المبحثُ الرَّابِعُ: من شُروطِ انعِقادِ الإمامةِ: الحُرِّيَّةُ
فالمَملوكُ لا يَحِقُّ لَهُ التصَرُّفُ في شَيءٍ إلَّا بإذْنِ سَيِّدِه، فلا وِلايةَ لَهُ على نَفسِه، فكَيفَ تَكونُ لَهُ الوِلايةُ على غَيرِه؟!
قال
الغَزاليُّ: (لا تَنعَقِدُ الإمامةُ لرَقيقٍ؛ فإنَّ مَنصِبَ الإمامةِ يَستَدعي استِغراقَ الأوقاتِ في مُهمَّاتِ الخَلقِ، فكَيفَ يُنتَدَبُ لَها من هو كالمَفقودِ في حَقِّ نَفسِه المَوجودِ لمالِكٍ يَتَصَرَّفُ تَحتَ تَدبيرِه وتَسخيرِه؟! كيفَ وفي اشتِراطِ نَسَبِ قُرَيشٍ ما يَتَضَمَّنُ هذا الشَّرطَ؛ إذ لَيسَ يُتَصَوَّرَ الرِّقُّ في نَسَبِ قُرَيشٍ بحالٍ من الأحوالِ؟!)
[1290] يُنظر: ((فضائح الباطنية)) (ص: 180). .
قال المهَلَّبُ: (أجمَعَتِ الأمَّةُ على أنَّه لا يَجوزُ أن تَكونَ الإمامةُ في العَبيدِ)
[1291] يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (8/215). .
وقال
الشِّنقيطيُّ: (من شُروطِ الإمامِ الأعظَمِ كونُه حُرًّا، فلا يَجوزُ أن يَكونَ عَبدًا، ولا خِلافَ في هذا بَينَ العُلماءِ)
[1292] يُنظر: ((أضواء البيان)) (1/27). .
فإنْ قيلَ: قد ورَدَ في الحَديثِ الصَّحيحِ ما يَدُلُّ على إمامةِ العَبدِ؛ فعن
أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((اسمَعوا وأطيعوا وإنِ استُعمِلَ عليكم عَبدٌ حَبشيٌّ كأنَّ رَأسَهُ زَبيبةٌ )) [1293] رواه البخاري (7142). .
فالجوابُ على ذلك من أوجُهٍ [1294] يُنظر هذه الأوجه في: ((فتح الباري)) لابن حجر (13/122)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/27). :الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّه قد يُضرَبُ المَثَلُ بما لا يَقَعُ في الوُجودِ عادةً، فإطلاقُ العَبدِ الحَبشيِّ لأجلِ المُبالَغةِ في الأمرِ بالطَّاعةِ، وإن كان لا يُتَصَوَّرُ شَرعًا أن يَليَ ذلك.
قال
الخطَّابيُّ: (قَولُه: وإنْ عَبدًا حَبشيًّا، يُريدُ به طاعةَ من ولاهُ الإمامُ عليكم وإن كان عَبدًا حَبشيًّا، وقد ثَبَتَ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: الأئِمةُ من قُرَيشٍ
[1295] أخرجه أحمد (12900)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (5942) مطولًا من حديث أنس رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه العراقي في ((محجة القرب)) (189)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (2758)، والوادعي في ((أحاديث معلة)) (40)، وصحَّحه بطرقه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12900)، وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/474). ، وقد يُضرَبُ المَثَلُ في الشَّيءِ بما لا يَكادُ يَصِحُّ منه الوُجودُ، كقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "من بنى للهِ مَسْجِدًا ولَو مِثلَ مَفْحَصِ قَطاةٍ
[1296] قال المناوي: (حمله الأكثر على المبالغة لأنَّ مفحَصَها بقَدرِ ما تحفِرُه (لبيضها) وترقد عليه، وقَدْرُه لا يكفي للصَّلاةِ فيه) ((فيض القدير)) (6/96). بنى اللهُ له بيتًا في الجنَّةِ"
