الفَصلُ الرَّابعُ: حُكمُ من مات من أطفالِ المُشرِكين
اختلف أهلُ العِلْمِ في حُكمِ من مات من أطفالِ المُشرِكين على ثلاثةِ أقوالٍ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ أطفالَ المُشرِكين في الجَنَّةِ.
واحتُجَّ لهذا بما احتُجَّ به في أطفال المُسلِمين بما يلي:
1- أنَّهم على الفِطرةِ، وفي الحديثِ:
((كُلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ )) [915] أخرجه مطولاً البخاري (1385) واللفظ له، ومسلم (2658) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
2- أنَّهم لم يفعلوا ما يؤاخَذون به، ولم يَفعَلوا ما يُعَذَّبون به، فاللائِقُ بعَدلِ الله سُبحانَه وتعالى أنَّهم من أصحابِ الجنَّةِ.
3- حديثُ سَمُرةَ بنِ جُندَبٍ رَضِيَ اللهُ عنه في رُؤيا النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه أنَّه رأى إبراهيمَ عليه السَّلَامُ وحَولَه ذراريُّ المُشرِكين مع ذراريِّ المُؤمِنين، ولفظُه:
((وأمَّا الرَّجُلُ الطَّويلُ الذي في الرَّوضةِ فإنَّه إبراهيمُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأمَّا الوِلدانِ الذين حوله فكُلُّ مولودٍ مات على الفِطرةِ))، فقال بعضُ المُسلِمين: يا رَسولَ اللهِ، وأولادُ المشركين؟ فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((وأولادُ المُشرِكينَ)) [916] أخرجه البخاري (7047) مطولاً. .
4- عُمومُ قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((النبيُّ في الجنَّةِ، والشَّهيدُ في الجنَّةِ، والمولودُ في الجنَّةِ، والوئيدُ في الجنَّةِ )) [917] أخرجه أبو داود (2521)، وأحمد (20583) من حديثِ أسلمَ بنِ سليمٍ الصريميِّ عمِّ حسناءَ ابنةِ مُعاويةَ. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2521)، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2521)، وحَسَّن إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (3/390). .
فالمولودُ سواءٌ من أبٍ كافرٍ أو مُسلِمٍ، فهو في الجنَّةِ.
5- عن
أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يبقى من الجنَّةِ ما شاء اللهُ أن يبقى، ثمَّ يُنشِئُ اللهُ تعالى لها خَلقًا مِمَّا يشاءُ )) [918] أخرجه مسلم (2848). .
فهذا الحديثُ يُبَيِّنُ سَعةَ فَضلِ اللهِ وكَرَمِه، وأنَّه يُنشِئُ في الآخِرةِ خَلقًا جديدًا من النَّاسِ ليُدخِلَهم جنَّتَه، فمن بابِ أَولى أنَّه يُدخِلُ جَنَّتَه من أنشأهم من الأطفالِ في الدُّنيا ممَّن ماتوا صغارًا برحمتِه وفَضْلِه. والله أعلمُ
قال المباركفوري: (يؤيِّدُ هذا المذهَبَ الثَّالثَ أي: إنَّ أطفالَ المُشرِكين في الجنَّةِ ما رواه أبو يَعْلَى من حديثِ
أنسٍ مَرفوعًا:
((سألتُ رَبِّي اللَّاهينَ من ذُرِّيَّةِ البَشَرِ ألَّا يُعَذِّبَهم، فأعطانيهم)). قال
الحافِظُ: إسنادُه حسَنٌ. قال: وورد تفسيرُ اللاهين بأنَّهم الأطفالُ من حديثِ
ابنِ عَبَّاسٍ مرفوعًا، أخرجه البزَّارُ)
[919] يُنظر: ((تحفة الأحوذي)) (6/ 288). .
القَولُ الثَّاني: التوَقُّفُ في الحُكمِ على أطفالِ المُشرِكين، فلا نقولُ: إنَّهم من أهلِ الجَنَّةِ، ولا من أهلِ النَّارِ.
قال
ابنُ القَيِّمِ: (هذا قد يُعَبَّرُ عنه بمذهَبِ الوَقْفِ، وقد يُعَبَّرُ عنه بمذهَبِ المَشيئةِ، وأنَّهم تحت مشيئةِ اللهِ يَحكُمُ فيهم بما يَشاءُ، ولا يُدرى حُكمُه فيهم ما هو)
[920] يُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (2/ 1086). .
