المطلبُ الأوَّلُ: فَضْلُ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه
قَد جاءَت في شَأنِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه آياتٌ وأحاديثُ مُنَوِّهةٌ بفَضلِه. ومِمَّا جاءَ في ذلك مِنَ القُرآنِ الكَريمِ:1- قَولُ اللهِ تعالى
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40] .
قال ابنُ عَطِيَّةَ: (هَذِه الآيةُ مُنَوِّهةٌ ب
أبي بَكرٍ حاكِمةٌ بقَدَمِه وسابِقَتِه في الإسلامِ رَضِيَ اللهُ عنه)
[1630] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/ 36). .
2- قال اللهُ سُبحانَه:
وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17 – 21].
قال
ابنُ الجوزيِّ: (قَولُهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَسَيُجَنَّبُهَا، أي: يُبعَدُ عنها، فيُجعَلُ مِنها عَلى جانِبٍ،
الْأَتْقَى يَعني:
أبا بَكرٍ الصِّدِّيقَ، في قَولِ جَميعِ المُفَسِّرينَ،
الَّذِي يُؤتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى أي: يَطلُبُ أن يَكونُ عِندَ اللهِ زاكيًا، ولا يَطلُبُ الرِّياءَ ولا السُّمعةَ،
وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى أي: لم يَفعَلْ ذلك مُجازاةً ليَدٍ أُسْدِيَت إليه)
[1631] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/ 455). .
3- وقال تعالى:
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور: 22].
قال
الرَّازي: (أجمَعَ المُفَسِّرونَ عَلى أنَّ المُرادَ مِن قَولِه:
أُولُو الفَضْلِ أبو بَكْرٍ، وهَذِه الآيةُ تَدُلُّ عَلى أنَّه رَضِيَ اللهُ عنه كانَ أفضَلَ النَّاسِ بَعدَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... قال لِمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [المائِدة: 13] وقال في حَقِّ
أبي بَكْرٍ:
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا فمِن هَذا الوَجهِ يَدُلُّ عَلى أنَّ
أبا بَكْرٍ كانَ ثانيَ اثنينِ لِرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جَميعِ الأخلاقِ حَتَّى في العَفوِ والصَّفحِ... قَولُه:
أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ فإنَّهُ سُبحانَه ذَكرَهُ بكِنايةِ الجَمعِ عَلى سَبيلِ التَّعظيمِ، وأيضًا فإنَّهُ سُبحانَه عَلَّقَ غُفرانَه لهُ عَلى إقدامِه عَلى العَفْوِ والصَّفحِ، فلَمَّا حَصَلَ الشَّرطُ مِنهُ وجَبَ تَرتيبُ الجُزاءِ عليه، ثُمَّ قَولُه:
يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ بصيغةِ المُستَقبَلِ وأنَّه غَيرُ مُقَيَّدٍ بشَيءٍ دونَ شَيءٍ؛ فدَلَّتِ الآيةُ عَلى أنَّه سُبحانَه قَد غَفَرَ لهُ في مُستَقبَلِ عُمرِه عَلى الإطلاقِ، فكانَ من هَذا الوَجهِ ثانيَ اثنينِ لِلرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَولِه:
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)
[1632] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/ 349 - 351). .
ومِمَّا جاءَ في السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ من فَضائِلِه رَضِيَ اللهُ عنه:1- عن
أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه عن
أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((قُلتُ لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا في الغارِ: لو أنَّ أحَدَهم نَظَرَ تَحتَ قَدَمَيه لأبصَرَنا، فقال: ما ظَنُّكَ يا أبا بَكْرٍ باثنينِ اللهُ ثالِثُهما؟ )) [1633] رواه البخاري (3653) واللَّفظُ له، ومسلم (2381). .
قال
العَينيُّ: (فيه مَنقَبةُ
أبي بَكرٍ... قَولُه:
((مَا ظَنُّكَ باثنينِ اللهُ ثالِثُهما؟)) أرادَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالِاثنينِ نَفسَه و
أبا بَكرٍ)
[1634] يُنظر: ((عمدة القاري)) (16/ 174). .
