تم اعتماد المنهجية من الجمعية الفقهية السعودية
برئاسة الشيخ الدكتور سعد بن تركي الخثلان
أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود
عضو هيئة كبار العلماء (سابقاً)
1- التقليدُ المُباحُ: يكونُ في حَقِّ العامِّي الذي لا يَعرِفُ طُرُقَ الأحكامِ الشَّرعيَّة، ويَعجِزُ عن معرفتِها، ولا يمكِنُه فَهمُ أدِلَّتِها، ولكِنْ له طَلَبُ الدَّليلِ الشَّرعيِّ من المفتي؛ لأنَّ المسلِمَ من حَقِّه أن يستوثِقَ مِن أمرِ دينِه. 2- التقليدُ المذمومُ: هو تقليدُ رجُلٍ واحدٍ مُعَيَّنٍ دون غيرِه من العُلَماء في جميعِ أقوالِه أو أفعالِه، ولا يرى الحَقَّ إلَّا فيه. وقد ذهب جمهورُ أئِمَّةِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ إلى جوازِ التقليدِ في العقائدِ والأحكامِ للعامِّي الذي يعجِزُ عن فَهمِ الحُجَّةِ والنَّظَرِ والاستدلالِ. ويحرُمُ التقليدُ على العالمِ، أو الذي يستطيعُ النَّظَرَ والاستدلالَ؛ إذا اجتهد وبان له الحَقُّ في المسألةِ، سواءٌ كان ذلك في العقائِدِ أو الأحكامِ؛ لورود الأدِلَّة في ذمِّ التقليدِ والمقَلِّدين. واتَّفَقوا على أنَّ التقليدَ من موانع ِالتكفيرِ؛ لأنَّ المقَلِّدَ جاهِلٌ لا يفهَمُ الدَّليلَ أو الحُجَّةَ، ولا بصيرةَ له ولا فِقهَ؛ فهو معذورٌ حتى تقامَ عليه الحُجَّةُ ويَفهَمَها [1661] ينظر: ((موسوعة الفقه الإسلامي)) للتويجري (5/ 179)، ((التوسط والاقتصاد)) للسقاف (1/ 14)، ((الإيمان حقيقته خوارمه نواقضه عند أهل السنة)) لعبدالله الأثري (ص: 272). . قال ابنُ عبد البَرِّ: (هذا كُلُّه لغيرِ العامَّةِ، فإنَّ العامَّةَ لا بدَّ لها من تقليدِ عُلَمائِها عند النازلةِ تَنزِلُ بها، لأنَّها لا تتبيَّنُ موقِعَ الحُجَّةِ، ولا تَصِلُ بعَدَمِ الفَهمِ إلى عِلمِ ذلك؛ لأنَّ العِلمَ دَرَجاتٌ لا سبيلَ منها إلى أعلاها إلَّا بنَيلِ أسفَلِها، وهذا هو الحائِلُ بين العامَّةِ وبين طَلَبِ الحُجَّةِ. واللهُ أعلَمُ، ولم تختَلِفِ العُلَماءُ أنَّ العامَّةَ عليها تقليدُ عُلَمائِها) [1662] يُنظر: ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/ 230). . وقال ابنُ تَيميَّةَ: (الذي عليه جماهيرُ الأمَّةِ أنَّ الاجتهادَ جائزٌ في الجملةِ، والتقليدَ جائِزٌ في الجُملةِ، لا يوجِبون الاجتهادَ على كُل ِّأحدٍ، ويحَرِّمون التقليدَ، ولا يوجِبون التقليدَ على كُلِّ أحدٍ ويحَرِّمون الاجتهادَ، وأنَّ الاجتهادَ جائزٌ للقادِرِ على الاجتهادِ، والتقليدَ جائزٌ للعاجِزِ عن الاجتهادِ، فأمَّا القادِرُ على الاجتهادِ، فهل يجوزُ له التقليدُ؟ هذا فيه خِلافٌ، والصَّحيحُ أنَّه يجوزُ حيث عَجز عن الاجتهادِ؛ إمَّا لتكافؤِ الأدِلَّة، وإمَّا لضِيقِ الوَقتِ عن الاجتهادِ، وإمَّا لعَدَمِ ظُهور ِدليلٍ له، فإنَّه حيث عجز سقط عنه وجوبُ ما عجز عنه، وانتقل إلى بدَلِه وهو التقليدُ، كما لو عجز عن الطَّهارةِ بالماءِ، وكذلك العامِّيُّ إذا أمكنه الاجتهادُ في بعضِ المسائلِ جاز له الاجتهادُ؛ فإنَّ الاجتهادَ منصِبٌ يقبل التجزُّؤَ والانقسامَ، فالعِبرةُ بالقُدرةِ والعَجزِ) [1663] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (20/203). . وقال الشنقيطي: (التحقيقُ أنَّ التقليدَ منه ما هو جائزٌ، ومنه ما ليس بجائزٍ، ومنه ما خالف فيه المتأخِّرون المتقَدِّمين من الصَّحابة وغيرِهم من القُرونِ الثلاثةِ المفَضَّلة،... أمَّا التقليدُ الجائِزُ الذي لا يكادُ يخالِفُ فيه أحدٌ من المسلمين فهو تقليدُ العامِّي عالِمًا أهلًا للفُتيا في نازلةٍ نزلت به، وهذا النوعُ من التقليدِ كان شائعًا في زمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا خِلافَ فيه، فقد كان العامِّي يسألُ من شاء من أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن حُكمِ النَّازلة تنزِلُ به، فيُفتيه فيعمَلُ بفُتياه، وإذا نزلت به نازلةٌ أخرى لم يرتَبِطْ بالصَّحابي الذي أفتاه أولًا، بل يسألُ عنها من شاء من أصحابِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ يعمَلُ بفُتياه،... وأمَّا ما ليس من التقليدِ بجائزٍ بلا خلافٍ، فهو تقليدُ المجتَهِدِ الذي ظهر له الحُكمُ باجتهادِه مجتَهِدًا آخَرَ يرى خلافَ ما ظهر له هو؛ للإجماعِ على أنَّ المجتَهِدَ إذا ظهر له الحُكمُ باجتهاده، لا يجوزُ له أن يقَلِّدَ غَيرَه المخالِفَ لرأيِه [1664] قال ابن تيمية في بيانِ حُكمِ تقليدِ المجتهِدِ لمجتهدٍ مِثلِه: (ولهذا نَقَل غيرُ واحدٍ الإجماعَ على أنَّه لا يجوزُ للعالم أن يقلِّدَ غيرَه إذا كان قد اجتهد واستدَلَّ وتبيَّن له الحقُّ الذي جاء به الرَّسولُ، فهناك لا يجوز له تقليدُ من قال خلافَ ذلك بلا نزاعٍ، ولكِنْ هل يجوزُ مع قدرتِه على الاستدلالِ أن يقلِّدَ هذا؟ فيه قولانِ). يُنظر: ((الفتاوى)) (19/261). ، وأمَّا نوعُ التقليدِ الذي خالف فيه المتأخِّرون الصَّحابةَ وغيرَهم من القُرونِ المشهودِ لهم بالخيرِ، فهو تقليدُ رجلٍ واحدٍ مُعَيَّنٍ دون غيره من جميع العُلَماء، فإنَّ هذا النوعَ من التقليدِ لم يَرِدْ به نصٌّ من كتابٍ ولا سُنَّة، ولم يقُلْ به أحدٌ من أصحابِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا أحَدٌ من القُرونِ الثَّلاثةِ المشهود لهم بالخيرِ، وهو مخالِفٌ لأقوالِ الأئِمَّة الأربعةِ رحمهم الله، فلم يقُلْ أحدٌ منهم بالجمودِ على قَولِ رجلٍ واحدٍ مُعَيَّنٍ دون غيره من جميعِ عُلَماء المسلمين، فتقليدُ العالمِ المعَيَّن من بِدَعِ القرنِ الرَّابع، ومن يدَّعي خلافَ ذلك فليُعَيِّنْ لنا رجلًا واحدًا من القُرونِ الأولى التزم مذهَبَ رجلٍ واحدٍ مُعَيَّنٍ، ولن يستطيعَ ذلك أبدًا؛ لأنَّه لم يقع ألبتَّةَ) [1665] يُنظر: ((أضواء البيان)) (7/ 306)، . وخلاصةُ ما سبق: أنَّ التقليدَ يجوزُ للعامِّي العاجِزِ عن فَهمِ الحُجَّة، وأمَّا العالمُ إذا اجتهد وبان له الحقُّ في المسألةِ فيَحرُمُ عليه أن يقَلِّدَ مجتَهِدًا مِثلَه، أمَّا إذا لم يجتَهِدْ في المسألةِ مع قدرتِه، فيجوزُ له التقليدُ في حالاتٍ مُعَيَّنةٍ على الصَّحيحِ. واللهُ أعلَمُ [1666] يُنظر: ((نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف)) لمحمد الوهيبي (2/39). .