وهو منسوبٌ ل
أحمَدَ بْنِ حَنبَلٍ، وبَعضِ السَّلَفِ
[921] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيميَّةَ (8/ 397). .
وقال
ابنُ عبدِ البَرِّ بعد إيرادِه بَعْضَ الآثارِ في هذه المسألةِ: (بهذه الآثارِ وما كان مِثْلَها احتَجَّ مَن ذَهَب إلى الوُقوفِ عن الشَّهادةِ لأطفالِ المُسلِمينَ أو المُشرِكينَ بجَنَّةٍ أو نارٍ، وإليها ذهب جماعةٌ كثيرةٌ مِن أهلِ الفِقهِ والحديثِ؛ منهم حَمَّادُ بنُ زَيدٍ، وحَمَّادُ بنُ سَلَمةَ، و
ابنُ المُبارَكِ، و
إسحاقُ بنُ راهَوَيهِ، وهو يُشبِهُ ما رسَمَه
مالِكٌ في أبوابِ القَدَرِ في مُوَطَّئِه، وما أورد في ذلك من الأحاديثِ، وعلى ذلك أكثَرُ أصحابِه، وليس عن
مالِكٍ فيه شيءٌ منصوصٌ، إلَّا أنَّ المتأخِّرينَ مِن أصحابِه ذَهَبوا إلى أنَّ أطفالَ المُسلِمينَ في الجنَّةِ، وأطفالَ الكُفَّارِ خاصَّةً في المشيئةِ؛ لآثارٍ وَرَدت في ذلك)
[922] يُنظر: ((التمهيد)) (18/111). ويُنظر: .
ومن أدِلَّةِ هذا القَولِ:
1- تعارُضُ الأدِلَّةِ في ذلك، وعَدَمُ وُضوحِ وبيانِ شَيءٍ منها في نَظَرِهم.
2- قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((اللهُ أعلَمُ بما كانوا عامِلين )) [923] أخرجه البخاري (1384)، ومسلم (2658) مطولاً من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
القَولُ الثَّالثُ: أنَّ أطفالَ المُشرِكين يُمتحَنون يومَ القيامةِ؛ فإن آمنوا دخلوا الجنَّةَ، وإن كَفَروا دخلوا النَّارَ.
وممَّن ذهب إليه ورَجَّحه
البيهقيُّ،
وابنُ تيميَّةَ، و
ابنُ القَيِّم، و
ابنُ كثيرٍ، و
ابنُ باز، و
ابنُ عُثَيمين [924] يُنظر: ((الاعتقاد)) (ص: 187)، ((الجواب الصحيح)) (2/ 298)، ((طريق الهجرتين)) (ص: 396)، ((تفسير ابن كثير)) (5/ 58)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (5/182)، ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (17/443). .
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (من لم تَقُمْ عليه الحُجَّةُ في الدُّنيا بالرِّسالةِ؛ كالأطفالِ، والمجانينِ، وأهلِ الفَتَراتِ، فهؤلاء فيهم أقوالٌ أظهَرُها ما جاءت به الآثارُ أنَّهم يُمتَحَنونَ يومَ القيامةِ، فيَبعَثُ اللهُ إليهم من يأمُرُهم بطاعتِه، فإن أطاعوه استحَقُّوا الثَّوابَ، وإن عَصَوه استحَقُّوا العِقابَ)
[925] ((الجواب الصحيح)) (2/ 298) .
قال
ابنُ باز: (أولادُ الكُفَّارِ يُمتَحَنون يومَ القيامةِ كأهلِ الفَترةِ، فإن أجابوا جوابًا صحيحًا نَجَوا، وإلَّا صاروا مع الهالِكين. وقال جمعٌ من أهلِ العِلْمِ: إنَّ أطفالَ الكُفَّارِ من الناجين؛ لكونِهم ماتوا على الفِطْرةِ، ولأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رآهم حين دخل الجنَّةَ في رَوضةٍ مع إبراهيمَ عليه السَّلَامُ هم وأطفالَ المُسلِمين، وهذا قَولٌ قَويٌّ لوضوحِ دليلِه، أمَّا أطفالُ المُسلِمين فهم من أهلِ الجنَّةِ بإجماعِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، واللهُ أعلَمُ وأحكَمُ)
[926] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (5/182). .