المَبْحَثُ الثَّاني: الفَرْقُ بين التَّكفيرِ المُطلَقِ وتكفيرِ المُعَيَّنِ
يُفَرِّقُ أهلُ السُّنَّةِ بين التَّكفيرِ المطلَقِ وتكفيرِ المُعَيَّنِ، ففي الأوَّلِ يُطلَقُ القَوْلُ بتكفيرِ صاحِبِه -الذي تلبَّس بالكُفْرِ- فيقالُ: من قال كذا، أو فعل كذا، فهو كافِرٌ، ولكِنَّ الشَّخصَ المُعَيَّنَ الذي قاله أو فعَلَه، لا يُحكَمُ بكُفْرِه إطلاقًا حتى تجتَمِعَ فيه الشُّروطُ، وتنتفي عنه الموانِعُ، فعندئذٍ تقومُ عليه الحُجَّةُ التي يَكفُرُ تاركُها.
قال
الأصبهانيُّ: (مشايخُ أهلِ الحديثِ قد أطلقوا القَولَ بتكفيرِ القَدَريَّةِ، وكَفَّروا من قال بخَلقِ القُرآنِ، وقال جماعةٌ من العُلَماءِ: قد نُطلِقُ الكَلِمةَ على الشَّيءِ لنوعٍ من التمثيلِ، ولا يُحكَمُ بحقيقتِها عند التفصيلِ)
[1372] يُنظر: ((الحجة على تارك المحجة)) (2/552). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (كنتُ أُبَيِّنُ لهم أنَّ ما نُقِلَ لهم عن السَّلَفِ والأئِمَّةِ مِن إطلاقِ القَولِ بتكفيرِ من يقولُ كذا وكذا، فهو أيضًا حَقٌّ، لكِنْ يجِبُ التفريقُ بين الإطلاقِ والتعيينِ، وهذه أوَّلُ مسألةٍ تنازعت فيها الأمَّةُ من مسائِلِ الأُصولِ الكِبارِ، وهي مسألةُ الوعيدِ)
[1373] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/230). .
وقال أيضًا: (ليس لأحَدٍ أن يُكَفِّرَ أحدًا من المُسْلِمين، وإن أخطأ وغَلِط، حتى تقامَ عليه الحُجَّةُ، وتُبَيَّنُ له المحجَّةُ، ومن ثبت إسلامُه بيقينٍ لم يَزُلْ ذلك عنه بالشَّكِّ، بل لا يزولُ إلَّا بعد إقامةِ الحُجَّةِ، وإزالةِ الشُّبهةِ)
[1374] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/466). .
ثمَّ قال: (إنَّ التَّكفيرَ له شُروطٌ وموانِعُ قد تنتفي في حَقِّ المُعَيَّنِ، وإنَّ تكفيرَ المُطلَقَ لا يستلزِمُ تكفيرَ المُعَيَّنِ، إلَّا إذا وُجِدَت الشُّروطُ، وانتفت الموانِعُ، يُبَيِّنُ هذا أنَّ
الإمامَ أحمدَ وعامَّةَ الأئمَّةِ الذين أطلَقوا هذه العُموماتِ، لم يُكَفِّروا أكثَرَ من تكَلَّم بهذا الكلاِم بعَيْنِه)
[1375] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/487). .
وقال أيضًا: (الأقوالُ التي يَكفُرُ قائِلُها قد يكونُ الرَّجُلُ لم تبلُغْه النُّصوصُ المُوجِبةُ لمعرفةِ الحَقِّ، وقد تكونُ عنده، ولم تَثبُتْ عِندَه، أو لم يتمَكَّنْ مِن فَهْمِها، وقد يكونُ قد عَرَضَت له شُبُهاتٌ يَعذِرُه اللهُ بها، فمن كان من المُؤمِنين مجتهدًا في طَلَبِ الحَقِّ وأخطأ، فإنَّ اللهَ يَغفِرُ له خطاياه كائنًا ما كان، سواءٌ كان في المسائِلِ النظَرِيَّةِ أو العَمَليَّةِ، هذا الذي عليه أصحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وجماهيرُ أئمَّةِ الإسلامِ)
[1376] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (23/346-349). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (اعلَمْ -رحمك اللهُ وإيَّانا- أنَّ بابَ التكفيرِ وعَدَمِ التكفيرِ: بابٌ عَظُمَت الفتنةُ والمحنةُ فيه، وكَثُر فيه
الافتراقُ، وتشَتَّتَت فيه الأهواءُ والآراءُ، وتعارضت فيه دلائِلُهم؛ فالنَّاسُ فيه في جنسِ تكفيرِ أهلِ المقالاتِ والعقائِدِ الفاسِدةِ المخالِفةِ للحَقِّ الذي بعَث اللهُ به رسولَه في نفسِ الأمرِ، أو المخالِفةِ لذلك في اعتقادِهم؛ على طَرَفينِ ووَسَطٍ، مِن جِنسِ الاختلافِ في تكفيرِ أهلِ الكبائِرِ العَمَليَّةِ... إذا كان القَولُ في نَفْسِه كُفرًا، قيل: إنَّه كُفرٌ، والقائِلُ له يَكفُرُ بشُروطٍ وانتفاءِ موانِعَ، ولا يكونُ ذلك إلَّا إذا صار منافِقًا زنديقًا، فلا يُتصَوَّرُ أن يُكَفَّرَ أحدٌ مِن أهلِ القِبلةِ المظهرينَ الإسلامَ إلَّا من يكونُ مُنافِقًا زِنديقًا. وكتابُ اللهِ يُبَيِّنُ ذلك)
[1377] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 432-437). .
وقال
ابنُ الهمام: (اعلَمْ أنَّ الحُكمَ بكُفرِ مَن ذَكَرْنا من أهلِ الأهواءِ مع ما ثبت عن
أبي حنيفةَ و
الشَّافعيِّ -رَحِمَهم اللهُ- من عدمِ تكفيرِ أهلِ القِبلةِ مِن المبتَدِعةِ كُلِّهم: مَحمَلُه أنَّ ذلك المعتَقَدَ نَفْسَه كُفرٌ، فالقائِلُ به قائِلٌ بما هو كُفرٌ، وإن لم يَكفُرْ بناءً على كَونِ قَولِه ذلك عن استفراغِ وُسْعِه، مُجتَهِدًا في طَلَبِ الحَقِّ)
[1378] يُنظر: ((فتح القدير)) (1/351). .
وقال
محمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ: (مسألةُ تكفيرِ المُعَيَّنِ مسألةٌ معروفةٌ، إذا قال قولًا يكونُ القَوْلُ به كُفرًا، فيقال: من قال بهذا القَوْلِ، فهو كافِرٌ، لكِنَّ الشَّخصَ المُعَيَّنَ إذا قال ذلك، لا يُحكَمُ بكُفرِه حتى تقومَ عليه الحُجَّةُ التي يَكفُرُ تارِكُها)
[1379] يُنظر: ((الدرر السنية)) (10/432). .
وبهذا يتبيَّنُ خَطَأُ فريقينِ من النَّاسِ: فَريقٌ غلا في التَّكفيرِ، فكَفَّر بإطلاقٍ دونَ النَّظَرِ إلى الشُّروط والموانعِ، وفَريقٌ غلا وامتنع عن تكفيرِ المُعَيَّنِ بإطلاقٍ، فأغلق بابَ
الرِّدَّةِ. ووفَّقَ اللهُ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ للقَولِ الوَسَطِ.