعة الرسائل والمسائل النجدية) (ص: 4). .
وقال
ابنُ باز: (قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا يزني الزَّاني حين يزني وهو مُؤمِنٌ، ولا يَسرِقُ السَّارِقُ حين يَسرِقُ وهو مُؤمِنٌ، ولا يَشرَبُ الخَمرَ حين يَشرَبُها وهو مُؤمِنٌ، ولا يَنتَهِبُ نُهبةً، يرفَعُ النَّاسُ إليه فيها أبصارَهم، حين ينتَهِبُها وهو مُؤمِنٌ )). متَّفَقٌ عليه
[633] أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57) باختلاف يسير مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. . وفي رواية لمُسلِم:
((وإنْ صَلَّى وصام وزعم أنَّه مُسلِمٌ )) [634] أخرجها مسلم (59) باختلاف يسير مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وهذا يدُلُّ على أنَّ الإيمانَ يرتَفِعُ بهذه المعاصي الكبيرةِ، ويبقى أصلُه فقط، وأنَّ أصلَه باقٍ مع المُسلِم، لكِنْ كَمالُه وتمامُه يرتَفِعُ بهذه الكبائِرِ؛ كالزِّنا والسَّرِقةِ وشُربِ الخَمرِ وأكْلِ أموالِ النَّاسِ ونحوِ ذلك؛ لأنَّ هذا ينافي الإيمانَ الواجِبَ، ويرتفِعُ الإيمانُ الواجِبُ الذي يمنَعُه ممَّا حَرَّم اللهُ، ومن كونِ إيمانِه كاملًا، ومن كونِ إيمانِه الواجِبِ حاضِرًا)
[635] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (28/165). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (الفَرقُ بين الشَّيءِ المطلَقِ ومُطلَقِ الشَّيءِ؛ أنَّ الشَّيءَ المُطلَقَ يعني: الكَمالَ. ومُطلَقَ الشَّيءِ يعني: أصلَ الشَّيءِ؛ فالمُؤمِنُ الفاعِلُ للكبيرةِ عنده مُطلَقُ الإيمانِ، فأصلُ الإيمانِ موجودٌ عِندَه، لكِنْ كمالُه مفقودٌ)
[636] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/237). .