الفصلُ الثَّالِثُ: من أهمِّ الأسبابِ الدَّاعيةِ إلى الاجتِماعِ ونَبِذِ التفَرُّقِ والاختِلافِ: القيامُ بالأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ
قال اللهُ تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَليْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 103 - 105] .
من المُلاحَظِ في سياقِ هذه الآياتِ الثَّلاثِ أنَّ اللهَ تعالى أمرَ في الآيةِ الأُولَى بالاعتِصامِ بحَبلِه جَميعًا ونَهى عنِ التفَرُّقِ. ثُمَّ نَهى في الآيةِ الثَّالِثةِ عن مُشابَهةِ الَّذينَ تَفَرَّقوا واختَلَفوا، وهذا أيضًا فيه نَهيٌ عنِ التفَرُّقِ. وما بينَ هاتين الآيَتين -الأولَى والثَّالِثةِ- ورَدَتِ الآيةُ الثَّانيةُ، وفيها الأمرُ الصَّريحُ بالأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ؛ مِمَّا يُشيرُ إلى أهمِّيَّةِ هذه الفَريضةِ ودَورِها العَظيمِ في حُصولِ الاجتِماعِ المَأمورِ به وتَركِ التفَرُّقِ المَنهيِّ عنه.
قال
ابنُ كَثيرٍ: (قال تعالى:
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] يَنهى هذه الأمَّةَ أن تَكونَ كالأُمَمِ الماضيةِ في تَفَرُّقِهم واختِلافِهم، وتَرْكِهمُ الأمرَ بالمَعروفِ والنَّهيَ عنِ المُنكَرِ مَعَ قيامِ الحُجَّةِ عليهم)
[1000] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/91). .
وقال
ابنُ عاشور: (قَولُه:
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا مَعطوفٌ على قَولِه:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ وهو يَرجِعُ إلى قَولِه قَبلُ:
وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103] لِما فيه من تَمثيلِ حالِ التفَرُّقِ في أبشَعِ صوَرِه المَعروفةِ لَديهم من مُطالَعةِ أحوالِ اليَهودِ. وفيه إشارةٌ إلى أنَّ تَرْكَ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ يُفضي إلى التفَرُّقِ والاختِلافِ؛ إذ تَكثُرُ النَّزَعاتُ والنَّزَغاتُ، وتَنشَقُّ الأمَّةُ بذلك انشِقاقًا شَديدًا)
[1001] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/42). .
وقال
ابنُ عُثيمين: (قال اللَّهُ تعالى:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 104، 105]؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ تَركَ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ موجِبٌ للِاختِلافِ، وهذا ظاهِرٌ لأنَّنا إذا جَعَلْنا كُلَّ واحِدٍ يَعمَلُ كما شاءَ تَفَرَّقَتِ الأمَّةُ.
فإذا التَزَمَتِ الأمَّةُ جَميعًا على العَمَلِ بدينِ اللَّهِ ائتَلَفَت واتَّفَقَت، وهذا هو السِّرُّ في قَولِه تعالى:
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] بعد قَولِه:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ)
[1002] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) (ص: 693). .
وقال أيضًا: (يَرَى أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّ المُجتَمَعَ الإسلاميَّ لا يَكمُلُ صَلاحُهُ إلَّا إذا تَمَشَّى مَعَ ما شَرعَه اللَّهُ سُبحانَهُ وتعالى لَهُ؛ ولِهذا يَرَونَ الأمرَ بالمَعروفِ والنَّهيَ عنِ المُنكَرِ، والمَعروفُ: كُلُّ ما عَرَفَهُ الشَّرعُ وأقَرَّه، والمُنكَرُ: كُلُّ ما أنكَرَه الشَّرعُ وحَرَّمَه، فهم يَرَونَ أنَّ المُجتَمَعَ الإسلاميَّ لا يَصلُحُ إلَّا بالأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ؛ لأنَّنا لَو فقَدْنا هذا المُقَوِّمَ لحَصلَ التفَرُّقُ، وهذا المُقَوِّمُ ولِلأسَفِ في هذا الوَقتِ ضاعَ أو كادَ؛ لأنَّكَ لا تَجِدُ شَخصًا يَأمُرُ بالمَعروفِ وينهى عنِ المُنكَرِ حَتَّى في المُحيطِ القَليلِ المَحصورِ إلَّا ما نَدَر.
وإذا تُرِكَ النَّاسُ هكَذا؛ كُلُّ إنسانٍ يَعمَلُ ما يُريدُ تَفَرَّقَ النَّاسُ، ولَكِن إذا تَآمَروا بالمَعروفِ وتَناهَوا عنِ المُنكَرِ صاروا أمَّةً واحِدةً.
ولَكِن لا يَلزَمُ إذا رَأيتَ أمرًا مَعروفًا أن يَكونَ مَعروفًا عِندَ غيرِكَ، إلَّا في شيءٍ لا مَجالَ للِاجتِهادِ فيه، إنَّما ما للِاجتِهادِ فيه مَجالٌ؛ فقد أرَى أنَّ هذا من المَعروفِ ويَرَى الآخَرُ أنَّه ليسَ منه. وحينَئِذٍ يَكونُ المَرجِعُ في ذلك كِتابَ اللهِ وسُنَّةَ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[1003] يُنظر: ((منهاج أهل السنة والجماعة في العقيدة والعمل)) (ص: 41). .