2- عنِ
ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما قال:
((كُنَّا نُخيِّرُ بَينَ النَّاسِ في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فنُخَيِّرُ أبا بَكْرٍ، ثُمَّ عُمرَ بْنَ الخَطَّابِ، ثُمَّ عُثمانَ بنَ عَفَّانَ، رَضِيَ اللهُ عنهم)) [1635] رواه البخاري (3655). .
وفي لفظٍ قال:
((كُنَّا في زَمَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا نَعْدِلُ بأبي بَكْرٍ أحَدًا، ثُمَّ عُمرَ، ثُمَّ عُثمانَ، ثُمَّ نَترُكُ أصحابَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا نُفاضِلُ بَينَهم)) [1636] رواه البخاري (3697). .
قال
القَسْطَلَّانيُّ: (الأفضَلُ بَعدَ الأنبياءِ
أبو بَكْرٍ، وقَد أطبَقَ السَّلَفُ عَلى أنَّه أفضَلُ الأمَّةِ. حَكى
الشَّافِعيُّ وغَيرُهُ إجماعَ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ عَلى ذلك)
[1637])) يُنظر: ((إرشاد الساري)) (6/ 85). .
3- عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((بَينَما رَجُلٌ يَسوقُ بَقرةً لهُ قَد حَمَلَ عليها التفَتَتْ إلَيه البَقَرةُ فقالت: إنِّي لم أُخلَقْ لِهَذا، ولَكِنِّي إنَّما خُلِقْتُ لِلحَرثِ! فقال النَّاسُ: سُبْحانَ اللهِ! تَعجُّبًا وفَزَعًا، أبقَرةٌ تَكلَّمُ؟ فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فإنِّي أؤمِنُ به وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ )) [1638] رواه مطولًا البخاري (3663)، ومسلم (2388) واللَّفظُ له. .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((بَيْنا راعٍ في غَنَمِه عَدَا عليها الذِّئبُ فأخَذَ مِنهُ شاةً، فطَلَبَهُ الرَّاعي حَتَّى استَنقَذَها مِنهُ ، فالتَفَتَ إلَيه الذِّئبُ، فقال له: منَ لها يَومَ السَّبُعِ، يَومَ ليسَ لها راعٍ غَيري؟! فقال النَّاسُ: سُبْحانَ اللَّهِ! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فإنِّي أؤمِنُ بذلك أنا وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ)) [1639] رواه مطولًا البخاري (3663)، ومسلم (2388) واللَّفظُ له. .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (يَحتَمِلُ أن يَكونُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال ذلك لِمَا اطَّلَعَ عليه من غَلَبةِ صِدْقِ إيمانِهِما وقوَّةِ يَقينِهما، وهَذا ألْيَقُ بدُخولِه في مَناقِبِهِما)
[1640] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/ 27). .
4- عن عَمَّارِ بنِ ياسِرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال:
((رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وما مَعَهُ إلَّا خَمسةُ أعبُدٍ وامرَأتانِ، وأبو بَكرٍ )) [1641] رواه البخاري (3660). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (في هَذا الحَديثِ أنَّ
أبا بَكْرٍ أوَّلُ من أسلَمَ مِنَ الأحرارِ مُطلَقًا، ولَكِن مُرادُ عَمَّارٍ بذلك مِمَّن أظهَرَ إسلامَهُ، وإلَّا فقَد كانَ حينَئِذٍ جَماعةٌ مِمَّن أسلَمَ لكِنَّهم كانوا يُخفُونَهُ من أقارِبِهِم)
[1642] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/ 24). .
5- عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((كُنتُ جالِسًا عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ أقبَلَ أبو بَكْرٍ آخِذًا بطَرَفِ ثَوبِه حَتَّى أبدى عن رُكبَتِه! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أمَّا صاحِبُكم فقد غامَرَ [1643] قال ابن حجر: (الغامر: الذي يرمي بنفسِه في الأمرِ العظيمِ كالحربِ وغيرها) ((فتح الباري)) (7/ 25). . فسلَّم وقال: إنِّي كانَ بَيني وبَينَ ابنِ الخَطَّابِ شَيءٌ فأسرَعْتُ إلَيه ثُمَّ نَدِمتُ، فسألْتُهُ أن يَغفِرَ لي فأبى عَليَّ، فأقبَلْتُ إلَيكَ. فقال: يَغفِرُ اللهُ لكَ يا أبا بَكرٍ «ثَلاثًا»، ثُمَّ إنَّ عُمرَ نَدِمَ فأتى مَنزِلَ أبي بَكْرٍ فسألَ: أثمَّ أبو بَكْرٍ؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَلَّمَ عليه فجَعلَ وَجْهُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَمَعَّرُ حَتَّى أشفَقَ أبو بَكْرٍ فجثَا عَلى رُكبَتيه، فقال: يا رَسولَ اللهِ، واللَّهِ أنا كُنتُ أظلَمَ. مَرَّتينِ. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ اللهَ بَعَثني إلَيكم، فقُلتُم: كذَبْتَ، وقال أبو بَكْرٍ: صَدَقَ، وواساني بنَفسِه ومالِه، فهَل أنتُم تارِكو لي صاحِبي؟ مَرَّتينِ. فما أوذِيَ بَعدَها [1644] رواه البخاري (3661). وفي رِوايةٍ، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هَل أنتُم تارِكو لي صاحِبي، هَل أنتُم تارِكو لي صاحِبي؟ إنِّي قُلتُ: يا أيُّها النَّاسُ إنِّي رَسولُ اللهُ إلَيكم جَميعًا، فقُلتُم: كذَبْتَ، وقال أبو بَكْرٍ: صَدَقْتَ )) [1645] رواه البخاري (4640) مطولًا. .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: «فما أوذِيَ بَعدَها» أي: لِما أظهَرَهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهم من تَعظيمِه... وفي الحَديثِ مِنَ الفَوائِدِ فضلُ
أبي بَكْرٍ عَلى جَميعِ الصَّحابةِ، وأنَّ الفاضِلَ لا يَنبَغي لهُ أن يُغاضِبَ من هو أفضَلُ مِنه)
[1646] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/ 26). .
6- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((من أنفَقَ زَوجينِ مِن شَيءٍ مِنَ الأشياءِ في سَبيلِ الله دُعِيَ من أبوابِ الجَنَّةِ: يا عَبدَ اللهِ، هَذا خَيرٌ، فمَن كانَ من أهلِ الصَّلاةِ دُعِيَ من بابِ الصَّلاةِ، ومَن كانَ من أهلِ الجِهادِ دُعِيَ من بابِ الجِهادِ، ومَن كانَ من أهلِ الصَّدَقةِ دُعِيَ من بابِ الصَّدَقةِ، ومَن كانَ من أهلِ الصِّيامِ دُعِيَ من بابِ الصِّيامِ وبابِ الرَّيَّانِ. فقال أبو بَكْرٍ: ما عَلى هَذا الَّذي يُدعَى من تِلكَ الأبوابِ من ضَرورةٍ! وقال: هَل يُدعى مِنها كُلِّها أحَدٌ يا رَسولَ اللَّهِ؟ قال: نَعَم، وأرجو أن تَكونُ مِنهم يا أبا بَكرٍ )) [1647] رواه البخاري (3666) واللَّفظُ له، ومسلم (1027). .
قال
العيني: (فيه: أقوى دليلٍ على فضيلةِ
أبي بكرٍ)
[1648] يُنظر: ((عمدة القاري)) (16/ 183). .
7- عن
عَمْرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعثَهُ عَلى جَيشِ ذاتِ السَّلاسِلِ، فأتيتُهُ فقُلتُ:
((أيُّ النَّاسِ أحَبُّ إلَيكَ؟ قال: عائِشةُ، فقُلتُ: مِنَ الرِّجالِ؟ فقال: أبوها. قُلتُ: ثُمَّ مَن؟ قال: ثُمَّ عُمرُ بنُ الخَطَّابِ، فعَدَّ رِجالًا )) [1649] رواه البخاري (3662) واللَّفظُ له، ومسلم (2384). .
