الفَرعُ الثَّاني: أنواعُ الشِّرْكِ في الرُّبوبيَّةِ
النَّوعُ الأوَّلُ: شِرْكُ التَّعطيلِ. وهو على أقسامٍ [161] يُنظر: ((الرد على الجهمية)) للدارمي (ص: 199)، ((الشفا)) لعياض (2/292)، ((روضة الطالبين)) للنووي (7/284)، ((الجواب الكافي)) (ص: 130)، ((مختصر الصواعق المرسلة)) (1/252)، كلاهما لابن القيم، ((الرد على القائلين بوحدة الوجود)) لعلي القاري (ص: 13، 154)، ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 26). :1- الإلحادُ.كقَولِ فِرعَونَ:
وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 23] . ومن ذلك تعطيلُ المُلحِدينَ والشُّيوعيِّينَ المُنكِرينَ لوُجودِ الرَّبِّ سُبحانَه.
2- تعطيلُ المَصنوعِ عن صانِعِه وخالقِه.كالقَولِ بقِدَمِ العالَمِ وأبدِيَّتِه، وأنَّه لم يكن معدومًا أصلًا.
3- تعطيلُ الصَّانِعِ سُبحانَه عن كمالِه وأفعالِه.كقَولِ مُنكِري إرسالِ الرُّسُلِ، ومُنكِري عِلمِ اللهِ السَّابِقِ وقَدَرِه، ومُنكري البَعثِ والنُّشورِ.
4- تعطيلُ مُعاملتِه عمَّا يجِبُ على العَبدِ مِن حقيقةِ التَّوحيدِ.كالقَولِ بوَحدةِ الوُجودِ.
النَّوعُ الثَّاني: شِرْكُ الأندادِ مِن غيرِ تعطيلٍ.ومِن ذلك:
1- شِرْكُ النَّصارى: الذين جعَلوا اللهَ ثالِثَ ثلاثةٍ، فجَعَلوا المسيحَ إلهًا، وأمَّه إلهًا
[162] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/157). .
2- شِرْكُ المَجوسِ: القائلينَ بإسنادِ حوادثِ الخَيرِ إلى النُّورِ، وحوادِثِ الشَّرِّ إلى الظُّلمةِ
[163] يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (2/37)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 316). .
3- شِرْكُ القَدَريَّةِ: القائلينَ بأنَّ الإنسانَ هو الذي يخلُقُ أفعالَ نَفْسِه، وأنَّها تحدُثُ بدونِ مَشيئةِ اللهِ وقُدْرَتِه؛ ولهذا كانوا أشباهَ المجوسِ
[164] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/317)، ((الفرق بين الفرق)) للبغدادي (ص: 94). .
4- شِرْكُ الذي حاجَّ إبراهيمَ في رَبِّه:
إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ [البقرة: 258] ؛ فقد جَعَل نَفْسَه نِدًّا لله تعالى، يحيى ويميتُ بزَعْمِه، كما يُحيى اللهُ ويُميتُ
[165] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (1/351). .
5- الشِّرْكُ بالكواكِبِ: وذلك بجَعْلِها مُدَبِّرةً لأمرِ العالمَ،ِ كما هو مَذهَبُ مُشرِكي الصَّابئةِ وغَيرِهم
[166] يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (2/107)، ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 26). .