[1297] أخرجه ابن ماجه (738)، وابن خزيمة (1292)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (1557) من حديث جابر بن عبدالله رَضِيَ اللهُ عنهما. ولفظ ابن ماجه: ((من بنى مسجدًا لله كمَفحَصِ قَطاةٍ أو أصغَرَ بنى الله له بيتًا في الجنة)). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (738)، والوادعي في في ((الصَّحيح المسند)) (234)، وصحَّح إسنادَه النووي في ((الخلاصة)) (1/303)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (1/206)، والبوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (1/160)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (1557). ، وقَدْرُ مَفْحَصِ قَطاةٍ لا يَكونُ مَسجِدًا لشَخصٍ آدَميٍّ، وكَقَولِه: لَو سَرَقَت
فاطِمةُ لقَطعْتُها
[1298] لفظ الحديث: عن عائشة رَضِيَ اللهُ عنه قالت: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أيُّها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريفُ تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، وأيمُ اللهِ لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمدٍ سَرَقَت لقطعتُ يَدَها)). أخرجه البخاري (3733)، ومسلم (1688) واللَّفظُ له. وفي لفظ: عن جابر رَضِيَ اللهُ عنه (أنَّ امرأةً من بني مخزومٍ سرَقَت، فأتيَ بها النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فعاذت بأمِّ سلمةَ زَوجِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: واللهِ لو كانت فاطمةَ لقطَعْتُ يَدَها، فقُطِعَت). أخرجه مسلم (1689). وهيَ رِضوانُ اللهِ عليها وسَلامُه لا يُتَوَهَّمُ عليها السَّرِقةُ، وقال: لَعَنَ اللهُ السَّارِقَ يَسرِقُ البَيضةَ فتُقطَعُ يَدُه
[1299] أخرجه البخاري (6783)، ومسلم (1687) مطولًا من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عنه. ونظائِرُ هذا في الكلام ِكثيرٌ)
[1300] يُنظر: ((معالم السنن)) (4/300). .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ المُرادَ باستِعمالِ العَبدِ الحَبشيِّ أن يَكونَ مَأمورًا من جِهةِ الإمامِ الأعظَمِ على بَعضِ البِلادِ.
قال
ابنُ حَجَرٍ: (قيلَ: المُرادُ أنَّ الإمامَ الأعظَمَ إذا استَعمَلَ العَبدَ الحَبشيَّ على إمارةِ بَلَدٍ مَثَلًا وجَبَت طاعَتُه، ولَيسَ فيه أنَّ العَبدَ الحَبشيَّ يَكونُ هو الإمامَ الأعظَمَ)
[1301] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/122). .
وقال
الشِّنقيطي عن هذا الوَجهِ: (هو أظهَرُها)
[1302] يُنظر: ((أضواء البيان)) (1/27). .
الوَجهُ الثَّالِثُ: أن يَكونَ إطلاقُ اسمِ العَبدِ عليه لاتِّصافِه بذلك سابِقًا مَعَ أنَّه وقتَ التَّوليةِ حُرٌّ.
قال
الشِّنقيطيُّ: (نَظيرُه إطلاقُ اليُتمِ على البالِغِ باعتِبارِ اتِّصافِه به سابِقًا في قَولِه تعالى:
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ الآية)
[1303] يُنظر: ((أضواء البيان)) (1/27). .
الوَجهُ الرَّابِعُ: أنَّ المُرادَ بذلك المُتَغَلِّبُ لا المُختارُ، ففي هذه الحالةِ تَجِبُ طاعَتُه وإن كان عَبدًا حَبشيًّا، ولا يَجوزُ الخُروجُ عليه لمُجَرَّدِ عُبوديَّتِه، ويُؤَيِّدُ هذا الرَّأيَ لَفظُ:
((إن تَأمَّرَ عليكم...)) فلَفظَ
((تَأمَّر)) يَدُلُّ على أنَّه تَسَلَّطَ على الإمارةِ بنَفسِه، ولم يُؤمَّرْ من قِبَلِ أهلِ الحَلِّ والعَقدِ.
قال
ابنُ حَجَرٍ: (لَو تَغلَّبَ عَبدٌ حَقيقةً بطَريقِ الشَّوكةِ فإنَّ طاعَتَهُ تَجِبُ إخمادًا للفِتنةِ ما لم يَأمُرْ بمَعصيةٍ)
[1304] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/122). .