المَطلَب الثَّاني: حُكمُ الجَهلِ بالمعلومِ من الدِّينِ بالضَّرورةِ
إنَّ لاختلافِ العِلمِ بمسائِلِ الدِّينِ ضَرورةً أثرًا قويًّا في اختلافِ الحُكمِ على من خالف هذا المعلومَ من الدِّينِ بالضَّرورةِ؛ إمَّا بجَحْدِه، أو بمخالفتِه، وفيما يلي أهمُّ تلك الأحكامِ مدعومةً بأقوالِ أهلِ العِلمِ:
1- الأحكامُ الظَّاهرةُ والمتواترةُ، سواءٌ كانت واجباتٍ أو محرَّماتٍ، إذا كانت كذلك في دار الإسلامِ، والعِلمُ بها منتَشِرٌ بين جميعِ النَّاسِ، لا فَرْقَ في ذلك بين عالمٍ أو عامِّيٍّ؛ فإنَّها تكونُ من قَبيلِ المعلومِ من الدِّينِ بالضَّرورةِ الذي لا يسَعُ أحدًا من المُسلِمين جَهْلُه، وجاحِدُه كافِرٌ بلا نزاعٍ بين أهلِ العِلمِ، والمخالِفُ له بالتَّرْكِ إن كان واجبًا يُعاقَبُ بقَدْرِ مخالفَتِه، وإن كان حرامًا فِعْلُه، يعاقَبُ على ذلك الفِعلِ.
وعلى هذا المعنى تُحمَلُ أقوالُ العُلَماءِ في تكفيرِ جاحدِ المعلومِ مِن الدِّينِ بالضَّرورةِ، كقَولِ
الخطَّابي،
والنَّووي، وابنِ تيميَّةَ، وقد تقَدَّم ذِكْرُها.
قال
ابنُ قُدامةَ: (وأمَّا إذا كان الجاحِدُ لها ناشئًا في الأمصارِ بيْن أهلِ العِلمِ، فإنَّه يَكفُرُ بمجَرَّدِ جَحْدِها، وكذلك الحُكمُ في مباني الإسلامِ كُلِّها، وهي الزكاةُ والصِّيامُ والحَجُّ؛ لأنَّها مباني الإسلامِ، وأدِلَّةُ وُجوبِها لا تكادُ تَخفى؛ إذ كان الكِتابُ والسُّنَّةُ مَشحونَينِ بأدِلَّتِها، والإجماعُ مُنعَقِدٌ عليها، فلا يجحَدُها إلَّا معانِدٌ للإسلامِ، يمتَنِعُ من التزامِ الأحكامِ، غيرُ قابِلٍ لكِتابِ اللهِ تعالى، ولا سُنَّةِ رَسولِه، ولا إجماعِ أُمَّتِه)
[2501] يُنظر: ((المغني)) (12/275). .
2- أنَّ المعلومَ للخاصَّةِ من الدِّينِ بالضَّرورةِ، يُعذَرُ جاهِلُه من العامَّةِ إذا خالفه باستحلالٍ أو جحودٍ؛ لأنَّه من أخبارِ الخاصَّةِ التي ليست تبلُغُها العامَّةُ، كما قال
الشَّافعيُّ؛ ولهذا تكونُ مسائِلُ هذا النَّوعِ من العِلمِ غيرَ معلومةٍ بالكُلِّيَّةِ للعوامِّ، فضلًا عن أن تكونَ معلومةً لهم بالضَّرورةِ.
فجاهِلُ هذا النَّوعِ من العِلمِ وإن كان معلومًا من الدِّينِ بالضَّرورةِ عند الإطلاقِ، معذورٌ حتى يَعلَمَه؛ لأنَّه خاصٌّ بالعُلَماءِ؛ لذلك لم يكُنْ مُوَسَّعًا لِمن كان عالِمًا في جَهْلِه ومخالفتِه إذا كان مِثْلُه لا يجهَلُه، وقد تقدَّم كلامُ ابنِ الوزيرِ على هذه المسألةِ.