قال عِياضٌ: (فَصلٌ في بيانِ ما هو من المقالاتِ كُفرٌ، وما يُتوقَّفُ أو يُختَلَفُ فيه، وما ليس بكُفرٍ: اعلَمْ أنَّ تحقيقَ هذا الفَصلِ وكَشْفَ اللَّبسِ فيه مَورِدُه الشَّرعُ، ولا مجالَ للعَقلِ فيه، والفَصلُ البَيِّنُ في هذا أنَّ كُلَّ مقالةٍ صَرَّحَت بنفي الرُّبوبيَّةِ أو الوَحْدانيَّةِ، أو عبادةِ أحَدٍ غَيرِ اللهِ أو مع اللهِ؛ فهي كُفرٌ، كمَقالةِ الدَّهْريَّةِ وسائِرِ فِرَقِ أصحابِ الاثنينِ
[167] هم الذين اتَّخَذوا إلهينِ اثنينِ؛ كالمانَويَّةِ القائلينَ بالنُّورِ والظُّلمةِ، والمرادُ هنا مُطلَقُ التعَدُّدِ. مِنَ الديصانيَّةِ والمانَويَّةِ وأشباهِهم مِنَ الصَّابئينَ والنَّصارى والمجوسِ، والذين أشركوا بعِبادةِ الأوثانِ، أو الملائكةِ، أو الشَّياطينِ، أو الشَّمسِ أو النُّجومِ، أو النَّارِ، أو أحَدٍ غَيرِ اللهِ مِن مُشرِكي العَرَبِ، وأهلِ الهِندِ والصِّينِ والسُّودانِ، وغَيرِهم ممَّن لا يَرجِعُ إلى كتابٍ، وكذلك القَرامِطةُ وأصحابُ الحُلولِ والتَّناسُخِ مِنَ الباطِنيَّةِ، والطَّيَّارةِ
[168] هم قَومٌ مِن غُلاةِ الشِّيعةِ ينتَسِبونَ إلى جَعفرٍ الطَّيَّارِ. مِن الرَّوافِضِ، وكذلك من اعتَرَف بإلاهيَّةِ اللهِ ووَحدانيَّتِه ولكِنَّه اعتَقَد أنَّه غيرُ حَيٍّ أو غيرِ قديمٍ، وأنَّه مُحدَثٌ أو مُصَوَّرٌ، أو ادَّعى له ولَدًا أو صاحِبةً أو والِدًا، أو مُتوَلِّدٌ مِن شَيءٍ أو كائِنٌ عنه، أو أنَّ معه في الأزَلِ شيئًا قديمًا غيرَه، أو أنَّ ثَمَّ صانِعًا للعالَمِ سِواه، أو مُدَبِّرًا غَيرَه؛ فذلك كُلُّه كُفرٌ بإجماعِ المسلِمينَ)
[169] يُنظر: ((الشفا)) (2/282). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (تلاعُبُ
الشَّيطانِ بالمُشركِين في عبادةِ الأصنامِ له أسبابٌ عديدةٌ، تلاعَبَ بكُلِّ قَومٍ على قَدْرِ عُقولِهم: فطائِفةٌ دعاهم إلى عبادتِها مِن جِهةِ تعظيمِ الموتى، الذين صوَّرُوا تلك الأصنامَ على صُوَرِهم، كما تقَدَّمَ عن قَومِ نوحٍ عليه السَّلامُ؛ ولهذا لعن النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المتَّخِذينَ على القُبورِ المساجدَ والسُّرُجَ، ونهى عن الصَّلاةِ إلى القُبورِ، وسأل رَبَّه سُبحانَه ألَّا يجعَلَ قَبْرَه وَثَنًا يُعبَدُ، ونهى أمَّتَه أن يتَّخِذوا قَبْرَه عِيدًا، ... وأمَرَ بتسويةِ القُبورِ، وطَمْسِ التماثيلِ، فأبى المشرِكون إلَّا خِلافَه في ذلك كُلِّه؛ إمَّا جَهلًا، وإمَّا عِنادًا لأهلِ التَّوحيدِ، ولم يَضُرَّهم ذلك شيئًا، وهذا السَّبَبُ هو الغالبُ على عوامِّ المُشرِكين.
وأمَّا خواصُّهم: فإنَّهم اتَّخَذوها بزَعْمِهم على صُوَرِ الكواكِبِ المؤثِّرةِ في العالَمِ عِندَهم، وجَعَلوا لها بيوتًا، وسَدَنَةً، وحُجَّابًا، وحَجًّا، وقُرْبانًا، ولم تَزَلْ هذه في الدُّنيا قديمًا وحديثًا.
