المَطلَبُ الثاني: توجيهُ النُّصوصِ التي فيها تسميةُ بعضِ الذُّنوبِ كُفرًا، أو فيها نفيُ الإيمانِ عن فاعِلِها أو البراءةُ منه
وردت بعضُ النُّصوصِ فيها تسميةُ بَعضِ الذُّنوبِ كُفرًا، أو فيها نفيُ الإيمانِ عن الواقِعِ فيها، أو فيها البراءةُ مِن فاعِلِها، وذلك مِثلُ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((سِبابُ المُسلِم فُسوقٌ، وقِتالُه كُفرٌ )) [820] أخرجه البخاري (48)، ومسلم (64) من حديثِ عبدِ اللهِ بن مسعود رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقَولِه:
((لا تَرجِعوا بعدي كُفَّارًا يَضرِبُ بَعضُكم رقابَ بَعضٍ )) [821] أخرجه البخاري (6868)، ومسلم (66) من حديثِ عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وقَولِه:
((اثِنْتانِ في أمَّتي هما بهم كُفرٌ: الطَّعنُ في النَّسَبِ، والنِّياحةُ على الميِّتِ )) [822] أخرجه مسلم (67) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقَولِه:
((من حمل علينا السِّلَاحَ فليس مِنَّا، ومن غَشَّنا فليس مِنَّا )) [823] أخرجه مسلم (101) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال
أبو عُبَيدٍ القاسِمُ بنُ سَلَّامٍ: (إنَّ الآثارَ جاءت بالتغليظِ على أربعةِ أنواعٍ: فاثنانِ منها فيها نفيُ الإيمانِ والبراءةُ من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والآخرانِ فيهما تسميةُ الكُفرِ وذِكرُ الشِّركِ، وكُلُّ نوعٍ من هذه الأربعةِ تجمَعُ أحاديثَ ذواتِ عِدَّةٍ)
[824] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 67). .
وقد كان لأهلِ السُّنَّةِ عِدَّةُ أقوالٍ في توجيهِ هذه الآثارِ التي ظاهِرُها نَفيُ الإيمانِ عن العاصي أو التبَرُّؤِ منه، ومنها يتبيَّنُ اتِّفاقُهم على أنَّ مُرتَكِبَ الكبيرةِ لا يَكفُرُ كُفرًا يَخرُجُ به مِنَ المِلَّةِ؛ لثُبوتِ الحُدودِ الشَّرعيةِ في بعضِ تلك الكبائِرِ، فإنَّه يُقامُ على صاحِبِها الحَدُّ، وفي هذا دَلالةٌ واضِحةٌ على أنَّه ليس بمرتدٍّ.
عن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كُنَّا عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مجلِسٍ فقال:
((بايِعوني على أن لا تُشرِكوا باللهِ شَيئًا، ولا تَسْرِقوا، ولا تَزْنوا )) وقرأ هذه الآيةَ كُلَّها
((فمَن وَفَى منكم فأجْرُه على اللهِ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعُوقِبَ به فهو كفَّارتُه، ومن أصاب من ذلك شيئًا فسَتَرَه اللهُ عليه؛ إن شاء غَفَر له، وإن شاء عَذَّبه )) [825] أخرجه البخاري (6784) واللفظ له، ومسلم (1709). .
ويمكِنُ جمعُ الأقوالِ الواردةِ في توجيهِ هذه النُّصوصِ على مَذهَبَينِ:أولًا: مَذهَبُ من رأى التوقُّفَ عن تفسيرِ هذه الأحاديثِ وإمرارَها كما جاءت، وهذا مرويٌّ عن جمعٍ من الأئمَّةِ وأهلِ العِلمِ؛ منهم:1-
محمَّدُ بنُ شِهابٍ الزُّهْريُّ: فقد قال لَمَّا سُئل عنها: (مِنَ الله عزَّ وجَلَّ العِلْمُ، وعلى الرَّسولِ البَلاغُ، وعلينا التسليمُ)
[826] يُنظر: ((السنة)) للخلال (3/ 579). .
2-
أحمَد بْنُ حَنبَلٍ: قال في حديثِ:
((من غَشَّنا فليس مِنَّا )): (يُروى الحديثُ كما جاء، وكما رُوِيَ، وتُصَدِّقُه وتَقبَلُه، وتعلَمُ أنَّه كما رُوِيَ... فاتَّبِعِ الأثَرَ في ذلك ولا تجاوِزْه)
[827] يُنظر: ((طبقات الحنابلة)) (1/27). ، وقال: (لا أدري إلَّا على ما رُوِيَ)
[828] يُنظر: ((السنة)) للخلال (3/ 578). .
3-
البَغَويُّ: قال: (القَولُ ما قال الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والعِلْمُ عند اللهِ عزَّ وجَلَّ)
[829] يُنظر: ((شرح السنة)) (1/91). .