قال
الخطَّابي: (أمَّا ما كان الإجماعُ فيه معلومًا من طريقِ عِلمِ الخاصَّةِ، كتحريمِ نِكاحِ المرأةِ على عَمَّتِها وخالتِها، وأنَّ قاتِلَ العَمدِ لا يَرِثُ، وأنَّ للجَدَّةِ السُّدُسَ، وما أشبه ذلك من الأحكامِ؛ فإنَّ من أنكرها لا يَكفُرُ، بل يُعذَرُ فيها؛ لعَدَمِ استفاضةِ عِلْمِها في العامَّةِ، وتفَرُّدِ الخاصَّةِ بها)
[2502] يُنظر: ((معالم السنن)) (2/9). .
3- أنَّ من نشأ في باديةٍ بعيدةٍ عن حاضِرةِ العِلمِ والعُلَماءِ، أو كان حديثَ عَهدٍ بالإسلامِ؛ فإنَّه يُعذَرُ بجَهلِ المعلومِ من الدِّينِ بالضَّرورةِ عند غيرِه ممَّن ليسوا حديثي عَهدٍ بالإسلامِ، ويعيشون بين أهلِ العِلمِ والدَّعوةِ؛ لأنَّ في عَدَمِ عُذرِه بجَهْلِه هذا النَّوعَ من العِلمِ تكليفًا له بما لا يطيقُ في هذه الحالةِ، وهذا فيه من المشقَّةِ ما فيه، وقد عُلِمَ أنَّ القاعدةَ في مِثلِ هذه الأحوالِ أنَّ المشقَّةَ تجلِبُ التيسيرَ، ومن التيسيرِ عليه في هذه الحالةِ عُذرُه بالجَهلِ حتى يتعَلَّمَ وتقامَ عليه الحُجَّةُ القاطِعةُ للعُذرِ.
وهذا الحُكْمُ قد نُقِل الاتِّفاقُ عليه بين العُلَماءِ، وهذه جملةٌ من أقوالِهم:
قال
الخطَّابيُّ: (أرأيتَ إن أنكَرَت طائفةٌ من أهلِ المُسلِمين في زماننا فَرضَ الزكاةِ وامتنعوا من أدائِها إلى الإمامِ، هل يكونُ حُكمُهم حُكمَ أهلِ البَغيِ؟ قيل: لا؛ فإنَّ من أنكر فَرْضَ الزكاةِ في هذا الزَّمانِ كان كافِرًا بإجماع المُسلِمين. والفَرْقُ بين هؤلاء وبين أولئك القومِ أنَّهم إنَّما عُذِروا فيما كان منهم حتى صار قتالُ المُسلِمين إيَّاهم على استخراجِ الحقِّ منهم دونَ القصدِ إلى دمائِهم؛ لأسبابٍ وأمورٍ لا يحدُثُ مثلُها في هذا الزَّمانِ؛ منها: قُربُ العهدِ بزمانِ الشَّريعةِ التي كان يقعُ فيها تبديلُ الأحكامِ، ومنها: وقوعُ الفترةِ بموتِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكان القومُ جُهَّالًا بأمورِ الدِّينِ، وكان عهدُهم حديثًا بالإسلامِ، فتداخلَتْهم الشُّبهةُ، فعُذِروا كما عُذِرَ بعضُ من تأوَّل من الصَّحابةِ في استباحةِ شُربِ الخَمرِ قَولَه تعالى:
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ... [المائدة: 93] ، فقالوا: نحن نشرَبُها ونؤمِنُ باللهِ ونعمَلُ الصَّالحاتِ ونتَّقي ونُصلِحُ! فأمَّا اليومَ فقد شاع دينُ الإسلامِ، واستفاض عِلمُ وُجوبِ الزكاةِ حتى عرَفَه الخاصُّ والعامُّ، واشترك فيه العالمُ والجاهِلُ، فلا يُعذَرُ أحدٌ بتأويلٍ يتأوَّلُ في إنكارها، وكذلك الأمرُ في كُلِّ من أنكر شيئًا ممَّا أجمعت عليه الأُمَّةُ من أمورِ الدِّينِ إذا كان منتَشِرًا؛ كالصَّلواتِ الخمسِ، وصومِ شَهرِ رمضانَ، والاغتسالِ من
الجنابةِ، وتحريمِ الزِّنا والخَمرِ، ونكاحِ ذواتِ المحارمِ، في نحوِها من الأحكامِ، إلَّا أن يكونَ رجلٌ حديثُ عَهدٍ بالإسلامِ لا يعرِفُ حدودَه، فإذا أنكر شيئًا منه جهلًا به، لم يكفُرْ، وكان سبيلُه سبيلَ أولئك القومِ في تبقيةِ اسمِ الدِّينِ عليه)
[2503] يُنظر: ((معالم السنن)) (2/8). .