فمنها: بيتٌ على رأسِ جَبَلٍ بأصبَهانَ، كان به أصنامٌ أخرَجَها بعضُ مُلوكِ المجوسِ، وجَعَله بيتَ نارٍ.
ومنها: بيتٌ ثانٍ وثالثٌ ورابعٌ بصَنعاءَ، بناه بعضُ المُشرِكينَ على اسمِ الزهرةِ، فخرَّبه عُثمانُ بنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه.
ومنها: بيتٌ بناه قابوسُ المَلِك على اسمِ الشَّمس ِبمدينةِ فَرْغَانَة، فخرَّبَهُ المعتَصِمُ.
وأشَدُّ الأُمَمِ في هذا النَّوعِ مِنَ الشِّرْكِ: الهِندُ.
قال يحيى بنُ بِشْرٍ: إنَّ شَريعةَ الهِندِ وَضَعَها لهم رجلٌ يقالُ له: بَرَهْمَنْ، ووضعَ لهم أصنامًا، وجَعَل أعظَمَ بُيوتِها بيتًا بمدينةٍ مِن مدائِنِ السِّنْدِ، وجَعَل فيه صَنَمَهم الأعظَمَ، وزَعم أنَّه بصورةِ الهَيُولَى الأكبَرِ، وفُتِحَت هذه المدينةُ في أيَّامِ
الحجَّاجِ، واسمُها المُلْتان... وأصلُ هذا المذهَبِ مِن مُشرِكي الصَّابِئةِ، وهم قومُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، الذين ناظرَهم في بُطلانِ الشِّركِ، وكَسَّر حُجَّتَهم بعِلْمِه، وآلِهَتَهم بيَدِه؛ فطَلَبوا تحريقَه. وهو مَذهَبٌ قديمٌ في العالَمِ، وأهلُه طوائِفُ شتَّى.
فمنهم عُبَّادُ الشَّمسِ، زَعَموا أنَّها مَلَكٌ مِن الملائكةِ، لها نفسٌ وعَقلٌ، وهى أصلُ نورِ القَمَرِ والكواكِبِ، وتكوُّنُ الموجوداتِ السُّفليَّةِ كُلِّها عندهم منها، وهي عندَهم مَلِكُ الفَلَكِ؛ فيَستحِقُّ التَّعظيمَ والسُّجودَ والدُّعاءَ!
ومن شريعتِهم في عِبادتِها: أنَّهم اتَّخَذوا لها صنَمًا، بيَدِه جَوْهَرٌ على لونِ النَّارِ، وله بيتٌ خاصٌّ قد بَنَوه باسمِه، وجَعَلوا له الوُقوفَ الكثيرةَ مِن القُرَى والضِّياعِ، وله سَدَنةٌ وقُوَّامٌ وحَجَبةٌ، يأتونَ البَيتَ ويُصَلُّون فيه لها ثلاثَ كَرَّاتٍ في اليومِ، ويأتيه أصحابُ العاهاتِ، فيصومون لذلك الصَّنَمِ ويُصَلُّون، ويَدْعُونه ويَسْتَسقُون به، وهم إذا طلَعَت الشَّمسُ سَجَدوا كُلُّهم لها، وإذا غَرَبت، وإذا توسَّطَت الفَلَكَ؛ ولهذا يقارِنُها
الشَّيطانُ في هذه الأوقاتِ الثَّلاثةِ؛ لِتقَعَ عبادتُهم وسُجودُهم له؛ ولهذا نهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن تحَرِّي الصَّلاةِ في هذه الأوقاتِ؛ قطعًا لمشابهةِ الكُفَّارِ ظاهرًا، وسَدًّا لذريعةِ الشِّرْكِ وعِبادةِ الأصنامِ.
وطائفةٌ أُخرى: اتَّخَذَت للقَمَرِ صَنَمًا، وزَعَموا أنَّه يَستحِقُّ التعظيمَ والعِبادةَ، وإليه تدبيرُ هذا العالَمِ السُّفليِّ.