قال
النَّوَويُّ: (هَذا تَصريحٌ بعَظيمِ فضائِلِ
أبي بَكْرٍ وعُمرَ و
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنهم، وفيه دَلالةٌ بَيِّنةٌ لِأهلِ السُّنَّةِ في تَفضيلِ
أبي بَكْرٍ ثُمَّ عُمرَ عَلى جَميعِ الصَّحابةِ)
[1650] يُنظر: ((شرح مسلم)) (15/ 153). .
8- عن
مُحَمَّدِ بنِ الحَنفيَّةِ قال: (قُلتُ لِأبي عَلِيِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه: أيُّ النَّاسِ خَيرٌ بَعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قال:
أبو بَكْرٍ، قُلتُ: ثُمَّ مَن؟ قال: ثُمَّ عُمَرُ، وخَشيتُ أن يَقولَ: عُثمانُ، قُلتُ: ثُمَّ أنتَ؟ قال: ما أنا إلَّا رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمينَ!)
[1651] رواه البخاري (3671). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هَذا الحَديثِ دَليلٌ واضِحٌ عَلى إفصاحِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه بأنَّ
أبا بَكرٍ خَيرُ النَّاسِ بَعدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّ خَيرَهم بَعدَ
أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه عُمرُ رَضِيَ اللهُ عنه، وفيه أيضًا أنَّ
مُحَمَّدَ بنَ الحَنفيَّةِ فَهِمَ من عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه لو سَألَهُ عنِ الثَّالِثِ لقالَ: عُثمان؛ فلِذلك قال له: ثُمَّ أنتَ؟ فقال: ما أنا إلَّا رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمينَ)
[1652] يُنظر: ((الإفصاح)) (1/ 270). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (أمَّا خَشيةُ
مُحَمَّدِ بنِ الحَنفيَّةِ أن يَقولَ: عُثمانِ؛ فلِأنَّ مُحَمَّدًا كانَ يَعتَقِدُ أنَّ أباهَ أفضَلُ، فخَشِيَ أنَّ عَليًّا يَقولُ: عُثمان، عَلى سَبيلِ التَّواضُعِ مِنهُ والهَضمِ لِنَفسِه)
[1653] يُنظر: ((فتح الباري)) (7/ 33). .
9- عن
عُروةَ بنِ الزُّبَيْرِ قال: (قُلتُ لِ
عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ: أخبِرْني بأشَدِّ ما صَنَعَ المُشركونَ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: بَينا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُصَلِّي بفِناءِ الكَعبةِ إذ أقبَلَ عُقْبةُ بنُ أبي مُعَيْطٍ، فأخذَ بمَنكِبِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولَوى ثَوبَه في عُنُقِه فخَنقَهُ خَنقًا شَديدًا، فأقبَلَ
أبو بَكرٍ، فأخذَ بمَنكِبِه ودَفَعَ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال: أتَقتُلونَ رَجُلًا أن يَقولَ: رَبِّيَ اللهُ وقَد جاءَكم بالبَيِّناتِ مِن رَبِّكم؟!)
[1654] رواه البخاري (4815). .
10- عن عُمرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((أمَرَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن نَتَصَدَّقَ، ووافَقَ ذلك عِندي مالًا، فقُلتُ: اليَومَ أسبِقُ أبا بَكْرٍ إنْ سَبَقْتُهُ يَومًا. قال: فجِئْتُ بنِصفِ مالي، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما أبقَيتَ لِأهلِكَ؟ قُلتُ: مِثلَهُ. وأتى أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه بكُلِّ ما عِندَهُ، فقال: يا أبا بَكرٍ ما أبقَيتَ لِأهلِكَ؟ قال: أبقَيتُ لهمُ اللهَ ورَسولَهُ! قُلتُ: لا أسبِقُهُ إلى شَيءٍ أبَدًا )) [1655] رواه أبو داود (1678)، والتِّرمذي (3675) واللَّفظُ له. صحَّحه الترمذي، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1510)، والنووي في ((المجموع)) (6/236). .