ثانيًا: مَذهَبُ مَن فَسَّر هذه الأحاديثَ، ورأى أنَّ المقصودَ بنَفْيِ الإيمانِ إنَّما هو نَفْيُ كمالِه، لا أصلِه وحقيقتِه، وعلى هذا القَولِ كثيرٌ مِنَ الأئِمَّةِ والعُلَماءِ؛ منهم:1-
أبو عُبيدٍ القاسِمُ بنُ سَلَّامٍ: قال: (الذي عندنا في هذا البابِ كُلِّه أنَّ المعاصيَ والذُّنوبَ لا تزيلُ إيمانًا ولا توجِبُ كُفرًا، ولكِنَّها إنَّما تنفي من الإيمانِ حقيقتَه وإخلاصَه الذي نَعَت اللهُ به أهْلَه... وأمَّا الآثارُ المرويَّاتُ بذِكرِ الكُفرِ والشِّركِ ووجوبِهما بالمعاصي، فإنَّ معناها عندنا ليست تُثبِتُ على أهْلِها كُفرًا ولا شِركًا يزيلانِ الإيمانَ عن صاحِبِه، إنَّما وجوهُها: أنَّها من الأخلاقِ والسُّنَنِ التي عليها الكُفَّارُ والمشرِكون)
[830] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 78، 86). .
2-
ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ: قال
ابنُ حجَر: (قال
الحسَنُ البَصريُّ، و
محمَّدُ بنُ جريرٍ الطَّبَريُّ: معناه يُنزَعُ عنه اسمُ المدْحِ الذي سَمَّى اللهُ به أولياءَه، فلا يقالُ في حَقِّه مُؤمِنٌ، ويَستحِقُّ اسمَ الذَّمِّ، فيقالُ: سارِقٌ وزانٍ وفاجِرٌ وفاسِقٌ)
[831] يُنظر: ((فتح الباري)) (12/60). .
3- ابنُ أبي زمنين: قال: (هذه الأحاديثُ وما أشبهها معناها أنَّ هذه الأفعالَ المذكورةَ فيها من أخلاقِ الكُفَّارِ والمشركين وسُنَنِهم منهيٌّ عنها ليتحاشَاها المُسلِمون، وأمَّا أن يكونَ مَن فَعَل شيئًا منها مُشرِكًا باللهِ أو كافِرًا فلا)
[832] يُنظر: ((أصول السنة)) (ص: 239). .
4-
ابنُ الصَّلاح: قال في شرحِ حديثِ:
((لا يزني الزَّاني حين يزني وهو مؤمِنٌ )) [833] أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57) مطولًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه البخاري (6782) مطولًا من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما : (المرادُ به نَفيُ كَمالِ الإيمانِ عنه لا نَفْيُ أصلِ الإيمانِ... ويفيدُ: أنَّ الفاسِقَ لا يُطلَقُ عليه اسمُ المؤمِنِ. ويقالُ فيه: مؤمِنٌ ناقِصُ الإيمانِ؛ وذلك أنَّ الأصلَ أنَّ اسمَ الشَّيءِ إنَّما يُطلَقُ على الكامِلِ منه، والنَّاقِصُ منه يُذكَرُ به بقيدٍ يُشعِرُ بنَقْصِه، وأيضًا: فصِفةُ المؤمِنِ صِفةُ مَدحٍ غاليةٌ لا تليقُ بالفاسِقِ)
[834] يُنظر: ((صيانة صحيح مسلم)) (ص: 225). .
5-
النوويُّ: قال: (القَولُ الصَّحيحُ الذي قاله المحقِّقون أنَّ معناه: لا يفعَلُ هذه المعاصي وهو كامِلُ الإيمانِ، وهذا من الألفاظِ التي تُطلَقُ على نَفيِ الشَّيءِ، ويرادُ نَفيُ كَمالِه ومختارِه)
[835] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/ 41). .
وقد زاد
ابنُ تيميَّةَ قيدًا على ما ذكَرَه هؤلاء العُلَماءُ، وهو أنَّ المرادَ نَفيُ الكَمالِ الواجِبِ الذي يُذَمُّ تاركُه. فقال: (ولكِنْ يقتضي نفيَ الكَمالِ الواجبِ، وهذا مُطَّرِدٌ في سائِرِ ما نفاه اللهُ ورَسولُه... فإنَّه لا ينفي مسمَّى الاسمِ إلَّا لانتفاءِ بَعضِ ما يجِبُ في ذلك، لا لانتفاءِ بَعضِ مُستحبَّاتِه، فيفيدُ هذا الكلامُ أنَّ من فَعَل ذلك فقد ترك الواجِبَ الذي لا يتِمُّ الإيمانُ الواجِبُ إلَّا به، وإن كان معه بعضُ الإيمانِ)
[836] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/653). .
وبهذا تتبَيَّنُ خُطورةُ ركوبِ المعاصي، والغَفلةِ عن تعاهُدِ الإيمانِ بما يقَوِّيه ويَزيدُ فيه، وهذا لا يتِمُّ إلَّا بفِعلِ الطَّاعاتِ وتَرْك المنهِيَّات؛ ولهذا جاء التشديدُ على فاعِلِها، والتوعُّدُ على فِعْلِها بالعَذابِ
[837] يُنظر: ((الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه)) لعبد الرزاق بن طاهر (ص: 99). .