ومِن شريعةِ عُبَّادِه: أنَّهم اتَّخَذوا له صنمًا على شِكلِ عِجْلٍ، ويجرُّه أربعةٌ، وبيَدِ الصَّنَمِ جوهرةٌ، ويَعبُدونَه، ويَسجُدون له، ويصومونَ له أيامًا معلومةً مِن كُلِّ شَهرٍ، ثمَّ يأتون إليه بالطَّعامِ والشَّرابِ، والفَرَحِ والسُّرورِ، فإذا فرَغوا من الأكلِ أخَذوا في الرَّقصِ والغِناءِ وأصواتِ المعازِفِ بيْن يَدَيه.
ومنهم مَن يَعبُدُ أصنامًا اتَّخَذوها على صورةِ الكواكِبِ ورُوحانيَّتِها بزَعْمِهم، وبَنَوا لها هياكِلَ ومتعبَّداتٍ، لكُلِّ كوكبٍ منها هيكَلٌ يخصُّه، وصَنَمٌ يخصُّه، وعبادةٌ تخصُّه. ومتى أردتَ الوقوفَ على هذا فانظُرْ في كتابِ "السِّرُّ المكتوم في مخاطبة النُّجوم" المنسوبِ إلى ابنِ خَطيبِ الرَّيِّ؛ تَعرِفْ سرَّ عبادةِ الأصنامِ، وكيفيَّةَ تلك العِبادةِ وشَرائِطَها.
وكُلُّ هؤلاء مَرجِعُهم إلى عبادةِ الأصنامِ؛ فإنَّهم لا تستمِرُّ لهم طريقةٌ إلَّا بشَخصٍ خاصٍّ على شَكلٍ خاصٍّ، ينظُرون إليه، ويَعكُفون عليه! ومن هاهنا اتَّخذ أصحاُب الرُّوحانيَّاتِ والكواكبِ أصنامًا زَعَموا أنَّها على صُوَرِها. فوَضْعُ الصَّنَمِ إنَّما كان في الأصلِ على شَكلِ مَعبودٍ غائبٍ، فجَعَلوا الصَّنَمَ على شَكْلِه وهَيئَتِه وصُورتِه؛ ليكونَ نائبًا مَنابَه، وقائمًا مَقامَه، وإلَّا فمن المعلومِ أنَّ عاقلًا لا يَنحِتُ خَشَبةً أو حَجَرًا بيَدِه، ثمَّ يعتَقِدُ أنَّه إلهُه ومعبودُه.
ومِن أسبابِ عِبادتِه أيضًا: أنَّ الشَّياطينَ تدخُلُ فيها، وتخاطِبُهم منها، وتخبِرُهم ببَعضِ المغيَّباتِ، وتَدُلهُّم على بعضِ ما يخفى عليهم، وهم لا يشاهِدونَ الشَّياطينَ. فجَهَلتُهم وسَقطُهم يظنُّون أنَّ الصَّنَمَ نَفْسَه هو المتكَلِّمُ المخاطِبُ، وعُقَلاؤُهم يقولون: إنَّ تلك رُوحانيَّاتُ الأصنامِ، وبعضُهم يقولُ: إنَّها ملائكةٌ، وبعضُهم يقولُ: إنَّها العقولُ المجرَّدةُ، وبعضُهم يقولُ: هي رُوحانيَّاتُ الأجرامِ العُلويَّةِ، وكثيرٌ منهم لا يسألُ عمَّا عَهِدَ، بل إذا سَمِعَ الخِطابَ مِنَ الصَّنَمِ، اتَّخَذه إلهًا، ولا يسألُ عمَّا وراء ذلك! وبالجُملةِ فأكثَرُ أهلِ الأرضِ مَفتونون بعبادةِ الأصنامِ والأوثانِ، ولم يتخلَّصْ منها إلَّا الحُنفاءُ أتباعُ مِلَّةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ)
[170] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) (2/972). .