قال ابنُ رسلانَ: (قال لهُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ما أبقَيتَ لِأهلِكَ؟)) هَذا السُّؤالُ ليُظهِرَ فضيلةَ
أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه لِلحاضِرينَ ولِغَيرِهِم)
[1656] يُنظر: ((شرح سنن أبي داود)) (8/ 80). .
11- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن أصبَحَ مِنكمُ اليَومَ صائِمًا؟ قال أبو بَكْرٍ: أنا، قال: من تَبِعَ مِنكم اليَومَ جِنازةً؟ قال أبو بَكرٍ: أنا. قال: فمَن أطعَمَ مِنكمُ اليَومَ مِسكينًا؟ قال أبو بَكرٍ: أنا. قال: فمَن عادَ مِنكمُ اليَومَ مَريضًا؟ قال أبو بَكْرٍ: أنا، فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما اجتَمَعْنَ في امرِئٍ إلَّا دَخلَ الجَنَّةَ )) [1657] رواه مسلم (1028). .
قال
عليٌّ القاريُّ: (هَذِه الخِصالُ ما وُجِدَت وحَصَلَت في يَومٍ واحِدٍ
((في امرِئٍ إلَّا دَخلَ الجَنَّةَ)) أي: بلا مُحاسَبةٍ، وإلَّا فمُجَرَّدُ الإيمانِ يَكفي لِمُطلَقِ الدُّخولِ، أو مَعناهُ: دَخلَ الجَنَّةَ من أيِّ بابٍ شاء)
[1658] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (4/ 1336). .
12- ومِن مَواقِفِ
أبي بَكرٍ العَظيمةِ قِتالُهُ لِلمُرتَدِّين بَعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال اللهُ تبارك وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ [المائدة: 54] الآيات.
قال ابنُ جُزَيٍّ: (
فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهم ويُحِبُّونَهُ... قيلَ: المُرادُ
أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ وأصحابُه الَّذينَ قاتَلوا أهلَ
الرِّدَّةِ، ويُقَوِّي ذلك ما ظَهَرَ من
أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنه مِنَ الجِدِّ في قِتالِهِم، والعَزمِ عليه حينَ خالَفَهُ في ذلك بَعضُ النَّاسِ، فاشتَدَّ عَزمُهُ حَتَّى وافَقوهُ وأجمَعوا عليه، فنَصرَهمُ اللهُ عَلى أهلِ
الرِّدَّةِ، ويُقَوِّي ذلك أيضًا أنَّ الصِّفاتِ الَّتي وُصِفَ بها هَؤُلاءِ القَومُ هيَ أوصافُ
أبي بَكْرٍ، ألا تَرى قَولَه:
أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ، وكانَ
أبو بَكْرٍ ضَعيفًا في نَفسِه قَويًّا في اللَّهِ، وكَذلك قَولُه:
وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ إشارةٌ إلى من خالَف
أبا بَكْرٍ ولامَهُ في قِتالِ أهْلِ
الرِّدَّةِ، فلَم يَرجِعْ عن عَزمِه)
[1659] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (1/ 235). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((لَمَّا تُوُفِّي رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكانَ أبو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، وكَفرَ من كفرَ مِنَ العَرَبِ، فقال عُمرُ رَضِيَ اللهُ عنه: كيفَ تُقاتِلُ النَّاسَ، وقَد قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أُمِرْتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقولوا: لا إلَهَ إلَّا اللهُ، فمَن قالها فقدَ عَصمَ مِنِّي مالَه ونَفْسَهُ إلَّا بحَقِّه، وحِسابُه عَلى اللهِ؟ فقال: واللهِ لأقاتِلَنَّ من فَرَّقَ بَينَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ؛ فإنَّ الزَّكاةَ حَقُّ المالِ، واللهِ لو مَنَعوني عَناقًا كانوا يُؤَدُّونَها إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَقاتَلْتُهم عَلى مَنعِها، قال عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه: فواللهِ ما هو إلَّا أن قَد شَرحَ اللهُ صَدْرَ أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، فعَرَفتُ أنَّه الحَقُّ )) [1660] رواه البخاري (1399، 1400) واللَّفظُ له، ومسلم (20). .