وقد جَرَى عَدَدٌ من أهلِ السُّنَّة في كُتُبِ الاعتِقادِ الَّتي صَنَّفوها على تَضمينِ وُجوبِ الأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ ورَبطِه بالإيمانِ باللهِ تعالى، وأنَّه من صِفاتِ المُؤمنينَ أهلِ السُّنَّةِ المُؤْثِرينَ للجَماعةِ النَّابِذين للفُرقةِ.
1- قال ابنُ أبي عاصِمٍ: (مِمَّا قد يُنسَبُ إلى السُّنَّة، وذلك عِندي إيمانٌ نَحوُ عَذابِ القَبرِ، ومُنكَرٍ ونَكيرٍ، والشَّفاعةِ والحَوضِ والميزانِ وحُبِّ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَعرِفةِ فَضائِلِهم، وتَركِ سَبِّهم والطَّعنِ عليهم، ووِلايَتِهم والصَّلاةِ على من مات من أهلِ التوحيدِ، والترحُّمِ على من أصابَ ذَنْبًا، والرَّجاءِ للمُذْنِبينَ، وتَركِ الوَعيدِ ورَدِّ العِبادِ إلى مَشيئةِ اللهِ، والخُروجِ من النَّارِ، يُخرِجُ اللَّهُ من يَشاءُ منها برَحمَتِه، والصَّلاةِ خَلفَ كُلِّ أميرٍ جائِرٍ، والصَّلاةِ في جَماعةٍ، والغَزوِ مَعَ كُلِّ أميرٍ، والأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ والتعاوُنِ)
[1004] يُنظر: ((السنة)) (2/646). .
2- قال الإسماعيليُّ مُبيِّنًا اعتِقادَ وطَريقَ أئِمةِ أهلِ الحَديثِ: (... مَعَ لُزومِ الجَماعةِ، والتعَفُّفِ في المَأكَلِ والمَشْرَبِ والمَلبَسِ، والسَّعيِ في عَمَلِ الخيرِ، والأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ، والإعراضِ عنِ الجاهِلينَ حَتَّى يُعَلِّموهم ويُبيِّنوا لَهمُ الحَقَّ، ثُمَّ الإنكارِ والعُقوبةِ من بَعدِ البيانِ وإقامةِ العُذرِ بينَهم ومنهم.
هذا أصلُ الدِّينِ والمَذهَبِ، اعتِقادُ أئِمةِ أهلِ الحَديثِ)
[1005] يُنظر: ((اعتقاد أئمة الحديث)) (ص: 79). .
3- قال
الأصبَهانيُّ: (الأمرُ بالمَعروفِ، والنَّهيُ عنِ المُنكَرِ رُكنانِ وثيقانِ من أركانِ الدِّينِ يَجِبُ على المَرءِ ألَّا يُهمِلَهما)
[1006] يُنظر: ((الحجة في بيان المحجة)) (2/547). .
4- قال
ابنُ العَرَبيِّ: (الأمرُ بالمَعروفِ والنَّهيُ عنِ المُنكَرِ فرضُ العالَمينَ وخِلافةُ المُرْسَلين ومَصلَحةُ الخَلقِ أجمَعينَ وآكَدُ فُروضِ الدِّينِ، فإذا تُرِكَ عُوجِل النَّاسُ بالعُقوبةِ)
[1007] يُنظر: ((القبس في شرح موطأ مالك بن أنس)) (ص: 1174). .
5- بوَّبَ النَّوَويُّ في شَرحِ مُسلِمٍ: (بابُ بيانِ كونِ النَّهيِ عنِ المُنكَرِ من الإيمانِ، وأنَّ الإيمانَ يَزيدُ ويَنقُصُ، وأنَّ الأمرَ بالمَعروفِ والنَّهيَ عنِ المُنكَرِ واجِبانِ)
[1008] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/21). .
6- قال
ابنُ تيمِيَّةَ عن أهلِ السُّنَّة والجَماعةِ: (هم مَعَ هذه الأصولِ: يَأمُرونَ بالمَعروفِ، ويَنهونَ عنِ المُنكَرِ، على ما توجِبُه الشَّريعةُ)
[1009] يُنظر: ((العقيدة الواسطية)) (ص: 129). .
قال
ابنُ عُثيمين شارِحًا: («مَعَ هذه الأصولِ»: السَّابِقةِ الَّتي ذَكَرَها قَبلَ هذا، وهو اتِّباعُ آثارِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، واتِّباعُ الخُلفاءِ الرَّاشِدينَ، وإيثارُهم كلامَ اللهِ وكَلامَ رَسولِه على غيرِه، واتِّباعُ إجْماعِ المُسلِمينَ؛ مَعَ هذه الأصولِ... يَأمُرونَ بالمَعروفِ، ويَنهونَ عنِ المُنكَرِ، ولا يَتَأخَّرونَ عن ذلك، ولَكِن يُشتَرَطُ للأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ أن يَكونا على ما توجِبُه الشَّريعةُ وتَقتَضيه)
[1010] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (2/329). .