وقال
ابنُ قدامةَ: (لا خِلافَ بين أهلِ العِلمِ في كُفرِ من تركها جاحدًا لوجوبها، إذا كان ممَّن لا يجهَلُ مِثلُه ذلك، فإن كان ممَّن لا يعرِفُ الوجوبَ؛ كحديثِ الإسلامِ، والنَّاشئِ بغيرِ دارِ الإسلامِ، أو باديةٍ بعيدةٍ عن الأمصارِ وأهلِ العِلم، لم يُحكَمْ بكُفْرِه، وعُرِّف ذلك، وتَثبُت له أدِلَّةُ وُجوبِها، فإن جحَدَها بعد ذلك كَفَر،... وكذلك كُلُّ جاهلٍ بشَيءٍ يمكِنُ أن يجهَلَه لا يُحكَمُ بكُفْرِه حتى يُعرَّفَ ذلك، وتزولَ الشُّبهةُ، ويَستحِلَّه بعد ذلك)
[2504] يُنظر: ((المغني)) (12/275-277). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (اتَّفَق الأئِمَّةُ على أنَّ من نشأ بباديةٍ بعيدةٍ عن أهلِ العِلمِ والإيمانِ، وكان حديثَ العَهدِ بالإسلامِ، فأنكر شيئًا من هذه الأحكامِ الظَّاهرةِ المتواترةِ؛ فإنَّه لا يُحكَمُ بكُفرِه حتى يُعرَّفَ ما جاء به الرَّسولُ)
[2505] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/407). .
وقال أيضًا: (ولهذا لو أسلم رجلٌ ولم يعلَمْ أنَّ الصَّلاةَ واجبةٌ عليه، أو لم يعلَمْ أنَّ الخمرَ محرَّمٌ؛ لم يكفُرْ بعَدَمِ اعتقادِ إيجابِ هذا، وتحريمِ هذا، بل ولم يعاقَبْ حتى تبلُغَه الحُجَّةُ النبويَّةُ)
[2506] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/406). .
والخلاصةُ: أنَّ الحُكْمَ في مسألةِ المعلومِ من الدِّينِ بالضَّرورةِ ومدى العُذرِ بجَهْلِه، ليس مطَّرِدًا، بل مجالُه التفصيلُ على النَّحوِ الذي مَرَّ معنا؛ نظرًا لاختلافِ مَناطِ الحُكْمِ بحسَبِ الأحوالِ المعَلَّقةِ بالمسائِلِ العِلميَّة، أو بالأشخاصِ ما بين عُلَماءَ وعامَّةٍ، وحديثِ عهدٍ بالإسلامِ، ومن نشأ بباديةٍ بعيدةٍ، أو بالأمكنةِ والأزمنةِ من حيث ظهورُ العِلم وانتشارُه، أو دُروسُه وقِلَّةُ حملَتِه على الوَجهِ الصَّحيحِ. واللهُ تعالى أعلَمُ
[2507] ينظر: ((القول المفيد)) لابن عثيمين (1/ 173)، ((الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه)) لعبد الرزاق معاش (ص: 496). .